يزحف العام الدراسي الجديد إلى بيوت الناس كما زحف سابقه. يدخلها من رواقها الخلفيّ ثقيلاً، متخلّصاً من عطلة العيد الطويلة، ومن عَجَلةِ شهر المؤونة (كلاهما جاء في أيلول/ سبتمبر). يفتح الخزائن والأدراج، وينقّب فيها عمّا تبّقى من أوراقٍ نقدية. فالعودة إلى مقاعد الدراسة ليست بالمجّان، ثمّة كلفة يحسبها محدودو الدخل كاللّطمة، تُوجِع، وتترك أثرها واضحاً على برنامج إنفاقهم المقنّن. كما لم يعُد الطلاب السوريون في مرحلة تعليمهم الأساسيّة يتعلّمون منهجاً دراسيّاً واحداً، ثمة ثلاثة مناهج أنتجتها الظروف القائمة في البلاد منذ سنوات. وليست كلفة التعليم الراهنة هي أكثر التفاصيل القاتمة التي يصطحبها الطلاب معهم إلى مقاعد دراستهم، فلعلَّ ضحالة اللحظة الراهنة وعقمها المعلَن هو أكثر ما يستبّدُ بهم. إذ يحاصرهم الحاضر بمعطياته الملتبسة، فبعضهم لا يزال مرتبطاً بالمناهج الرسميّة، يردّد كلّ صباح شعاراتٍ تمجّد النظام والحزب القائد، وآخرون تناوشهم مناهج مرتجَلة في مخيمات النزوح والإيواء، وفئةٌ ثالثة صارت تتعلّم مناهج "الدولة الإسلاميةّ" التي اخترعتها داعش في الرقة لإعادة برمجة الجيل الناشئ بالمقولات "الجهاديّة".
الغلاء هاجس التعليم في مناطق النظام
يهجسُ القاطنون مناطقَ سيطرة النظام بالغلاء وكأنه رأس المشكلة، يمضون مثقلين بنفقات العام الدراسي الجديد بعدما ارتفعت كلفة تجهيز الطالب بنسبة 35 في المئة مقارنةً بالعام الماضي، بحسب تصريحات "جمعية حماية المستهلك" في دمشق وريفها، وهذا يشمل أسعار القرطاسيّة واللباس المدرسي وما يستتبعه، ثم يُضاف إليهما ارتفاع أسعار المواصلات. لكن وعلى الرغم من الخسارة التي كابدها قطاع التعليم خلال السنوات الماضية والبالغة مئة مليار ليرة سورية، كما تدلّ أرقام وزارة التربية، وتصفية قرابة خمسة آلاف مدرسة بآلة الحرب.. إلا أنَّ الربحيّة في هذا القطاع لم تتأذَّ كثيراً، إذ واظبت المدارس الخاصة على رفع قيمة أقساطها السنويّة. وتشير الإحصاءات الرسميّة إلى تواجد 1666 مؤسسة تعليميّة خاصة في سوريا، منها 276 مؤسسة في دمشق، و484 مؤسسة في ريف العاصمة، وقد تصل قيمة القسط السنوي في المدارس الخاصة داخل منطقة المزّة بدمشق إلى 150 ألف ليرة، فيما تبدأ أقساط مرحلة الحضانة والتحضيري بنحو 50 ألف ليرة، لكنها تصل في روضة "مونتيسوري الدولية" إلى 145 ألف ليرة.
لم تغيّر الحرب شيئاً من هيكليّة احتكار الثروة، بل حدث العكس، إذ ازداد معها ثراء الأغنياء، وازداد بؤس الفقراء، فيما جرى هضم الطبقة الوسطى كلّياً، فصارت المدارس الخاصة عنواناً يقصده الطلبة الأغنياء دون سواهم، وبقيت مدارس الدولة تأوي الطلبة الفقراء وهم السواد الأعظم. ويروي الواقع الموضوعي سيرته الجديدة مقارناً بين أيادي الطلبة، بين تلك التي تحرص على حمل أحدث أجهزة الاتصالات الذكيّة، وبين التي تلتصق بحقيبةٍ مدرسية لا تزال تلازمها من العام الدراسيّ الماضي، بين ثيابٍ مدرسيّة بألوان طازجة، وأخرى تخلّصت من اللون بعد إعادة تدويرها على الأجساد.
