تونس: فلاحون من دون أرض وأراضٍ بلا فلاحين (2)

لم تتغير وضعية الأراضي "الميري" (المملوكة من الدولة) كثيراً بعد الثورة، فما زالت هذه تتصرف فيها كما تشاء. صحيح أن الكثير من الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها أيام حكم بن علي استُردّت وألحقت بـ "ديوان أراضي الدولة"، لكن هذا لم يجعل الملف أكثر شفافية أو نزاهة.
2016-10-19

شارك
بشار الحروب - فلسطين

لم تتغير وضعية الأراضي "الميري" (المملوكة من الدولة) كثيراً بعد الثورة، فما زالت هذه تتصرف فيها كما تشاء. صحيح أن الكثير من الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها أيام حكم بن علي استُردّت وألحقت بـ "ديوان أراضي الدولة"، لكن هذا لم يجعل الملف أكثر شفافية أو نزاهة. كما أن تعاقب الحكومات في وقت وجيز، بالإضافة إلى توجّهاتها النيوليبرالية، لم يمكّن من إطلاق نقاش جدي للمسألة، وإيجاد حلول عملية لهذا الملف.

من هو الفلاح؟

كلمة فلاح في تونس هي أصلاً غامضة وتجمع عدة فئات تحت راية واحدة رغم التناقضات الكبيرة بينها. فالعامل الفِلاحي الذي يشتغل بضعة أشهر في السنة بأجر زهيد يعتبر فلاحاً مثله مثل مستثمر يدير شركة إنتاج أو "إقطاعي" يمتلك مئات وآلاف الهكتارات. والشخص الذي يتقن أعمال الفلاحة ويشتغل بيديه هو أيضاً فلّاح مثله مثل وريث غني يأتيه خِراج أراضٍ لم تطأ أبداً أقدامه ترابها. ولكي نتبين أكثر حجم التفاوت في ملكية الأراضي الفلاحية في تونس، نورِد مقتطفا من مقالة كتبها الباحث التونسي منور العباسي (ونشرها في الأول من آب 2011 في جريدة "الشرق الأوسط"): "متوسط المستغَلات 10.5 هكتارات، 54 في المئة منها لها مساحة أقل من 3 هكتارات، وهذه تغطي قرابة 11 في المئة من الأراضي فقط، فيما هناك نسبة 3 في المئة من المستغلات لها مساحة تزيد عن 50 هكتاراً، ولكنها تغطي 34 في المئة من الأراضي". أغلب الفلاحين التونسيين فقراء إذاً ويمكن تقسيمهم إلى صنفين: الذين يمتلكون أراضي عائلية صغيرة والذين لا يملكون إلّا قوة عملهم وأجسادهم وبعض الخبرة. الفلاح التونسي، إذا ما كان محظوظاً بامتلاك قطعة أرض صغيرة، فإنه في أغلب الأحيان لا ينتفع منها كثيراً. فما بين دلال الطبيعة وضرائب الحكومة وجشع الوسطاء وغلاء مستلزمات العمل الفلاحي (آلات وأدوات، أسمدة وأدوية، أعلاف..) تضيع مداخيله القليلة. تخلّي الدولة عن مسؤولياتها وتقليصها أو إلغاؤها لمختلف أشكال الدعم والإرشاد للفلاحين الصغار عمّق أزمتهم ودفع الكثير منهم إلى هجر الأرض وفلاحتها، والتوجه إلى المدن للعمل في قطاعات أخرى. ففيما يحظى المستثمرون والملّاكون الكبار بامتيازات وتسهيلات من طرف الدولة (بدعوى التشجيع على الاستثمار وخلق مواطن شغل)، وعلى قروض ضخمة من البنوك العمومية والخاصة، فإن المزارع الصغير لا يمكنه الحصول على قرض صغير لعدم وجود ضمانات السداد! أما الفلاح الذي لا يملك إلا ساعديه فوضعيته أكثر تعاسة، إذ يجب عليه أن يشتغل بمقابل بخس في ضيعات الملاكين الكبار بدون تغطية اجتماعية وصحية، وفي ظروف تشبه ما كان عليه الإقطاع. وعندما يتقدّم في السن يصبح عاجزاً تماماً عن توفير قوته بحكم ضعف مستواه التعليمي وعدم قدرته على الاندماج في مواطن شغل أخرى، هذا إذا ما وُجدت أصلاً في المنطقة التي يقطنها. سياسة التمييز التي تعتمدها الدولة والتي تخنق الفلاحين الصغار لفائدة المستثمرين الكبار تخلق كل يوم أفواجاً من النازحين إلى المدن الكبرى، يتكدّسون في أحزمة الفقر المحيطة بها أملاً بتحسين وضعيتهم والحصول على عمل يمكنهم من إعالة أسرهم.

