وقائع ما جرى للفيلق المصري بين الامس واليوم

ثورة 25 يناير 2011، على ضخامتها وقوة تأثيرها، كانت ثورة "مدن" بامتياز، فيما يكاد ينعدم تأثير المراكز والأرياف، وهذا على عكس ثورة 1919 التي كان اشتراك الفلاحين فيها واضحاً ومؤثِّراً وملموساً بحيث يصعب تصور نتائجها بعيداً عن تلك المساهمة المؤثرة.
2023-07-02

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
يعملون كحمالين

مع بداية الساعات الأولى للاقتتال بين قوات الجيش السوداني النظامية و"قوات الدعم السريع" في الخامس عشر من نيسان / أبريل الفائت، فوجئ المصريون بفيديو قصير لا تتجاوز مدته ثلاث دقائق يتم تداوله على نطاق واسع عبر مواقع الإنترنت، يظهر عدداً من الجنود المصريين، يجلسون على الأرض، حولهم عناصر من "قوات الدعم السريع" مسلحة ببنادق سريعة الطلقات. بدا المشهد صادماً ومحزناً، خاصة أنّ الفيديو يظهر وكأنّ تلك القوات تتعامل مع هؤلاء الجنود والضباط باعتبارهم أسرى حرب! وقد اصطحبتهم معها أثناء انسحابها من محيط مطار مروي قبل أن يتم الإفراج عنهم فيما بعد.

يجهل معظم المصريين انعقاد جلسةٍ سريةٍ للبرلمان المصري قبل ثلاث سنوات من تلك الحادثة، وافق فيها المجلس على إرسال عناصر من القوات المسلحة في مهام خارج البلاد "للدفاع عن الأمن القومي المصري"، عملاً بأحكام المادة 152 من الدستور والمادة 130 من اللائحة الداخلية للمجلس. (1)

قرار إرسال قواتٍ قتالية أو غير قتالية خارج البلاد، وتحت ذرائع ودوافع متنوعة، سياسية أو أخلاقية، ليس الأول من نوعه، على الأقل في التاريخ المصري الحديث. قبل أكثر من مئة عام، وتحديداً مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، شكّلت كلّ من انجلترا وفرنسا وأيرلندا والإمبراطورية الروسية جبهةً موحدة في مواجهة كل من الإمبراطورية النمساوية والألمانية والدولة العثمانية وبلغاريا، في حربٍ على امتداد آلاف الكيلومترات، من تركيا إلى فرنسا. الحرب التي استمرت عدة سنوات، وضعت إنجلترا أمام حاجةٍ ماسة إلى مئات الآلاف من العمال للقيام بكافة الأعمال والخدمات، من مدّ خطوط السكك الحديدية، حفر الخنادق، شحن وتفريغ السفن، إقامة الجسور والخدمات اللوجستية، وغيرها من العمليات الكثيرة والخطرة، في ظروفٍ بيئية شديدة الصعوبة، وتحت وابل لا ينقطع من القنابل والقصف الجويّ.

سعت إنجلترا منذ البداية إلى استخدام الفائض البشري في مستعمراتها الشاسعة ومنها مصر. خلال شهور الحرب الأولى، كانت المشاركة بتلك الأعمال اختيارية عبر تجنيد عمال وفلاحين بعقودٍ مؤقتة مدتها ثلاثة أشهر، وكانت عملية التجنيد تتمّ عن طريق متعهدين مثل "مردوخ ماكدونالد" (2) والذي كانت له سابقة أعمال في إنشاء خزان أسوان واستطاع من خلاله تجنيد الآلاف من العمال. خطة التجنيد الاختياري تلك لم تنجح في جلب العدد الكافي الذي تحتاج إليه الحرب، ومن ثم بدأت انجلترا، بالتواطؤ مع جهات الإدارة في مصر، في تنفيذ خطة التجنيد الإجباري. وهكذت بدأت واحدة من أبشع جرائم التاريخ وأكثرها عنصرية، التي استمرت طوال فترة الحرب، عبر عمليات خطف ممنهجة للرجال، تركزت في القرى المصرية، وفي الصعيد على وجه التحديد.

يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أنّ "السلطة العسكرية شجعت الحكومة المصرية على ما حدث للعمال والفلاحين وأنهم كانوا يُؤخَذون كرهاً باسم المتطوعين وماهم بالمتطوعين، ويُعامَلون معاملة المعتقلين وماهم بمذنبين، ويُربَطون بالحبال ويُساقون كالأغنام ويُقام عليهم الحرس ويعاملون أسوأ معاملة، ولا يُعنى بصحتهم ولا بغذائهم ولا براحتهم، وأصيب كثيرون بالأمراض، ومات كثيرون منهم في ميادين القتال".

يقول سعد زغلول في مذكراته "افتخر رجال الحكومة بأنهم عارضوا الإلحاق الإجباري للفلاحين بالجيش البريطاني ومنعوه، ولكن الحقيقة أنهم أخذوا يخطفون الناس من الأسواق والطرقات والمساكن ويحمّلونهم على أن يكتبوا طلباً للتطوع، ومن أبى من المختطفين أن يختم ضُرب حتى يختم (الختم هو نقش مطبوع يستخدم كبديل للتوقيع). وقد أبى رجال في إطسا (أحد مراكز محافظة الفيوم) الالتحاق بالفيلق فجاءتهم قوة من العساكر والخفراء وساقتهم إلى المركز مكبلين بالحديد وهناك ضُرِبوا حتى ختموا. وحدث أن بعض الأهالي في جهة فارسكور (إحدى مدن محافظة دمياط) امتنعوا وقامت بينهم وبين العساكر مشاجرة أدت إلى إطلاق النار عليهم، فقتلت في أثناء ذلك ثلاث نسوة. فرض التجنيد بكل طريقة من الجبر والإكراه وكان من أشد أنواع مصادرة حرية الأمة واحتقارها بإنزالها منزلة الأنعام السائمة" (3).

تورطت السلطة المصرية في تنفيذ إرادة المحتل الإنجليزي خوفاً أو طمعاً، وتسلّط أبناء الوطن الواحد على بعضهم البعض في واحدة من أشد صفحات التاريخ المصري سواداً ومهانة، إذ لعب عناصر من المصريين دوراً بارزاً في خطف وإرهاب الفلاحين وتجنيدهم، كما تورط كثير من العمد والمسؤولين المحليين باستخدام سلاح التجنيد في الفيلق ضد خصومهم وأعدائهم لتحقيق مكاسب شخصية، وقد تجاوزت هذه التصرفات في حينها كل الحدود لدرجة أنّ "جون هاينز" مستشار وزارة الداخلية بدأ بالتذمر من تصرفات هؤلاء المسؤولين بحجة أنها تسيء إلى سمعة الجيش الإنجليزي!

كتب "فارس نمر" رئيس تحرير "جريدة المقطم" المناصرة للاحتلال، معلناً تأييده الكامل لبريطانيا العظمى، مؤكداً أن الأنجلوسكسون، وهم عماد الإنجليز، يحظون بنقاء عرقي يضعهم على رأس شعوب العالم. كما كتب "أحمد فتحي زغلول" (وهو الذي ارتبط اسمه بجريمة إعدام الفلاحين في حادثة دنشواى) أن الأعيان جنس أرقى من الفلاحين وتَجب لهم الطاعة بلا تردد.

أما شهادة المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي، فهي واحدة من أكثر الشهادات الكاشفة لتلك الوقائع المؤلمة. يخبرنا فيها أنّ "السلطة العسكرية شجعت الحكومة المصرية على ما حدث للعمال والفلاحين وأنهم كانوا يُؤخَذون كرهاً باسم المتطوعين وماهم بالمتطوعين، ويُعامَلون معاملة المعتقلين وماهم بمذنبين، ويُربَطون بالحبال ويُساقون كالأغنام ويُقام عليهم الحرس ويعاملون أسوأ معاملة، ولا يُعنى بصحتهم ولا بغذائهم ولا براحتهم، وأصيب كثيرون بالأمراض، ومات كثيرون منهم في ميادين القتال في صحراء سيناء أو العريش وفرنسا والعراق، وأصيب كثير منهم فأصبحوا عاجزين عن العمل".

تورطت السلطة المصرية في تنفيذ إرادة المحتل الإنجليزي خوفاً أو طمعاً، وتسلّط أبناء الوطن الواحد على بعضهم البعض في واحدة من أشد صفحات التاريخ المصري سواداً ومهانة.