مناهج للطلاب المحاصَرين والنازحين
يتقلّص نصيب الطلبة من اهتمام الدولة بشؤون تعليمهم كلّما ابتعدوا عن المناطق التابعة لسلطة النظام، في علاقةٍ جدليّةٍ واضحة. هذا العام تحاول السلطات الرسميّة بالتعاون مع الـ "يونيسيف" توزيع مليون حقيبة مدرسيّة على الطلاب من الصف الأول وحتى الصف الرابع، كما تنوي وزارة التربية افتتاح صفوفٍ خاصة بالطلاب المنقطعين عن الدارسة جرّاء ظروف النزاع المسلّح، على أن يتم تدريسهم ما يسمّى بمناهج التعلم السريع ("الفئة ب") أو ما يعرف بنظام دمج عامين دراسيين بعامٍ دراسيٍّ واحد. وهذا يشمل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والخامسة عشر، ولم يلتحقوا بالمدرسة في ما مضى أو سجّلوا تسرّباً دراسيّاً لعامٍ واحد.
غير أن المشكلة الأساسيّة التي تُحرج السلطة القائمة تكمن في المناطق الموالية لها والخارجة عن سيطرتها عسكرياً. فتلك تضيعُ بين جبهتين، ويضيع مستقبل أبنائها التعليمي. لذا تناور وزارة التربية بحلولٍ تجريبيّة كأن توزّع مناهج للتعلّم الذاتي على الطلاب المحاصَرين، أو على الذين ينتسب سكنهم إلى مناطق الاقتتال فلا يجدون مدارس مؤهلة لاستقبالهم. تأمل الجهات الرسميّة إعادة أولئك الطلبة إلى أحضان المناهج التعليميّة وتقليص توجّههم المبكر إلى مزاولةِ أعمالٍ مرتجلة لإعالة أسرهم المنكوبة بالفقر وتبعاته، أو لمنعهم من الانخراط في منطق العسكرة القائم في كلّ البلاد. تحاول وزارة التربية هنا إيجاد صيغ تعاونٍ مع منظماتٍ أهلية شبه رسميّة كالهلال الأحمر السوري، تُعِينُها على تنفيذ بعضٍ من رؤاها، وعلّها أيضاً تضفي شيئاً من الحياة على مقترحاتها تلك.
هذا العام حاولت الحكومة السورية الاستئناس ببعض المكتسبات الواقعيّة على الأقل، عندما صرّحت بأنها أتمّت تأهيل 400 مدرسة متضررة، ووزّعت 20 ألف مقعد مدرسي على كلّ المحافظات السوريّة تقريباً. وتعتزم وزارة التربيّة توزيع وجبة غذائية على الطلّاب بالتعاون مع منظمة الأغذية العالمية، كما أنها أنجزت مجموعةً من دورات الدعم النفسي للمرشدين الاجتماعيين والمعلمين، ثم أردفتها بدوراتٍ أخرى هدفت إلى التوعية بمخلفات الحرب المتفجّرة، ودورات إضافيّة تخصصت بموضوع التعلّم النشط استفاد منها 15 ألف مدرّس.
