الاعتداءات على أفارقة جنوب الصحراء في تونس: ضغط فغليان فانفجار..

يتوقع انفجار آثام وجرائم أربعة قرون من السياسات الغربية في أفريقيا (تجارة الرقيق، استعمار مباشر، نهب الثروات والموارد الطبيعية، استعمار جديد، دعم الديكتاتوريات والميلشيات الدموية، تكريس الهيمنة والتبعية) في وجه ضحايا لا ذنب لهم: دول شمال أفريقيا - ومنها تونس - التي كانت كلها في مرحلة ما مستعمرات أوروبية وما زالت إلى اليوم تعاني من آثار الهيمنة الغربية متعددة الأشكال.
2023-07-13

شارك
مهاجرين أفارقة في وسط مدينة صفاقس بعدتفجؤ اعمال العنف، أ.ف.ب.

مساء الاثنين 3 تموز/يوليو 2023 لقي مواطن تونسي يقطن مدينة صفاقس (270 كم جنوب العاصمة تونس) مصرعه على أيدي مجموعة من المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء. تلقى المواطن البالغ من العمر 42 عاماً ضربات على رأسه بالحجارة قبل أن يُجهز عليه قتلته طعناً بسكين. ألقي القبض على ثلاثة منهم في حين فر الرابع، قبل أن تنطلق أعمال عنف في عدة مناطق من المدينة، خاصة الأحياء الشعبية، استهدفت المهاجرين الأفارقة باختلاف جنسياتهم ووضعياتهم القانونية: طرد من المنازل والأحياء التي يسكنونها، ضرب، احتجاز وتسليم إلى قوات الأمن، مصادرة أموال وهواتف، تهديدات مختلفة... لم تتدخل قوات الأمن بسرعة، ولم تكن حازمة في تهدئة الأمور وحماية المهاجرين الذين اضطر كثير منهم إلى الفرار من المدينة - عبر القطار وسيارات النقل بين المدن وحتى على الأقدام - باتجاه محافظات أخرى على رأسها العاصمة تونس، في حين نقل بعضهم إلى المستشفى لمعالجة آثار العنف، أو تجمعوا في مركز المدينة ونقاط أخرى تحت حراسة قوات الأمن التي ألقت القبض على بعضهم ورحلتهم نحو الحدود الغربية (الجزائر) أو الشرقية (ليبيا).

بما أن أعمال العنف طالت فئة بعينها على أساس لون بشرتها فيمكن أن توصف بالعنصرية. يمكن أن ينتهي الخبر هنا، كما فعلت عدة وسائل إعلام، خاصة الأجنبية منها، لتختزل الأمر. هذه السهولة مغرية، لم يسلم منها حتى سياسيون وإعلاميون وناشطون مدنيون تونسيون سقطوا في فخاخ الاختزال والوصم والقفز فوق واقع البلاد.

فلنعد قليلاً إلى الوراء..

في 26 حزيران/يونيو 2023 نظم المئات من سكان مدينة صفاقس مظاهرة أمام مقر الولاية (المحافظة) للتعبير عن غضبهم من تسارع وتيرة تدفق المهاجرين القادمين إلى المدينة من دول أفريقيا جنوب الصحراء، دون أن تكون هناك أي بيانات رسمية حول أعدادهم وجنسياتهم ووضعيتهم القانونية وحالتهم الصحية وحتى هوياتهم. رفعت شعارات تنادي بـ "إغاثة المدينة" وحماية "الأمن القومي" وترحيل المهاجرين غير النظاميين أو تسوية وضعيتهم، وإعادة فرض التأشيرة على مواطني دول أفريقيا جنوب الصحراء المعفيين منها، وإخضاع المهاجرين لفحوص طبية (خوفاً من الأمراض المعدية). صدح المشاركون في المظاهرة بما يعبر عنه جزءٌ هامٌ من سكان المدينة في حديثهم اليومي وحتى على وسائل التواصل الاجتماعي منذ أشهر طويلة.