ويذكر الكاتب "عباس خضر" في مذكراته (4) : "ظهر ذعر شديد أصاب الناس جميعاً من شيء أسموه السلطة! كانت الشرطة تخطف الشباب من الشوارع وتذهب بهم إلى المركز كي ُيرحّلوا. وعرف الناس بعد ذلك أنهم كانوا يأخذونهم للخدمة في الجيش البريطاني". لم يعرف أي من هؤلاء الجنود وجهته أبداً. كانوا يساقون من قراهم وسط ولولة النساء وبكاء الأطفال فيركبون القطارات أولاً ومن ثم السفن ليجدوا أنفسهم بعد ذلك في مواقع العمل والقتال.

يؤكد "كايل اندرسون" (5) في بحثه المهم والدؤوب في تحقيق وقائع ما جرى للفيلق المصري، أن الفيلق "كان منسياً في التاريخ الرسمي البريطاني وكذلك في التاريخ المصري، وبالتالي في تاريخ العالم على الرغم من أن قائد القوات البريطاني في سيناء قد أشاد بلا تحفظ بالمصريين الذين عملوا ليل نهار وشيدوا خطوط السكة الحديدية لقطار سيناء وأفرغوا محتويات القطارات واللوريات بسرعة فائقة وكانوا معروفين بالشدة والجدية. وعملوا تحت ظروف الحرب والمعارك الصعبة ". يقول "اللورد ملنر" المندوب السامي البريطاني في مصر في أحد تقاريره التي رفعها إلى رؤسائه "أن الشعب المصري تحمل التكاليف والقيود التي اقتضتها الحرب بالصبر والرضا، وأن الخدمات التي أداها الفيلق المصري لا تقدر بثمن".

 لم يذكر "منلر" في تقريره، بطبيعة الحال، كيف كانت السلطة تستولي بالإكراه على الدواب اللازمة للحرب. لم تترك جملاً ولا حماراً صالحاً للعمل إلا واستولت عليه بأبخس الأثمان، وفعلت الأمر نفسه فيما لزمها من الحبوب والمؤن وعلف المواشي، حتى لم يعد الناس يجدون ما يسدّ حاجتهم، سواءً من قوتهم أو من علف مواشيهم. كما لم يذكر أيضاً أنّ مشهد الفلاحين المكبلين بالأغلال والمربوطين ببعضهم البعض بحبال من الليف في صف طويلٍ وهم يُساقون إلى مراكز الشرطة تمهيداً لإرسالهم إلى جبهات القتال، بات مشهداً معتاداً من قبل الناس طوال تلك السنين. تولدت من هذه المشاهد وغيرها تلك البكائية الشهيرة، التي يرددها المصريون حتى اليوم، التي تعبر عن حال الحزن الجارف لفراق الأوطان وترك الأرض والمهانة التي فرضتها سلطة الاحتلال: "يا عزيز عيني وأنا بدّي أروح بلدي. بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي". كتبها محمد يونس القاضي وقام بتلحينها سيد درويش وجاءت ضمن شريط سينمائي يجسّد مشاهد خطف الفلاحين من حقولهم ونقلهم في طوابير الذل إلى معسكرات العمل (6).

المقاومة

قاوم المصريون عمليات التجنيد الإجباري التي فُرضت عليهم قدر المستطاع، فاندلعت العديد من الاحتجاجات في القرى المصرية. لجأ المصريون إلى المقاومة العنيفة ضد المسؤولين ومأموري الضبط المنوط بهم عمليات التجنيد التعسفية، فعند حلول صيف 1918 كانت أعمال العنف قد عمت جميع أنحاء الريف المصري، واستخدم الفلاحون خلالها كل ما استطاعوا استخدامه من الأسلحة النارية، والضرب بالسكاكين والفؤوس، واستخدام العصي والحجارة أيضاً.

تولدت من هذه المشاهد وغيرها تلك البكائية الشهيرة، التي يرددها المصريون حتى اليوم، التي تعبر عن حال الحزن الجارف لفراق الأوطان وترك الأرض والمهانة التي فرضتها سلطة الاحتلال: "يا عزيز عيني وأنا بدّي أروح بلدي. بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي".

