يبدو أن الثقافة السياسية التي يراد تسويقها في تونس هي ثقافة التوافق على كل شيء، وذلك باتجاه فرض نزعة محافظة تروم التعمية على التناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعتمل في المجتمع، خدمة لمصالح مجموعات وأفراد بعينهم، وترسيخاً لتسويات مغشوشة وهشة تتناقض مع قيم الفكرة الديموقراطية نفسها، بما هي إدارة مدنية وقانونية للتناقضات. وتشمل هذه الثقافة التي يراد ترسيخها الجوانب المتعلقة بالممارسات الاقتصادية لرجال الأعمال والموظفين العموميين السامين، الذين تورطوا في قضايا فساد مالي، حيث طرح الرئيس الباجي قايد السبسي على مجلس نواب الشعب مشروعاً بقانون المصالحة الاقتصادية، يهدف إلى إيجاد تسوية مع رجال أعمال نهبوا أموال عمومية دون إرجاعها. بالمقابل ترفض فعاليات سياسية ومدنية عدة هذا القانون الذي تعتبره بمثابة تبييض للفساد والفاسدين، في حين يبرر المدافعون عنه بأنه الحل الأمثل لخلق دينامية اقتصادية وتحريك عجلة النمو في ظل أزمة اجتماعية خانقة، لن يمكن حلها إلا "بالصفح" عن رجال الأعمال المتورطين مقابل أن يعوضوا للدولة ما نهبوه، من دون أن يمروا بالضرورة بأية محاسبة قضائية. في حين يرى آخرون أن المصالحة تفترض المحاسبة أولاً.
قانون للمصالحة أم قانون لتبييض الفساد؟
يتعلق القانون إجمالا بإمكانية إبرام صلح بالنسبة للمستفيدين من أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام. ويشمل الصلح، بحسب مشروع القانون، الأموال والممتلكات التي ما زالت ضمن ذمة المعني، ولا تدخل ضمن دائرة الصلح الأموال والممتلكات التي تمت مصادرتها لفائدة الدولة. ويندرج مشروع هذا القانون، بحسب التقديم له، في ''إطار تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني، ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة". و بموجب هذا "توقَف التتبعات أو المحاكمات أو تنفيذ العقوبات في حق الموظفين العموميين وأشباههم، من أجل أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام، باستثناء تلك المتعلقة بالرشوة وبالاستيلاء على الأموال العمومية". وفي هذا الإطار يمكن لكل شخص تتعلق به قضايا فساد أن يتقدم بمطلب صلح للجنة أُعدت للغرض في إطار ما يعرف بـ "العدالة الانتقالية".
في ادّعاء تحريك عجلة الاقتصاد لعبٌ على أوتار شعور وطني عارم بأنّه ثمة أزمة اقتصادية خانقة، وأنّ مَواطن الشغل قد تقلصت بفعل ''تعكر المناخ". وتبدو الفكرة فضفاضة وغير واضحة، في حين أن الكساد الذي تعرفه تونس يعود في جزء منه إلى تفشي الفساد وغياب الشفافية والتهرب الضريبي من قبل العديد من رجال الأعمال، حيث تصاعد في تونس بعد الثورة عدد الأثرياء (المقدر بـ6500 ملياردير)، في حين تتزايد رقعة الفقر التي يقدر أنّها تشمل أكثر من 25 في المئة من المواطنين. وأمّا العاطلون عن العمل فهم أكثر من 700 ألف إنسان. وقد صنفت تونس ضمن الدول التي يتزايد فيها الفساد المالي والإداري. وعوض أن تتخذ السلطة السياسية إجراءات صارمة في حق التجاوزات التي حدثت خلال الفترة السابقة والتي حقق خلالها البعض إثراءً غير مشروع على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لجزء من التونسيين الذين يقبعون في البؤس الاقتصادي، نجد أنها تمنح لهؤلاء فرصة التفاوض على شروط المصالحة، وتضع لهم هامشاً للمناورة، مما سيعمق ثقافة الإفلات من المحاسبة القضائية والقانونية. فهذا القانون الذي صيغ بخلفيات سياسية، يتناقض مع فكرة دولة القانون. ومن ناحية أخرى يبدو أنّه انعكاس للتداخل الكبير بين النطاقين الاقتصادي والسياسي، إذ أنّ ولوج العديد من رجال الأعمال غمار الممارسة السياسية، سواءً عبر المشاركة في الانتخابات أو التمويل المالي للأحزاب، صار أحد الملامح المهمة لميدان الهيمنة. فمجموعات المصالح هي من صار يحدد إلى حد ما توجهات الفاعلين السياسيين، ويؤثر في خياراتهم. وقانون المصالحة يأتي كخدمة و كسداد لسلفة. فالمجموعات المالية المتنفذة مولت أحزاباً وشخصياتٍ سياسية، وساهمت في وصولها إلى سدّة الحكم. إن هذا القانون وفق منظمات حقوقية "يعطي لمنتهكي حقوق الإنسان ضوءاً أخضر للاستمرار في انتهاكاتهم، فعدم معاقبة الجرائم الاقتصادية يتسبب فقط في مزيد من الفساد".