قبل انفجار الأوضاع بمدة قصيرة قام الرئيس قيس سعيّد بزيارة فجائية إلى صفاقس واتجه إلى منطقة "باب الجبلي" (رمز المحافظة وأحد الأبواب التاريخية للمدينة العتيقة)، حيث يكثر وجود المهاجرين الأفارقة، وتحدث إلى بعضهم مؤكداً أن حل ملف الهجرة "لا يمكن أن يكون إلا إنسانياً وجماعياً ومبنياً على مقاييس قانونية" وأنه "لا يجب أن يكون على حساب الدولة التونسية" التي لا ترضى "بدور الحارس لفائدة دول أخرى". ما قاله الرئيس في هذه الزيارة كان أقل حدة من خطاب 21 شباط/فبراير 2023 الذي تحدث فيه عن "ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، وتوطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء". يعتبر كثيرون أن خطاب 21 شباط/فبراير، بنبرته المتشنجة و"المؤامراتية" كان بمثابة تحريض صريح من "السلطة" للـ "شعب" وتحفيز لمشاعره المعادية للمهاجرين. من هذا المنطلق تبدو أحداث صفاقس وكأنها مجرد رجع صدى للخطاب الرئاسي. قد يكون هذا بعض الحقيقة، لكن الواقع أكثر تعقيداً.

بداية من 2015 – 2016، أصبح وجود المهاجرين الأفارقة في المدينة مألوفاً. السمات الأساسية للمهاجرين في تلك الفترة كانت أنهم ذكور تتراوح أعمارهم بين 15 و40 سنة، أغلبهم فرنكوفونيون من دول غرب أفريقيا، يعملون في قطاع البناء ومخازن السلع والحقول (أي أنهم بشكل ما "غير مرئيين" لغالبية سكان المدينة)، بأجور متدنية في انتظار جمع ما يكفي لاجتياز البحر نحو أوروبا. منذ 2018-2019 بدأ المشهد يتنوع مع انضمام نساء وأطفال المهاجرين الذكور وقدوم جنسيات أفريقية أخرى. في الفترة نفسها بدأت المطاعم والمقاهي وورشات الحرفيين والمحلات التجارية تفتح أبوابها تدريجياً لتشغيل المهاجرين: أيدي عاملة رخيصة أغلبها مقيم بشكل غير قانوني مما يعني واجبات اقتصادية-اجتماعية أقل بكثير بالنسبة للمشغِّل. مع هذه المتغيرات بدأ التململ وسط سكان المدينة، لأسباب تتعلق بالخوف من "الغزو" الأفريقي الأسود (ما يسمى "نيغروفوبيا"، أو رهاب الزنوج) أو لأسباب "عملية" تتعلق أولاً بسوق الشغل باعتبار أن هؤلاء المهاجرين "ينافسون" التونسيين عبر قبولهم أجوراً وظروف عمل لا يقبل بها المحليون، وتتعلق ثانياً بالسكن إذ يقبل المهاجرون استئجار مساكن بإيجارات مرتفعة وبلا عقود لأن الغالبية لا تمتلك أوراق إقامة قانونية كما أنه بإمكانهم تقاسم تكلفة الإيجار بين عدة أشخاص، وأسباب ثالثة تتعلق بـ "المزاحمة" في وسائل النقل المهترئة أصلاً، ورابعة مرتبطة بارتفاع الطلب على السلع الغذائية خاصة الأساسية منها والمدعّمة.

كل ما سبق يجب ألا يؤخذ على أساس أنه حقيقة مطلقة، فهناك بعض المبالغة الممتزجة بالعنصرية. لكن يجب ألا ننسى تركّز الأغلبية الساحقة من المهاجرين الأفارقة في أكثر مناطق وأحياء المدينة فقراً وتهميشاً مما يجعل سكان هذه الأحياء "الأصليين" - وجزء كبير منهم هو نتاج لحركة الهجرة الداخلية والنزوح - يرون في الوافدين الجدد عبئاً جديداً يعقّد مشاكلهم.