كما شهدت العديد من معسكرات العمل التي نُقلوا إليها كثيرا من عمليات الاحتجاج إذ "كان العمال يُضربون عن العمل، بل شنوا تمردات ضد ضباطهم، حدث أولها في شبه جزيرة غاليبولي التركية عام 1915. وبحلول عام 1917، احتج المصريون في فرنسا وإيطاليا بشدة، لدرجة أن البريطانيين قرروا في النهاية نقل معظمهم إلى حملة فلسطين بحلول العام التالي

الأعداد

يذهب "كايل اندرسون" (7) إلى أن عدد العمال الذين اشتركوا في فيلق العمال المصري لا يقل عن نصف مليون مصري . فيما يذهب "أحمد شفيق باشا" في حولياته (8)، ويؤيده عبد الرحمن الرافعي، أن العدد لا يقل عن مليون نسمة، خاصة وقد كان يتم تجنيد كل القادرين على العمل من سن أربعة عشر عاماً وحتى الخامسة والأربعين أو أكثر .

أياً يكن الرقم الدقيق للعمال الذين تمّ جلبهم من الحقول إلى معسكرات العمل، ولم يكن الجانب المصري أو الانجليزي معنياً بمعرفته، فهو بلا شك رقم بالغ الضخامة إذا علمنا أن عدد سكان مصر في ذلك الحين لم يكن يتجاوز 12 مليون نسمة بأقصى تقدير. فإذا أخذنا رقم "كايل اندرسون" كنموذج أقرب إلى الدقة، فنحن أمام رقم يعادل تقريباً معظم كتلة الفلاحين التي كانت قادرة على العمل في ذلك الوقت. وهذا الرقم يعادل الآن، طبقاً لعدد سكان مصر الحالي، حوالي 4.5 مليون نسمة! مما يدلنا على حال الخراب التي آلت اليها الأراضي الزراعية والتي لم تجد من يزرعها بعد رحيل هؤلاء العمال، عدا عن كل مظاهر التفكك الاجتماعي والقيمي وحالة الحزن الجارفة التي عصفت بالبلاد نتيجة رحيل هؤلاء الرجال .

العنصرية

يظل أحد أكثر الجوانب تعسفاً وإظلاماً فيما يخص الفيلق المصري، هو رسم "خط اللون" الذي وضع به المحتل البريطاني هؤلاء العمال المصريين في مرتبة عرقية أدنى من المحتل الذي كان يرى نفسه طوال الوقت على رأس الأعراق المتميِّزة التي تبيح له الذرائع للاحتلال والعسف، والتسخير والقتل. المحزن في الأمر، أن هذه الثقافة العنصرية انتشرت بين المصريين أنفسهم وساد لديهم الاعتقاد بتفوق المحتل وجدارته. استطاع "اللورد كرومر" أحد أدهى الساسة البريطانيين الذين عملوا في مصر إقناع الطبقة العليا من المصريين بأن "وجود الإنجليز ضروري حتى تنصلح أحوال البلاد وتصل إلى مرحلة الرقي"، إلى الحد الذي دفع عالماً كبيراً مثل الشيخ "محمد عبده" في حديثه مع المحامي البريطاني "بلنت" أن يطالب ببقاء الإنجليز في مصر عامين أو أكثر لأن ذلك سيكون مفيداً للبلاد!

كما كتب "محمد فريد" في مذكراته "أعترف أننا محتاجون لمساعدة الإنجليز مدة لا تقل عن 15 عاماً حتى نبلغ شيئاً من التمدن! قبل أن يتحول بعد ذلك إلى أحد أكثر زعماء الحركة الوطنية شراسة وبأساً في مقاومة الاحتلال البريطاني.

قاوم المصريون التجنيد الإجباري الذي فُرض عليهم قدر المستطاع، فاندلعت العديد من الاحتجاجات في القرى المصرية. لجأ المصريون إلى المقاومة العنيفة ضد المسؤولين ومأموري الضبط المنوط بهم عمليات التجنيد التعسفية. ومع حلول صيف 1918 كانت أعمال العنف قد عمّت جميع أنحاء الريف المصري، واستخدم الفلاحون خلالها كل ما استطاعوا استخدامه من الأسلحة النارية، والضرب بالسكاكين والفؤوس، واستخدام العصي والحجارة أيضاً.

