كان أبو علي يقف أحيانا أمام كرسيّه، يتلفّت بعنقه إلى اليمين والشمال، مثل زرافة، دون تغيير في ملامح وجهه، يعاود الجلوس، يزرع نظره في قلب الزهور الملونة، أو يتابع نحلة تطن بجناحيها فوق زهرة قرنفل.
يتنقل علي بين الأصص حاملاً طلبات الزبائن، يقول لكلّ زبون إنّه يبيع بسعر الجملة تقريبا، بسبب نيته بيع كل ما في المشتل، لأنه اتفق مع صاحب الأرض على أخذ حصة من قطعة الأرض بشرط تنازله عن عقد الإيجار القديم. مساحة تكفي لبناء عمارة مستطيلة بسبب صغرها، لكنها تفي بحلمه بتأجير الشقق والعيش برغد، دون بذل أي جهد يذكر. بصق علي على أصص الزهور تأكيداً على قرفه من العمل المضني الذي لا يجلب خبز يومه.
نظر أبو علي نحو البصاق الذي علق في ورقة زهرة، قام من كرسيّه حاملا منديلا ورقيا وجفف ورق الزهرة، مربتا عليها بأصابعه العجوز متأسفا لها عما بدر من ابنه الغليظ القلب. عاد وجلس على كرسيّه
ملتفتا برقبته التي دارت مع نظراته تمسح ألوان الزهور والنباتات.
بعد شهر واحد، كان أبو علي واقفا في هيكل شجرة الإسمنت التي حلّت مكان المشتل، وقف في الزاوية التي كانت تحتل طاولته وكرسيّه، وقف دون فنجان قهوته، وقد تهدلت رقبته على صدره، وسال مخاطه المغبرّ على شفتيه. لم يسارع إلى مسحها، نامت نظراته على قطع الحديد والخشب والمسامير المتناثرة، ضاعت أنفاسه تحت ضجيج الحفر والدق والصبّ.
بعد شهر آخر، سارت جنازة حاملة جثمان أبو علي نحو مقبرة القدر، ودفن في قبر فرشوه بغطاء من إسمنت وشاهدة من رخام أسود. وضعوا أمامه أصصاً فخارياً مليئاً بنباتات جفت أوراقها وسقط بعضها على بصاق أحد المارة. ولم تمتد يد أبو علي لمسح البصاق من فوق قبره.
تتحول رام الله إلى مقبرة كبيرة من أشجار الإسمنت، تُنزع كل نبتة خضراء، يهدم كل بيت له "بلاكين" مع عقود عربية الهوية.
تسير في شوارع لا أرصفة لها، احتلتها عمارات اقتلعت جدرانها أشجار الزيتون والخروب والبلوط، وقتلت العجائز الذين زرعوها، حسرة على أيام زمان وحلاوة زمان وزيتون زمان وهواء زمان وبرقوق زمان الذي كان ينتشر تحت أشجار الزيتون، ويُقْطف فقط لِيلوِّن بيضاً مسلوقاً لعيد "خميس الأموات"، ليأكله الصغار مع الخبز الذي اكتسب لونه الأصفر من الزعفران الأصلي الذي استُورِد على ظهور الحمير من بلاد فارس.
في الدولة المؤقتة، تحولت مفردات مثل الذاكرة والمكان والتراث وحرية التنقل والعودة... إلى ممنوعات يعاقب عليها القانون الممول والمصنوع في دكاكين الدول المانحة المنتشرة في المكان والأرواح مثل الطاعون، تُرسِل كل من بقيت من الأرواح المنهكة إلى جوار أبو علي التي زهقت روحه تحت شجرة إسمنت، افتتح في جوفِ جذعِها الإسمنتي مقهى يَشرب فيه كل من انتفع بأموال المانحين.
لتصل إلى "محفل قلنديا الدولي" عليك السير في شوارع رام الله، العلبة الإسمنتية، وعليك تفادي عجلات ثلاثة آلاف سيارة تاكسي إلى جانب خمسين ألف سيارة أخرى، جميعُها تنبح بأبواقها الغاضبة على المشاة الذين لا يملكون أجرة ركوبها، كما لا يملكون الحظ بالسير على شوارعِها لضيقِها بِهم. تسير بينهم وهم يشتمون ذاكرة مهندس المدينة الذي غاب عنه أن المدن لها أرصفة، لا تبعجها أشجار حديقة بضيق القبور، احتلّها صاحب العمارة طمعا بمتر إضافي على حساب عجوز باعوا شجرة التوت التي كانت عظامه تستكين في ظلها الأخضر.