بعد انزياح أزمة كوفيد 19 أواخر سنة 2021، تَسارع تدفق المهاجرين الأفارقة بشكل كبير. صار من الواضح أن صفاقس أصبحت مركز التجمع الرئيسي للقادمين من جنوب الصحراء، ولم يعد من السهل معرفة إن كان مكوثهم في المدينة سيكون عبوراً مؤقتاً في انتظار فرصة "الحرقة" (الهجرة غير النظامية) أو إقامة طويلة، أو حتى دائمة.

هذه الطفرة الهجرية التي تعرفها صفاقس في السنوات الأخيرة تزامنت مع أزمات محلية ووطنية متعددة لها تأثير سلبي على مدى تقبّل سكان المدينة للمهاجرين. تعيش تونس هزات اقتصادية متتالية منذ 2011 بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني، وانكماشاً اقتصادياً، وارتفاع كلفة عجز الميزان التجاري وخدمة الدين، خاصة بعد فقدان العملة الوطنية لأكثر من ثلث قيمتها أمام الدولار واليورو ما بين 2016 و2019.

لماذا صفاقس؟

38372 مهاجر/ة - من حاملي الجنسية التونسية وأجانب - اعترضتهم السلطات التونسية في البحر أو منعت انطلاقهم من السواحل التونسية خلال سنة 2022، منهم 17 ألفاً تم اعتراضهم في سواحل صفاقس خلال أشهر الصيف فقط. المدينة هي نقطة الانطلاق الأولى في تونس وإحدى أبرز منصات الهجرة غير النظامية في جنوب المتوسط.

"لماذا يختار هؤلاء المهاجرون مدينة صفاقس على وجه الخصوص، وهل يعرفونها من قبل وهم في بلدانهم أم يتمّ توجيههم إليها بسابق تدبير؟". هذه الأسئلة لم تأت على لسان صحافي أو مواطن بسيط، بل طرحها الرئيس سعيّد خلال لقائه بوزير الداخلية وكوادر أمنية عليا يوم 26 حزيران/يونيو 2023، أي قبل أيام قليلة من اشتعال موجة العنف المناهض للمهاجرين. كما طرح أسئلة أخرى مشابهة يوم 4 تموز/يوليو خلال زيارته لوزارة الداخلية :"كيف يقطع هؤلاء الوافدون على تونس آلاف الكيلومترات ويتجهون إلى مدينة بعينها، وهل هؤلاء مهاجرون أو مهجّرون من قبل جماعات إجرامية تتاجر ببؤسهم وتتاجر بأعضائهم وتستهدف قبل هذا وذاك السلم الأهلي في تونس؟". بانتظار الأجوبة الرئاسية، يمكننا أن نستعرض بعض العوامل التي قد تكون أسهمت في "جاذبية" المدينة للمهاجرين.

موقع المدينة هو بحد ذاته عنصر جذب. تبعد صفاقس 150 كيلومتراً عن جزيرة "لامبيدوزا" الإيطالية وهي نقطة الوصول الرئيسية للمهاجرين غير النظاميين الذين ينطلقون من السواحل التونسية. تفصل المدينة 300 كيلومتراً عن الحدود الليبية و260 كيلومتراً عن الحدود الجزائرية. يبلغ طول سواحل المحافظة 235 كيلومتراً، أي ما يعادل عُشر مجمل السواحل التونسية البالغ طولها 2200 كم، وفيها 8 موانئ صيد بحري تختلف سعتها وأهميتها، وميناء تجاري ضخم نسبياً فضلاً عن الخط البحري الذي يربط بين مركز مدينة صفاقس وأرخبيل قرقنة.

كما تعتبر صفاقس العاصمة الاقتصادية لتونس، إذ تحتضن قرابة 80 ألف مؤسسة اقتصادية (بمختلف أحجامها) من جملة 800 ألف مؤسسة مسجلة في "السجل الوطني للمؤسسات"، وتقدر مساهمتها في الناتج الداخلي الخام بما بين 15 و20 في المئة. تمتلك نسيجاً اقتصادياً متنوعاً بشكل كبير: صيد بحري، غراسات الزيتون واللوز، صناعات كيميائية وأنشطة بترولية، نسيج ومصنوعات جلدية، صناعة الأثاث، مقاولات بناء، حرف تقليدية، تجارة، قطاع طبي خاص متعدد الاختصاصات... وهذا ما يجعل نسب البطالة لا تتجاوز 10 في المئة على مستوى الولاية (يتراوح المعدل الوطني بين 15 و17 في المئة في السنوات الأخيرة) وحتى أقل من 8 في المئة في مركز المدينة والمناطق القريبة منه.