 ربما كانت أحداث الفيلق المصري والعنصرية الفجة التي تعامل بها الاحتلال مع الأهالي وما أحدثته من صدع مهين في جدارة المصريين وأهليتهم، أحد أهم الأسباب الجوهرية التي دفعت جموع المثقفين في مصر إلى البحث في أسئلة الهوية المصرية ومحاولة إحياء الجذور الفرعونية / الإسلامية والتي تثبت امتداد تلك الجدارة في عمق التاريخ، حتى وإن طمرتها قسوة الاستبداد أو مداهمة المحتلين.

ثورة 1919

أي الثورتين أكثر شعبية في تاريخ مصر؟ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 بكل ما حملته من زخمها الثوري الممتد أم ثورة عام 1919 بكل تأثيراتها الاجتماعية والثقافية التي تمخضت عنها؟ والمقصود ب"الشعبية" هنا هو مشاركة "كل" فئات الشعب في أحداثها. الحقيقة أن ثورة يناير على ضخامتها وقوة تأثيرها، كانت ثورة "مدن" بامتياز، فيما يكاد ينعدم تأثير المراكز والأرياف، على عكس ثورة 1919 التي كان اشتراك الفلاحين فيها واضحاً ومؤثِّراً وملموساً بحيث يصعب تصور نتائجها بعيداً عن تلك المساهمة المؤثرة.

تأثير الفيلق في مشاركة الفلاحين في الثورة

أحداث الفيلق المصري والطريقة الوحشية التي تمّ تجنيد الفلاحين بها، كانت سبباً مباشراً في غضب الفلاحين العارم، إضافة إلى ما آلت إليه أحوال الأراضي الزراعية في تلك السنين من الخراب والاضمحلال. 

منذ اللحظة الأولى لاندلاع شرارة الثورة، كان انتقام الفلاحين من سلطة المحتل البريطاني والمسؤولين المحليين حاضراً ومروّعاً. في القاهرة، اندلعت الشرارة في يوم 9 آذار/ مارس 1919، وفي يوم 14 آذار/مارس "هاجم الفلاحون مركز منوف وحرروا أعداداً من الفلاحين كانوا قيد الاعتقال تمهيداً لنقلهم للعمل في الفيلق، ثم أحرقوا المركز. وفي يوم 15 آذار/مارس هاجم الفلاحون وسائل المواصلات والسكك الحديدية وأعمدة التلغراف والتليفونات في جميع أنحاء مصر، وحدثت هجمات مركّزة ومكثفة على مراكز الإنجليز، واستخدم هؤلاء الطيران في ضرب المتظاهرين، وتوقف كل شيء في مصر بنهاية يوم 16 آذار/ مارس. وفي يومي 17 و18 آذار/مارس تعرضت معظم محطات السكك الحديدية والطرق الزراعية وعدد كبير من مراكز الشرطة للحرق، كما قامت الجماهير بضرب "إبراهيم حليم باشا"، أحد المسؤولين عن تجنيد العمال، ضرباً مبرحاً حتى شارف على الموت، واستولى الفلاحون على قمح الإنجليز من مخازنه وتم تجريد ضباط وعساكر قسم الواسطي (أحد مراكز محافظة بني سويف) من أسلحتهم، وقتل مستر "أرثر سميث " كبير موظفي السكة الحديدية. حشدت القوات البريطانية أعداداً كبيرة لإخماد الثورة وأحرقوا خلال ذلك عدة قرى" بحسب كتاب "الفيلق المصري".

كان انتقام الفلاحين مدوياً وكبيراً بنفس القدر الذي كان فيه تجنيدهم عملاً مجافياً ومنافياً لكل الأخلاقيات والأعراف الإنسانية. ظلت هذه الأحداث صفحة مطوية في التاريخ المصري لا يعبأ بها أحد لأن أفراد هذا الفيلق على ضخامته وفداحة خسائره هم في النهاية مجرد فلاحين فقراء لا يعبأ بهم أحد ولا يوجد اهتمام فعليّ بتدوين تاريخهم الحقيقي الذي كتبوه بالدماء حقيقة لا مجازاً.