تدخل باب "مركز خليل السكاكيني" الأديب المعلم، وتكاد تسمع نشيد الثورة العربية الذي كتبه خليل بدمه الفلسطيني وبعروبته المسيحية، "يا علمي ـ يا علمي
يا علم العرب أشرق واخفق في الأفق الأزرق يا علم،
من نسيج الأمهات في الليالي الحالكات يا علم، يا علم،
لبنيهن الأباة كيف لا نفديك؟ كل خيط فيك
دمعة من جفنهن خفقة من صدرهن قبلة من ثغرهن يا علم...".
تجتاز عتبة البوابة وتسمع صوت جمانة عبود إحدى الفنانات المساهمات في محفل قلنديا الفني، تهمس من "حصار حصارها" بمناشدة للحوت ألا يأكل القمر، لأنه بضوئه تغتسل جنّيات عيون الماء التي لحقت بهن، مع عيسى فريج رفيقها في البحث وعشق العيون المسكونة بحكايات شخوصها محوكة من خيوط استعارها خليل السكاكيني ليكتب فيها نشيد علم الثورة العربية الذي انطلق من مكة المكرمة.
ترى مجموعة من صناع الفن الفلسطيني، ربما هم أحفاد أو امتداد لروح خليل، الشاعر المعلم، ها هو يزن الخليلي الذي يحمل الاسم نفسه لمن رسم الطائرة المكسورة الجناحين، وها هي لارا الخالدي تنظر حولها كطفلة تائهة على رمال البحر. وربما هم امتداد لروح محمود درويش الذي استعاروا من أشعاره "هذا البحر لي" للتعبير عن طموحاتهم الإنسانية، كما يقول جاك برسكيان "ذلك الشاعر المبدع الذي ربط قضيتنا بقضايا الشعوب المضطهدة في العالم، والذي أنسن القضية الفلسطينية، وحوّلها ببساطة إلى قضية كونية تهم كل من ينتصر لقيم الحرية والعدالة".
نحمل تعويذة درويش الكونية، على ظهر "الحصان الوحيد"، ونخبّ بين الخيوط الملونة التي تطرز أحلام سليمان منصور، يلتقي مع خالد حوراني وسليم تماري في حلمهما عن مشهد البحر في الوجدان الفلسطيني. يسير الموكب الفاضل على الأمواج نحو المتحف الفلسطيني الذي يفتح بابه على تاريخ الحكايات أمام العالم.
يسير الموكب في شوارع رام الله وهو يقفز فوق القمامة التي قذفت بها أيدٍ ضاقت بها الدنيا فضيّقت دنياها أكثر برائحة قمامتها.
تحوك النساء الأمواج على عجل، ليسبح فيها الموكب على حاجز "قلنديا"، يتقدمهم الحصان الوحيد الذي تركه الهندي الأحمر الأخير في عُهدة الشاعر، بعد أن ألقى خطابه الأخير لشيخ قبيلة واشنطن الأبيض، ليقود محمود درويش شعبه الفلسطيني المحتل الأخير إلى عاصمة صلاح الدين.
تصب الأمواج المنسوجة حول أسوار القدس، يجفل الحصان عند زعيق سيدة أميركية من أمام ملعب تنس بلاستيكي الحشيش، لصقوه على أرض تتوسط قمامة البلدة القديمة في مدينة القدس التي اتصلت للتو ببحر أمواجه آتية من مطار قلنديا المقصوص الجناح: "ألا تريدين للأطفال مكاناً ليلعبوا فيه؟"، قالتها بقرف جاهل. ترد عليها السيدة مريم، إنسانة من فلسطين: "لا يجيد أطفالنا لعبة التنس، ولا يملكون ثمن المضرب أو ثمن الكرة، ولا يتناسب مع القمامة أو الأسوار القديمة"!
يسير موكب "هذا البحر لي" نحو غاليري "المعمل" على مرمى حجر من الباب الجديد الذي احتفى بعودة قطع موزاييك من أستراليا نهبتها من غزة قوّات أسترالية... من كنيسة اختبأت تحت أمواج بحر غزة. وكان الفنان "توم نيكولسن" الإنسان لهم بالمرصاد، لاحقها وأعاد بناءها حجراً على حجر بين أريحا وسيدني وغزة والقدس، إلى أن وصلت سالمة إلى شواطئ محفل قلنديا الدولي، وسط بحر يمتد إلى بيروت.
بحر قلنديا يدعوكم للسباحة مع حصانه الوحيد وطائرته المكسورة الجناح، والهندي الأحمر العائد وشاعر الكون وباقة وردٍ من أبو علي الرّاحل، وكوكبة من الفنانين الذين ورثوا الحكايات والجرح والألم وزرعوها بحراً في مطار قلنديا، الذي وافقت الدول المانحة على إغلاقه أمام الشعب المحتل الأخير باسم الأمن والأمان والإيمان والحرية والديموقراطية... ونصبوا لرموزه محرقة امتدت من بغداد إلى اليمن والشام، تحولت إلى قبور لا تشبه حتى قبر أبو علي الذي جفت على إسمنته الزهور.