يضاف إلى هذا أن تكلفة المعيشة (سكن وأكل وتنقل) في صفاقس المدينة هي عموماً أرخص من أغلب المدن الكبرى الأخرى. حتى أسعار "تذاكر" الصعود إلى قوارب "الحرقة" تعتبر من بين الأرخص في المنطقة إذ تتراوح ما بين 500 و1500 يورو.

تونس بين فكي الكماشة..

في 31 أيار/مايو 2023 زار "روبرت جنريك" الوزير البريطاني المكلف بالهجرة تونس والتقى في مقر وزارة الداخلية بكوادر أمنية عليا، وناقش معهم مسألة الهجرة غير النظامية مستعرضاً خبرة بلاده في التصدي لهذه الظاهرة. بعد فترة قصيرة (ما بين 6 و11 حزيران/يونيو 2023) زارت رئيسة الحكومة الإيطالية، "جورجيا ميلوني" تونس والتقت برئيسها مرتين، وطبعاً كانت قضية الهجرة غير النظامية وسبل "دعم" تونس في التصدي لها، المحور الرئيسي للمحادثات. في الزيارة الثانية اصطحبت "ميلوني" رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيس الوزراء الهولندي لمناقشة الموضوع. بعد البريطانيين والإيطاليين والهولنديين جاء دور فرنسا وألمانيا، ففي 18 حزيران/يونيو وصل وزيرا داخلية البلدين إلى تونس وتحادثا مع وزير الداخلية التونسي ثم مع رئيس الجمهورية. في بلاغ مشترك بين سفارتي البلدين في تونس نقرأ: "أتاحت هذه المحادثات فرصة لتقييم تحدياتنا المشتركة وإجراءاتنا التعاونية: أولاً وقبل كل شيء، الأمن، ولا سيما مكافحة الإرهاب الذي يؤثر على بلداننا الثلاثة، ولكن أيضاً إدارة تدفقات الهجرة ومكافحة الشبكات الإجرامية للمهربين [...] وقدم الوزيران دعماً أوروبياً غير مسبوق لجهود تونس في إدارة تدفقات الهجرة. ناقش السيد جيرالد دارمانان والسيدة نانسي فيزر مع السلطات التونسية تحديث نظام التعرف على بصمات الأصابع (AFIS). كما ستدعم فرنسا وألمانيا أيضاً مالياً جهود تونس لتجهيز المصالح المسؤولة عن مكافحة الهجرة غير النظامية والجهود الرامية إلى معالجة الأسباب الجذرية للهجرة".

هناك أيضاً خوف من انهيار اقتصادي شامل في البلاد قد يحفّز أعداداً كبيرة من التونسيين على ركوب البحر، وقد يضعف أيضاً أجهزة الدولة - الأمنية خاصة - ويجعلها عاجزة تماماً عن وقف المغادرين من أبناء البلد والقادمين من أفريقيا جنوب الصحراء. في الأشهر الأخيرة قامت رئيسة الحكومة الإيطالية بجهود "جبارة" لحث دول أوروبية وعربية ومؤسسات مالية كبرى مثل "صندوق النقد الدولي" على دعم تونس وتخفيف أزمتها الاقتصادية. هناك مساع أوروبية في المنحى نفسه تحاول الضغط على صندوق النقد حتى يخفف من شروطه التي يريد فرضها على تونس مقابل منحها قرضاً تقدر قيمته بـ 1.9 مليار دولار. كما عبّر الاتحاد الأوروبي عن استعداده لمنح تونس 100 مليون يورو لمساعدتها في مراقبة حدودها، والتفاوض حول حزمة قيمتها 900 مليون يورو تُضخ على سنوات مقابل توقيع جملة من "اتفاقيات التعاون" يتعلق أهمها بموضوع الهجرة.