ديناميكية شبابية للاحتجاج
خلق هذا القانون ردود فعل غاضبة وحنَقاً لدى الحركات الشبابية التي تناهض سياسات التحالف الحاكم. ومن بين الحركات المدنية المناهضة لهذا القانون، حملة "منيش مسامح" (لن أسامح)، وهي حركة يقودها شباب التحقوا بالعمل المدني بعد الثورة بفضل هامش الحرية الذي أصبح متاحاً، أو هم من الذين جربوا العمل السياسي قبل الثورة في إطار بعض الأحزاب التي كانت معارضة لنظام بن علي. ويغيب عن جلّهم التسييس المفرِط ويتحدثون بلغة غير مأدلجة يغلب عليها الطابع ''القيمي" المتعلق بالحرية والعدالة الاجتماعية وضرورة محاربة الفساد. وتطالب الحملة بأن يتم القيام بالمحاسبة القضائية قبل المصالحة، معتبرة أن الإفلات من المحاسبة هو خرق لمبدأ المساواة أمام القانون. ولهذا فمشروع رئاسة الجمهورية يستند على مبدأ غير قانوني وغير أخلاقي، ويتناقض مع مطلب الثورة التونسية الرئيسي والمتمثل في ''محاسبة عصابة السرّاق"، أي القضاء على الفساد. وتُعرّف الحملة نفسها كحملة مواطنية مجتمعية تضم كل من هم ضد قانون المصالحة الذي سيشرع مجلس نواب الشعب في مناقشته، وتعمل على تعبئة الرأي العام المحلي ضد مشروع القانون. والملاحظ أن أغلب من يقودون هذه الحملة وينسقون فعاليتها هم من الشباب الطلابي والتلمذي، ومن خريجي الجامعات العاطلين عن العمل. ويتحدث شباب حملة "منيش مسامح" لغة خالية من المواربة السياسية والإيديولوجية، ويقولون فقط إنّ هذا القانون هو خدمة لمصالح الأقوياء ويجب ألا يمر. لهذا فهم يحاولون التنسيق مع نواب برلمانيين معارضين للقانون، مع تأكيدهم الدائم أن الأجندات السياسية لا تعنيهم بقدر ما يعنيهم إسقاط مشروع القانون. وليس من المستغرب أن تكون الفئات الشبابية هي الأكثر حضورا في هذه الحملة، فهم المتضرر الأول من الفساد والسياسات الاقتصادية المجحفة، ولديهم إحساس بخيبة الأمل، وأن من نهبوا البلاد هم من يقع العفو عنهم. وتعتمد حملة "منيش مسامح" على شبكات التواصل الاجتماعي لتبليغ رؤيتها وحججها، وعلى التظاهرات التي تكون في الغالب في قلب شارع الحبيب بو رقيبة الرئيسي في تونس العاصمة، وقد امتد البعض منها إلى مدن كبرى مثل صفاقس وسوسة ونابل حيث تعيش فئات شبابية مدينية منخرطة بشكل أو بآخر في الشأن المدني. وتعمل الحملة على أن يكون تنظيمها أفقياً فهي أشبه بحركة بلا قيادات، وهو ما يتيح مرونة لأعضائها وأريحية في أخذ المبادرة، ولكنه يشكل بالمقابل نقطة ضعف جعلت قدرتها على التأثير في الرأي العام محصورة في نطاق شباب المدن الكبرى وجماعات الرفاق والصداقات والمناضلين الطلابيين، وبعض شباب الأحزاب. ويشكل غياب الإمكانيات المادية عائقا أمام تمدد الحملة إلى فئات ومجموعات أخرى مؤثرة على الرأي العام، كما أن عدم رسم إستراتيجية اتصالية واضحة إلى جانب التحركات الميدانية جعل مجال الحملة ضيقاً.
حملة في شراك المزايدة المحكاتية
شكل عدم وضوح الموقف السياسي للقائمين على حملة "منيش مسامح" تجاه بقية الفاعلين السياسيين، وانفتاحها على كل من هب ودب من الرافضين لقانون المصالحة أو من يدعي ذلك، فرصة لدخول أطراف سياسية موالية للإئتلاف الحاكم الداعم لقانون المصالحة والمستفيد من هيمنة ''المافيات الاقتصادية" على النطاق السياسي، وكذلك بعض الحركات الشعبوية، إلى حلبة المزايدة المحكاتية حول موضوع المصالحة، من خلال تبني المبدأ نفسه القاضي بعدم الاعتذار بغية وضع القائمين على حملة "منيش مسامح" في الزاوية، وتصوير تحركاتها بأنها جزء صغير من حراك كبير ضد الفساد. إن تعامل القائمين على الحملة مع قانون سياسي دون أي حس سياسي، ودون وعي بالسياقات السياسية الذي تتحرك فيها مبادرة قانون المصالحة، من الممكن أن يحولها إلى مجرد حالة احتجاجية عابرة، خاصة في ظل غياب هوية واضحة الملامح لها، وهو ما قد يسهل التلاعب بها وتوظيفها في كل الاتجاهات التي تخدم تحقيق مصالح سياسية ضيقة على حساب فعل جماعي مدني يبحث عن بلورة خطاب وإستراتيجية تناهض الفساد المستشري وتبعاته المتعلقة بالتهرب من المحاسبة، وتآكل القانون كقيمة عليا. لكن بمقابل هذا، يبدو أن حملة "منيش مسامح" تندرج ضمن الحركات الاجتماعية الجديدة التي تتبلور على أساس مرجعية قيمة مواطنية، وهو ما جعلها تتيح لمجموعة من الشباب التعبير عن ذاتيته، وعن طموحه بدولة عادلة خارج الأطر الحزبية والأنساق الإيديولوجية المتكلسة، حيث يجد بعضهم في مثل هذه الحركات إطاراً مرناً للمعارضة والاحتجاج وبلورة خطاب مدني. وتبدو المشاركة السياسية الشبابية في مثل هذه الحركات "مشاركة حدثية"، أي مركِّزة على أحداث بعينها، وهو ما يعيد بلورة طرق جديدة للالتزام بالشأن العمومي، إذ يتيح مساحة للذاتيات الفردية ويركز على القيم بدل الإيديولوجيا، وهذا ما يشكل في الآن ذاته مفارقة قوة حملة "منيش مسامح"، ومواطن ضعفها وحدودها.