كرّ وفرّ..

كان من الطبيعي أن تمثّل الثورة فرصة تاريخية للعديد من صغار الفلاحين للمطالبة بتوزيع أكثر عدالة للأرض والثروة. لم ينتظروا قرارات ومجالس حكومية لكي يطالبوا بحقهم في هذه الأراضي التي يتداول عليها اللصوص منذ قرون. فمباشرة بعد هروب بن علي وسقوط منظومة حكمه، عمَد الكثيرون من الفلاحين بدون أرض إلى الاستيلاء على بعض تلك الأراضي ومنع كبار المستثمرين الخواص من استغلالها. العديد من هؤلاء "المعتدين" (الذين تتمّ شيطنتهم في وسائل الإعلام القريبة من السلطة) هم في الحقيقة أصحاب الأرض الأصليون، أجبرهم الفقر والاستغلال وجبروت الاستعمار و "الدولة الوطنية" على حد سواء، على العمل كأجراء في أراضي أجدادهم وقبائلهم. في بداية الأمر، كان الأمر يشبه ردة الفعل الغاضبة، إذ تمّ تخريب العديد من الضيعات الواقعة على أراضي دولة، وفي بعض الحالات الاستيلاء على محاصيلها ومنع مستأجريها من إعادة استغلالها. وبحكم أنّ جهاز الدولة كان في حالة ارتباك كبيرة، خصوصا أنّ ميزان القوّة لم يكن في مصلحته، فقد تمّ التغاضي عن هذا الأمر ولم ترسل قوات الأمن للتدخل واسترجاع الأراضي.

قطاف الزيتون في قرية مرناق جنوب تونس (تصوير: فتحي بلعيد-أ ف ب)

تركزت عمليات الاستيلاء و "التخريب" التي يقوم بها صغار الفلاحين في ثلاث مناطق أساسية: شمال البلاد حيث توجد أكثر الأراضي خصوبة، الشريط الساحلي، وخصوصا مدينة صفاقس حيث توجد ملايين أشجار الزيتون، وفي أقصى الجنوب حيث توجد واحات التمور. وتقدر الأرقام الرسمية حجم الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها من طرف المواطنين بعد الثورة بقرابة 68 ألف هكتار. بعد انتخابات 2011 واسترجاع الدولة شيئا فشيئاً لـ "هيبتها" واستقرارها، تناقصت عمليات الاستيلاء لتتوقف تقريبا مع نهاية 2013. فمن جهة لم تعد الدولة تتوانى عن استعمال القوة لاسترداد "أملاكها"، ومن جهة أخرى تبين أن الاستيلاء على الأراضي بهذا الشكل ليس له جدوى كبيرة، فمن المستحيل تسجيلها في السجل العقاري أو تقديمها كضمان للحصول على قروض وتوفير حاجيات العمل الفلاحي. كما أنّ أغلب الفلاحين غير قادرين على استغلال تلك الأراضي فرديا أو حتى عائليا، ما يستوجب إيجاد صيغ أخرى. لذا توجه الكثيرون نحو الحلول القانونية وذلك عبر الضغط على الحكومة لتقوم بتوزيع جزء من أراضيها على الشباب العاطلين من العمل، ودعمهم لكي يتمكنوا من إعمارها والاستنفاع منها.
.. لحدّ اليوم، بقيت الدولة على تعنّتها، وهي ترفض التنازل في تلك الأراضي، وأقصى ما تعد به هو تسهيل شروط استئجارها، خصوصاً بالنسبة للشباب المتخرجين من شِعب علمية ذات علاقة بالفلاحة. ضعف الوعي والتنظيم لدى الفئات المعنية يجعلها غير قادرة على تشكيل قوة ضاغطة حقيقية، خصوصاً أنّه لا يوجد دعم من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ولا حتى تغطية إعلامية منصِفة. على الرغم من كلّ شيء، هناك تجارب رائدة في مجال الاستغلال الأهلي لأراضي الدولة والتسيير الذاتي لها، نجدها خصوصا في أقصى الجنوب التونسي حيث توجد واحات التمور...

* الجزء الثالث: تجارب تسيير ذاتي في قلب الصحراء، "واحات جمنة" مثالاً

مقالات من تونس

للكاتب نفسه