بين الاحتياج وبخس الأجر

نساء مكدّسات مع الفجر في شاحنة مكشوفة، ومثله عند الغروب، وقد بدا عليهن الإرهاق جارحاً للعين في المدن ولكنه منظر مألوف في المناطق الداخلية للشمال الغربي التونسي. نساء ريفيات عاملات في الحقول، و"محظوظات" لأنهن قُبلن للعمل بينما عادت الكثيرات على أعقابهن لأن الفلاح لم يكن بحاجتهن.
2016-10-17

شارك
نساء يعملن في قطاف الزيتون / فتحي بلعيد - تونس

نساء مكدّسات مع الفجر في شاحنة مكشوفة، ومثله عند الغروب، وقد بدا عليهن الإرهاق جارحاً للعين في المدن ولكنه منظر مألوف في المناطق الداخلية للشمال الغربي التونسي. نساء ريفيات عاملات في الحقول، و"محظوظات" لأنهن قُبلن للعمل بينما عادت الكثيرات على أعقابهن لأن الفلاح لم يكن بحاجتهن.. والنساء العائدات لا يكنّ بذلك قد أضعن الوقت في الاستيقاظ مبكراً والانتظار دون جدوى فحسب، ولكنهن أيضا أضعن قوت يومهن هنّ وعيالهن. فتأمين طعام الأسرة غالباً ما يكون مسؤوليتهن. وموكلٌ إليهن أيضاً الاعتناء بأفراد العائلة رضعاً أو أطفالا يذهبون للمدارس أو كباراً في السن. والاعتناء بالمريض والسهر على راحته في مجتمع تُعتبر فيه زيارة الطبيب ترفاً يعجز الكثيرون عن توفيره.
تقدر نسبة المرأة الريفية بـ60 في المئة من مجمل سكان الأرياف و35 في المئة من مجموع عدد النساء. ولا تشذّ تونس عن باقي دول العالم في كون هذه الفئة تمثل بامتياز الفئة الأكثر فقراً والأشد حرماناً بين فئات المجتمع، على الرغم من أن المرأة الريفية العاملة في الحقل تحديداً تساهم بشكل رئيسي في تأمين الأمن الغذائي، وتمثل  فئة ناشطة لها مكانها ودورها الفعال في اقتصاد البلاد بصفة عامة وفي  اقتصاد الأسرة والاقتصاد المحلي بشكل خاص.

شاقٌ بمردود قليل

تضطر نساء الريف للعمل لتوفير لقمة العيش في ظروف غاية في القسوة مقابل أجر زهيد. وتؤكد دراسة أجريت في تونس العام 2014 أن قرابة 80  في المئة من النساء العاملات في الحقول لا تنجحن في توفير الكفاف لأسرهنّ رغم ساعات العمل الطويلة والشاقة، التي تفوق اثني عشر ساعة أحيانا كثيرة. والمفارقات في عمل المرأة الريفية كثيرة وغريبة. فالدراسات تؤكد أن مردود المرأة يفوق مردود الرجل، وعلى الرغم من ذلك فإن أجر الرجل أعلى، ناهيك عن كونها لا تحصل على الحد الأدنى من الأجور، على الرغم من أن الدستور التونسي نص صراحة على المساواة في الأجر بين الرجال والنساء. غير أنّ القوانين التي يسنّها المشرّعون أمر، والواقع على الأرض أمر آخر وتبقى حبراً على ورق إلى أن تجد من يفرض تنفيذها، خاصة وأن الموضوع على درجة عالية من الحساسية والجدية.
المفارقة الثانية التي لا تخطر على البال، أنّ الأعمال الشاقة  من حرث وقطف المحاصيل الزراعية والإشراف على تربية الدواجن والماشية تناط بالإناث لأن أغلب  الذكور يستنكفون عنها ويترفعون عن أدائها. وبالمقابل يكون عمل الرجل أيسر. وعلى سبيل المثال فإن المرأة تنجز عملية الحصاد يدوياً في حين يستعمل الرجل الآلات المخصصة لذلك أو تسند له مهمة الإشراف على عمل النسوة ومراقبتهن.. علاوة على السطو على أجرها داخل البيت وتعريضها للعنف. فتكون المرأة بذلك فريسة للاضطهاد في العمل بهضم حقوقها، وداخل الأسرة  بسلبها منهم وتسليط العنف عليها.

صحيح أن مجلّة الأحوال الشخصية التونسية تمنح المرأة امتيازات لا تتمتع بها النساء في بلدان عربية أخرى، ولكن نساء الحضر هنّ من ينعمن بها، وتظل المرأة الريفية محرومة منها، وقد لا تكون واعية أو على دراية بها من الأساس، كون 35 في المئة من النساء الريفيات أمّيات لا يحسنّ الكتابة أو القراءة. وأكثر النسبة الباقية حصلن على نصيب يسير من التعليم ومهددات بالارتداد إلى الأمّية، مما يؤثر سلباً على مجتمع تعتبر فيه المرأة الركيزة الأساسية للأسرة، بينما هي فريسة سهلة غير قادرة على الدفاع عن حقوقها وحفظ كرامتها  في البيت أو العمل.

المشاركة في الحيز العام

أثبت سبر للآراء أجراه "المركز التونسي المتوسطي"  في تونس على 5 ولايات هي زغوان والقصرين وتوزر وقفصة وجندوبة، وشمل 5200 امرأة - في إطار الاهتمام بمشاركة المرأة في انتخابات 2014 - أن معظم النساء لم يشاركن في انتخابات ما بعد الثورة  سنة 2011 كون الكثيرات لا يملكن بطاقات هوية، ولهذا دلالاته العميقة في مدى التهميش الذي تعاني منه المرأة. وأمّا الباقيات فقاطع عدد هام منهن هذه الانتخابات يأساً من سياسة أهملتهن لعقود طويلة وتجاهلت حقوقهن في المساواة في الأجر والتغطية الاجتماعية والصحية والعلاج، حيث تضطرّ المرأة  للمشي على قدميها 5 كيلومترات على الأقل للوصول لأقرب مستوصف. وقد خلص سبر الآراء المذكور أن عدم امتلاك النساء الريفيات بطاقات هوية أمر خطير وخسارة فادحة لأصوات انتخابية كان من الممكن أن تحدث فرقا و تقلب الموازين السياسية!
وعلى الرغم من أن الدولة كانت قد اتخذت  بعض الإجراءات لفائدة المرأة الريفية، لعل أهمها إسناد قروض صغرى لها لبعث مشاريع تساعدها على توفير دخل مستقرّ، وحققت بعض النساء نجاحاً في تلك المشاريع، ولكنها تظل حالات خاصة واستثنائية لا يقاس عليها، ولا ترتقي لمستوى الحلول الجذرية الواجب اتخاذها. ولدى سؤال إحدى الفتيات عما تريد قوله بمناسبة "عيد المرأة" أجابت: "عن أي عيد يتحدّثون وأنا أمضي الصيف متنقلة من حقل لحقل، وأعمل ساعات طويلة تحت أشعة الشمس المحرقة لأساعد بجزء من أجري في مصاريف بيتنا، وأدخر الجزء الباقي لأسدد مصاريف دراستي؟ عن أي عيد للمرأة يتحدثون والنساء هنا يأكلن إن عملن ويجعن إن مرضن، خاصة وأنّ بينهن طاعنات في السن!".

 

مقالات من تونس

للكاتب نفسه