هذا "الكرم" الأوروبي، هدفه الأساسي توفير الحد الأدنى من مقومات "البقاء" للدولة التونسية حتى تستمر في أداء "عملها" بحسب المطلوب أوروبياً. وهذا "المطلوب" تطور كثيراً خلال ربع قرن، فمنذ أواخر تسعينيات القرن الفائت بدأ "التنسيق" بين تونس وأوروبا في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية. وإلى حدود سنة 2010 كان المطلب الرئيسي للأوروبيين هو تصدي الدولة التونسية لأبنائها الراغبين في الوصول إلى السواحل الأوروبية. أما بعد ثورة 2011 فقد أصبحت المطالب الأوروبية أكثر تنوعاً وإصراراً حتى بلغت درجة الابتزاز الصريح. انهيار مؤسسات الدولة الليبية وتفجّر الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة العربية إثر انتفاضات 2011 ثم انتشار "الدولة الإسلامية" في سوريا والعراق سنتي 2014 و2015، وكذلك تضاعف أعداد الأفارقة الراغبين في الوصول إلى السواحل الأوروبية.. كل ذلك خلق تدفقاً غير مسبوق على أسوار "القلعة أوروبا" فتصلبت سياساتها الهجرية أكثر فأكثر وأصبح عمادها نقل حدود فضاء "شنغن" إلى خارج القارة وتلزيم دول الجنوب بمهام الحراسة.

وجدت تونس نفسها في قلب هذه السياسات، أولاً لأنها دولة انطلاق وعبور (واستقبال أيضاً) للمهاجرين، وثانياً لأنها دخلت بعد 2011 في مرحلة من الهشاشة السياسية والتأزم الاقتصادي غير المسبوقين مما يسهل على الأوربيين ابتزازها. صارت تونس مطالَبة بمنع المهاجرين التونسيين والأفارقة وغيرهم من عبور البحر، وتسهيل ترحيل أبنائها من المهاجرين غير النظاميين المقيمين في أوروبا، وقبول المهاجرين من غير التونسيين الذين وصلوا أوروبا انطلاقاً من تونس، وإيواء الأجانب طالبي اللجوء إلى أوروبا في تونس في انتظار النظر في ملفاتهم، و.. و.. و. خلال العقد الفائت، رضخت بعض الحكومات جزئياً أو كلياً لبعض المطالب وناورت في مطالب أخرى ورفضت بعضها قطعياً، وما زال الأمر مستمراً مع السلطة الحاكمة حالياً في تونس، مع فارق مهم، إذ عبّر الرئيس سعيّد عدة مرات، وبشكل صريح، أن تونس ترفض الابتزاز ولن تلعب دور حرس الحدود لأي دولة أخرى.

وحتى إن استطاعت تونس الصمود بوجه الضغط الأوروبي، فما هي فاعلة بالنسبة لضغط أفريقيا جنوب الصحراء؟ المؤشرات الديمغرافية والمناخية والسياسية في هذه المنطقة التي تعد من بين الأفقر في العالم تبعث على القلق الشديد.

ما بين 1960 و2020 تضاعف عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء قرابة 5 مرات، من حوالي 200 مليون إلى1.1 مليار نسمة، وحسب تقديرات الخبراء سيقفز الرقم إلى 1.5 مليار بحلول سنة 2030 و2.5 مليار في أفق سنة 2050 ويتجاوز الـ 4 مليارات نسمة نهاية القرن.