غير أن الأطفال السوريين في مخيمات اللجوء هم الأكثر تضرراً من سواهم، بعدما صاحبتهم جلافة الحياة طيلة الأعوام الماضية، تهزُل حظوظهم في تلّقي تعليمٍ لائق وهم يعيشون تحت أقمشة الخيام طيلة السنة. ومن المرجّح أن يصل عددهم في نهاية العام الحالي إلى 2.5 مليون طفل وفق تصريح المبعوث الخاص للأمم المتحدة لشؤون التعليم، وهذا يتطلّب 750 مليون دولار كلفة برنامج تعليمهم المزمع تنفيذه في الأردن ولبنان وتركيا، من خلال 1600 مدرسة.
"داعش" تصير مناهج دراسيّة
لم تنشأ "داعش" وتتوسّع في سوريا كمصادفة أتى بها انحراف مسار الصراع الدائر في البلاد حول إسقاط النظام القائم. إذ كَبُرَ التنظيم بمباركة دوليّة غير معلنة، وصار له بالرقة السوريّة مناهج تعليمية حلّت بديلاً لمناهج التعليم الرسميّة "الكافرة". وهذا يحثُّ مزيداً من إنبات "الراديكاليّة" الدينيّة في الجيل الناشئ. وبحسب الحملة الإعلامية التي اندرجت تحت اسم "الرقة تُذبح بصمت"، فإن التنظيم المتطرّف قام بإغلاق المدارس الحكوميّة، وحرق أوراق ووثائق التلاميذ الرسميّة، كذلك ألغى تدريس الفيزياء والكيمياء والفلسفة وعلم الأحياء والتربية الدينية المسيحيّة، وأعاد النظر في مقررات التربيّة الإسلاميّة والرياضيّات والفنون واللغة الأجنبيّة. وتحدّثت الحملة عن مناهجٍ دراسيّة جديدة أصدرها التنظيم، وألزم بتعليمها، مولِياً أهميةً خاصة بمقرريّ الفقه واللّغة العربيّة، وبالتربيّة البدنية من خلال إلزام الطلاب بساعاتٍ من الرياضة اليوميّة، وأخرى للتدرّب على استخدام الأسلحة الخفيفة. وعلى حد وصف حملة "الرقة تُذبح بصمت"، فإن مدارس المحافظة تحوّلت إلى معسكراتٍ تدريبية يديرها تنظيم داعش. حتى أن المدرّسين الباقين في الرقة خضعوا لدورات تأهيل شرعيّ تساعدهم في تلقين المناهج الجديدة، تليها دورة "استتابة" يتبرّأ بعدها المدرّس من تعليم مناهج النظام السوري. كما لم تقف طموحات التنظيم عند حدود دحر منظومة التعليم الأساسي والثانوي، بل بلغت حدَّ إغلاق الجامعات في المحافظة المنكوبة، وألغى اختصاصات مثل الحقوق والشريعة الإسلاميّة، لكنه سمح في كليّتين بتدريس الطب والتمريض نظراً لحاجته المتنامية للمتخرّجين في هذين الاختصاصين بعد تقليص سنوات الدراسة فيهما إلى النصف.
يفكّر تنظيم داعش بصورةٍ براغماتيّة خالصة. لديه نظريّة ولديه كل مقوّمات التطبيق بعد اطمئنانه إلى مسيرة نموّه وتجّذره عاماً بعد عام، فيما تستقبل وزارة التربيّة السوريّة العام الدراسي الجديد بإرسال 21 مليون رسالة نصيّة على الأجهزة الخلوية في حملتها الاستعراضية "العودة إلى المدرسة"، وكأن تلك العودة تنقصها مثل تلك الحملة.
لا أحد يريد توثيق المعطيات الجديدة لكارثة التعليم في سوريا، حيثُ لا يجوز اختزال طلاب سوريا بأولئك المسجّلين في مدارس النظام الرسميّة والخاصة، ربما لأن الإقرار بتشتت منظومة التعليم الأساسيّة والانحرافات الموجعة التي ألمّت بها، والتي طالت جزءاً من أطفال سوريا، هو كارثة يصعب على الجميع تصديقها، أو حتى الاعتراف بها.