سالمة يا سلامة

انتهت الحرب وعاد من تبقى من عمال الفيلق إلى الديار وقد تغيرت أحوالهم وتغيرت أحوال الديار. وكما كان الفن حاضراً لتسجيل لحظات الخطف والتنكيل في البداية، عاد الفن، ومن خلال سيد درويش أيضاً وأشعار بديع خيري، ليسجل لحظات العودة التي امتزج فيها الفرح بالمقاومة والعناد بخفة الظل. تقول الأغنية التي جاء تلحينها على مقام البياتي القادر على نقل مشاعر الفرح والحزن في آنِ معاً، حتى في مختلف الإيقاعات، ومن خلال أداء جماعي يمثل مجموعة من العمال وهم يقولون: "سالمة يا سلامة. رحنا وجينا بالسلامة، صفر يا وابور وأربط عندك. نزلني في البلد دي، بلا أميركا بلا أوروبا. ما في شيء أحسن من بلدي، دي المركب اللى بتجيب أحسن من اللى بتودي، يا أسطى بشندي".

أحداث الفيلق المصري والطريقة الوحشية التي تمّ تجنيد الفلاحين بها، كانت سبباً مباشراً في غضب الفلاحين العارم، إضافة إلى ما آلت إليه أحوال الأراضي الزراعية في تلك السنين من الخراب والاضمحلال. منذ اللحظة الأولى لاندلاع شرارة الثورة، كان انتقام الفلاحين من سلطة المحتل البريطاني والمسؤولين المحليين حاضراً ومروّعاً.

كان انتقام الفلاحين مدوياً وكبيراً بنفس القدر الذي كان فيه تجنيدهم عملاً مجافياً ومنافياً لكل الأخلاقيات والأعراف الإنسانية. ظلت هذه الأحداث صفحة مطوية في التاريخ المصري لا يعبأ بها أحد لأن أفراد هذا الفيلق على ضخامته وفداحة خسائره هم في النهاية مجرد فلاحين فقراء لا يعبأ بهم أحد ولا يوجد اهتمام فعليّ بتدوين تاريخهم الحقيقي الذي كتبوه بالدماء.

يؤكد العمال تحديهم للسلطة التي قهرتهم ونكّلت بهم، ولكنهم مع ذلك استطاعوا الادخار في تلك الظروف الصعبة والتغلب على الأهوال التي واجهوها بالعزم والصبر .

"سُلطة ما سُلطة، كله مكسب. حوشنا المال وجينا،
شفنا الحرب وشفنا الضرب . وشفنا الديناميت بعنينا،
ربك واحد. عمرك واحد. آدي إحنا رحنا وجينا. إيه خس علينا؟ "

كما يؤكدون أن المصري لطالما كان قادراً على الإبداع والتعلم وسط الظروف العسيرة، محتفظاً في كل الأحوال بخفة ظله التي هونت عليه قسوة الظروف :

____________
من دفاتر السفير العربي
الموسيقى والغناء.. سجل خاص للتغيرات السياسية
____________

"دي الغربة ياما بتوَري. بتخلي الصنايعي بيرطن،
مطرح ما يروح المصري، برضه طول عمره ذو تفنن،
وحياة ربنا المعبود. وي آر فري جود يا أسطى محمود،
قدها وقدود ... سالمة يا سلامة.. رحنا وجينا بالسلامة" (9).

______________________

1-  صحيفة "اليوم السابع" 21 تموز/ يوليو 2020  
2- "الفيلق المصري"، محمد أبو الغار، دار الشروق، مصر، الطبعة الاولى 2023
3- المصدرالسابق نفسه، ص 28   
4- "خطى مشيناها"، عباس خضر، دار المعارف، مصر، الطبعة الاولى 1977
5- باحث أمريكى مهتم بالتاريخ الاستعماري في مصر ومؤلف كتاب The Egyptian labor corps ، وهو رسالة الباحث للدكتوراه. وقد صدر الكتاب عن مطبعة جامعة تكساس عام 2017.
6- الفيلق المصري ، مصدر مذكور سابقاً    
7- في كتابه The Egyptian labor corps المذكور سابقاً
8- حوليات مصر السياسية، 8 اجزاء الهيئة المصرية العامة للكتاب، تقديم ودراسة د. أحمد زكريا الشلق      
9- https://www.youtube.com/watch?v=SJkv9v6bBSo

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...