أما التوقعات المناخية فهي مرعبة، وعلى الرغم من أن القارة لا تساهم إلا بـ 3 في المئة من انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم، فهي من أكثر المناطق التي ستتأثر بالتغيرات المناخية. هذا يشمل ارتفاع منسوب البحر في الدول التي لها واجهات ساحلية، وجفاف عدد كبير من البحيرات ومجاري المياه الأخرى، والذوبان الكلي للقمم الثلجية، واختفاء مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمراعي، وتضاعف عدد الأيام التي تبلغ فيها الحرارة درجات قاسية جداً ومميتة. باختصار، مئات الملايين من البشر سيضطرون إلى الهجرة المناخية داخل حدود القارة أو نحو وجهات أخرى أولها أوروبا طبعاً. أرقام البنك الدولي تتوقع أن يبلغ عدد المهاجرين بسبب المناخ من دول أفريقيا 86 مليون شخص بحلول سنة 2050.

____________
من دفاتر السفير العربي
التغيّر المناخي.. لقد آن الأوان!
____________

على المستوى السياسي - الأمني لا تبدو الأمور أفضل. هناك حالياً أكثر من 30 نزاعاً مسلحاً في أفريقيا جنوب الصحراء، مع عودة نسبية لدوامة الانقلابات بعد تراجعها في بداية القرن الـ 21، فخلال فترة 2021 – 2023 شهدت أربعة بلدان أفريقية (التشاد، غينيا، بوركينا فاسو، مالي) انقلابات عسكرية وقد تصبح الظاهرة معدية. لا يجب نسيان أن هناك "زحمة" محاور وقوى إقليمية ودولية تتصارع على المواقع والموارد في المنطقة: فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة، الصين، روسيا، تركيا، إسرائيل، الإمارات.

في ظل هذه المعطيات، ومع استمرار الأوضاع على ما هي عليه أو تدهورها أكثر، فإن استشراف المستقبل جلي: عشرات وربما مئات الملايين سيسعون إلى مغادرة أفريقيا جنوب الصحراء نحو دول الشمال، وإذا لم يُمنحوا التأشيرات فسيركبون البحر، ولكي يصلوا البحر يجب أن يعبروا الصحراء وأن يمروا من دول شمال أفريقيا (ومن بينها تونس وربما يمكثون فيها إذا عجزوا عن المضي قدماً).

هذه السيناريوهات لا تعني أبداً تبني السردية الأوروبية حول "الغزو الثقافي" و"الاستبدال العظيم" واستلهام سياسات "القلعة" في التخلي عن المستضعَفين والتنكيل بهم وإعادة إنتاج الممارسات العنصرية التي يتعرض لها مواطنو الجنوب - ومنهم التونسيون - خارج بلدانهم. هي تحذير من إمكانية انفجار آثام وجرائم أربعة قرون من السياسات الغربية في أفريقيا (تجارة الرقيق، استعمار مباشر، نهب الثروات والموارد الطبيعية، استعمار جديد، دعم لديكتاتوريات وميلشيات دموية، تكريس الهيمنة والتبعية) في وجه ضحايا لا ذنب لهم: دول شمال أفريقيا - ومنها تونس - التي كانت كلها في مرحلة ما مستعمرات أوروبية وما زالت إلى اليوم تعاني من آثار الهيمنة الغربية متعددة الأشكال.

الواقع يقول إن تونس وبقية دول شمال أفريقيا - التي تعاني أغلبها من الفقر والبطالة و/أو تأثيرات التغيرات المناخية - لا يمكنها أن تحتمل ضغطاً هجرياً "جنوبياً" بمثل هذه الضخامة والسرعة، وضغطاً سياسيا "شماليا" بمثل هذه الكلبية والوقاحة. والمنطق يحتم أن تنسق دول شمال أفريقيا فيما بينها في مرحلة أولى ثم مع بقية دول الاتحاد الافريقي لتبني خطاباً موحداً في مسألة الهجرة غير النظامية والتأشيرات، وتشكيل تكتل للضغط على أوروبا والغرب حتى يتحملوا مسؤولياتهم التاريخية والأخلاقية في ما آلت إليه أوضاع القارة الأفريقية، عبر المساهمة بشكل حقيقي وغير مشروط في دعم الاقتصاديات الأفريقية والتوقف عن نهب ثروات القارة وتوفير الإمكانيات المالية والتقنية الضرورية لتخفيف الآثار البيئية الكارثية، النتاج الحصري للدول الصناعية الكبرى.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه