سوق الحويش في النجف: ذاكرة ثقافية مهددة بالإبادة

يحتوي "سوق الحويش" على الكتب الدينية، الإسلامية وغيرها من مختلف المذاهب والأديان، بالإضافة إلى الكتب العلمية وكتب الأدب بمختلف أجناسها، مما يجعل زواره من جميع الأطياف والاهتمامات. يزور سوق الحويش الطبيبُ والمحامي، ورجل الدين، والمثقف، والشاعر. وكما نجد صحيح البخاري ومسلم، نجد كذلك "وهم الإله" و"آياتٍ شيطانية"! لا ممنوع في هذا السوق.
2023-06-15

علي فائز

كاتب وباحث من العراق


شارك
سوق الحويش اليوم

ما زلتُ أتذكر تلك اللحظة التي قرأتُ فيها أول كتاب. كنتُ حينها في مدينة النجف مع والديَ لزيارة المقبرة، ثم توجهنا بعد ذلك لزيارة مرقد الإمام علي الذي يقع أمامه أكبر وأعرق سوق للكتب في العراق، "سوق الحويش". سأَلتْ والدتي أحد الباعة عن الكتاب الذي يناسب طفلاً في سني، وكنت حينها في الصف الأول ابتدائي. كان الكتاب يحتوي على رسوم ملونة تتخللها نصوص وعظية وأخلاقية.

لم تُنحت في ذاكرتي مذاك سوى أربعة مشاهد من مدينة النجف: مقبرة هي من أكبر المقابر في العالم، ومراقد ومزارات لرموز دينية، ومقاهٍ تعطي وجهها للمقبرة حيث يمتزج الموت بالحياة مما يعطي فسحة للتأمل الفلسفي، وسوق كتب.

السوق، كان بمثابة الشعلة التي تضيء للناس دروب العالم والمعرفة بما جادت به أفكار الفلاسفة والكُتّاب. وتشتهر النجف بأسواقٍ وشوارع كاملةٍ من المكتبات بما تحتويه من مخطوطاتٍ وكتبٍ نادرة، أضخمها وأشهرها "سوق الحويش" من حيث عدد الكتب والمكتبات، ولا يوازيه في الأهمية إلا شارع المتنبي في بغداد.

مقالات ذات صلة

وتكمن أهمية هذا السوق في موقعه الجغرافي المجاور لضريح الإمام علي، إضافة إلى المدارس العلمية الكثيرة التي تحيط به، باعتبار النجف مركزاً علمياً دينياً وتجارياً مهماً. يبلغ طول المدخل الرئيسي للسوق 3 أمتار، يجاوره العديد من الأزقة الضيقة التي لا زالت تحتفظ بهويتها القديمة والتي بدورها تقود المارة إلى سوق الحويش.

مدخل السوق

يضم "الحويش" مسجد الترك ومسجد الهندي والأنصاري، التي تُدرّس فيها الى الآن مختلف العلوم الدينية. وحين تدخل إلى أحد الأزقة المؤدية إلى سوق الحويش تلفحك رائحة الورق والحبر العبقة، وتشعر أنك تتجول في بستان كبير حيث الكتب موزعة برتابة عالية على الأرض مثل سنادين الورد.

تشتهر النجف بأسواقٍ وشوارع كاملةٍ من المكتبات، بما تحتويه من مخطوطاتٍ وكتبٍ نادرة، أضخمها وأشهرها "سوق الحويش" من حيث عدد الكتب والمكتبات، ولا يوازيه في الأهمية إلا شارع المتنبي في بغداد.

وتعود تسمية سوق "الحويش" إلى منطقة الحويش التي ينحدر منها السوق، وهي مصغر "حوش"، البيت الصغير الذي تتوسطه باحة، وتمثّل بيوت الفقراء الذين قطنوا في هذا السوق ولا يزال بعضها قائماً. 

التقيتُ هناك بصاحب "دار المعرفة"، صلاح هادي، الذي يقول: "إن تاريخ سوق الحويش يرجع إلى أكثر من سبعمئة عام وهو يمثل واجهة النجف الثقافية، وهو معْلم يستقطب السياح وأهل المعرفة وطلاب العلم". يضيف هادي أنَّ "النظام السابق كان يراقب هذا السوق وكانت بعض الكتب تباع فيه سراً لأنها ممنوعة، ومن يُعثَرعليه يبيع أو يشتري هذه الكتب يكون مصيره ما وراء الشمس، لذلك يضطر بعض الكتبيين إلى تمزيق أغلفة الكتب ويلصقون عليها أغلفة عناوين كتب أخرى حتى يضمنوا سلامتهم".

ويقول هادي إن "من رواد السوق الشاعر محمد مهدي الجواهري، وعالم الاجتماع علي الوردي، ومصطفى جمال الدين، وعبد الرزاق عبد الواحد، وعريان السيد خلف، وسالم الأوسي، وبعض علماء الدين.

ويقال أيضاً إنّ ابن بطوطة، الرحالة المعروف، قد أشار إلى وجود هذا السوق، أو إلى النواة الأولى لنشوئه، عندما زار النجف سنة 770 هـ، حيث قال: "وجدت في النجف سوقاً للنساخين وسوقاً للصحّافين".  

أما عن دور الجهات المسؤولة فيقول أصحاب المكتبات إنه لا يوجد اهتمام من قبلهم، فلا وجود لمساعٍ تحفظ مكانة هذا السوق وإرثه ودوره البارز في مد شريان العلم بشتى أنواع المعرفة. وعلى الرغم من هذا الإهمال، لا زال النجفيون يعدّون السوق جزءاً مهماً من ذاكرة المدينة.

طلاب العلوم الدينية من مختلف أقطار العالم هم أكثر رواده، فالنجف هي مركز الحوزة العلمية وفيها بيوت مختلف العلماء، وتنتشر بالقرب من ضريح الإمام علي كثير من الحوزات العلمية التي تنهل مصادر علمها من هذا السوق، فضلاً عن تنافس دور النشر في طرح منتجها فيه. ويرتاده أيضاً المثقفون والجامعيون.

من رواد هذا السوق الشاعر محمد مهدي الجواهري، وعالم الاجتماع علي الوردي، ومصطفى جمال الدين، وعبد الرزاق عبد الواحد، وعريان السيد خلف، وسالم الأوسي، وبعض علماء الدين. ويقال أيضاً إنّ ابن بطوطة، الرحالة المعروف، قد أشار إلى وجود هذا السوق، أو للنواة الأولى لنشوئه، عندما زار النجف سنة 770 هـ.

يحتوي السوق على الكتب الدينية، الإسلامية وغيرها من مختلف المذاهب والأديان، بالإضافة إلى الكتب العلمية وكتب الأدب بمختلف أجناسها، مما يجعل زواره من جميع الأطياف والاهتمامات. يزور سوق الحويش الطبيبُ والمحامي، ورجل الدين، والمثقف، والشاعر. وكما نجد صحيح البخاري ومسلم، نجد كذلك "وهم الإله" و"آياتٍ شيطانية"! لا ممنوع في هذا السوق. وكشارع المتنبي في بغداد، فإنّ يوم الجمعة هو أكثر الأيام إقبالًا عليه

وعن سبب رخص أسعار الكتب في هذا السوق، يقول الكتبي نبيل محمد إنّ "الأمر يعود لكون أكثر دور النشر هنا هي لبنانية وإيرانية، وبسبب الظرف السياسي وصعود الإسلاميين إلى سدة الحكم وتجربتهم السيئة، فقد خفّ إقبال الناس على الكتب الدينية" مبيناً أنهم "يلجؤون إلى الكتب العلمية والأدبية، بالإضافة إلى أن أغلب طلاب العلم هنا من ذوي الدخل المحدود".

وعلى الرغم من اختلاف تسميات هذا السوق، فمنهم من يسميه "سوق الجواهري"، ومنهم من يسميه "باب القبلة"، إلا أن الاسم الذي عرف به واشتهر هو "سوق الحويش".

كان للروائي الكبير علاء مشذوب دوره في إيقاف عمليات الهدم التي طالت أماكن تراثية في مدينة النجف وكربلاء، لكنه لم يجن من صراخه غير ثلاث عشرة رصاصة استقرت في جسده فسقط ميتاً من دراجته الهوائية قرب بيته، ولم تكشف نتائج التحقيق أي شيء، كالعادة، على الرغم من مرور أربع سنوات على هذه الحادثة. 

في الوقت الذي أكتب فيه الآن، ما تزال آليات الحفر والهدم تحيط بأسوار السوق. فالعتبة العلوية أرادت هدم سوق الحويش التاريخي بغية توسيع المكان حتى لا يحصل الزحام وقت الزيارات والمناسبات الدينية. ولأجل أن يتم عملها من دون ردود أفعال، أغرت أصحاب المكتبات بشراء المكان بأسعار باهظة، كما قامت بشراء ذمم بعض الناشطين من أجل الترويج لهذا الفعل والحط من شأن سوق الحويش واعتباره سوقاً طارئاً على مدينة النجف وبأن لا مكانة علمية وثقافية له، وباَنه لا يعد من ضمن الأماكن التراثية التي تشكّل هوية المدينة. لم تكتفِ العتبة العلوية بهذا فقط، بل أدخلت في حربها الإعلامية العامل الديني والطائفي، إذ عدّت المعترضين على هدم السوق أعداء للإمام علي واتهمتهم بالخيانة إذ كيف يستنكرون هدم سوق الكتب من أجل توسيع مرقد الإمام؟! كل هذه الحملات المضادة جعلت الناس تتقبل الموضوع أو تصمت عنه على الأقل، أو تصرخ صراخاً لا يرجع بغير الصدى، فالجرافات تحفر وتقترب من هدم السوق.

يقول أستاذ الفلسفة فارس حرّام: "منذ 2003، عوّدتنا المؤسسات في النجف على إهمال العمق الثقافي للمدينة، بشقيه الديني والأدبي. أقرب مثال دورات مجلس المحافظة والمحافظين، الذين لم يقوموا، واحداً بعد آخر، ببناء متحف كبير وحقيقي يجمع تراث المدينة العظيم ومخطوطاتها التي تُعدّ بمئات الآلاف، وهي تتعرض يومياً إلى مخاطر التلف والفقدان والبيع خارج العراق. مؤسسات النجف كلّها عوّدتنا على إهمال تراث النجف، وهويّتها، والعتبة العلوية اليوم تنضمّ لها من دون رفة جفن".

ما تزال آليات الهدم تحيط بأسوار السوق. فالعتبة العلوية أرادت هدمه لتوسيع المكان حتى لا يحصل الزحام وقت الزيارات والمناسبات الدينية. ولأجل أن يتم عملها من دون ردود أفعال، أغرت أصحاب المكتبات بشراء المكان بأسعار باهظة، بل عدّت المعترضين على هدم السوق أعداء للإمام علي واتهمتهم بالخيانة اذ كيف يستنكرون هدم سوق الكتب من أجل توسيع مرقد الإمام؟!

وطالب حرّام أبناء النجف خاصة والعراقيين عامة، ومنظمة اليونسكو، برفع الصوت عالياً لإيقاف الجريمة التي ابتدأتها مؤسسات صدّام في الثمانينات والتسعينات، وتكملها الآن مؤسسات ما يُسمى بـ "العراق الجديد".

ضرب الذاكرة العراقية عمل ممنهج

في كل الأماكن المقدسة في العراق، وفي سعي إلى التمدد والتوسيع، يُعمَد إلى شراء المساحات المجاورة أو الحصول على موافقة بالهدم والتعويض، لغايات شتى تدور جميعها في فلك الاقتصاد. للروائي الكبير علاء مشذوب دوره الكبير في إيقاف عمليات الهدم التي طالت أماكن تراثية في مدينة النجف وكربلاء لكنه لم يجن من صراخه غير ثلاث عشرة رصاصة استقرت في جسده فسقط ميتاً من دراجته الهوائية قرب بيته، ولم تكشف نتائج التحقيق أي شيء، كالعادة، على الرغم من مرور أربع سنوات على هذه الحادثة.

بعد 2003، لم يكن هناك اهتمام بالشأن الثقافي والتراثي ضمن خارطة تفكير القوى السياسية والطائفية المهيمنة، باستثناء تلك الأماكن التي تشكل لهم أرضية صلبة يقفون عليها للتنافس والصراع مع الآخر، والمقصود هنا القبور والأماكن المقدسة التي تنتمي إليها هذه الجماعات. بل إن الأحزاب الإسلامية والجماعات الدينية كانت لها أدوارٌ في هدم صروح ونصب ثقافية تمثل ذاكرة البلاد، آخرها محاولة هدم تمثال أبي جعفر المنصور في مناسبات كثيرة، وهدم وإغلاق وتغيير أسماء بعض دور العبادة والمقامات المرتبطة بجماعات دينية صغيرة لا يكاد يُسمع صوتها كأنها تصرخ من قاع بئر عميقة.  

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العائدون من الحياة إلى الحياة!

علي فائز 2024-06-03

"يستحي الأسير العراقي من ذكر تجربته ويحاول تجنّبها، ويستمر في عملية التجنّب عقوداً طويلة. وغالباً ما يصاب الأسرى ب"عقدة الناجي". فالناجي من الشدائد الفاجعة، يُحمِّل نفسه ما يُسمّى بـ "ذنب...

فلسطين قضيتنا نحن العراقيين!

علي فائز 2023-11-11

استفز الرئيس الأمريكي جو بايدن ذاكرة العراقيين بعد أن نصح الإدارة الإسرائيلية بأن تكون الحرب على غزّة أقرب إلى ما حدث في الموصل عام 2016، وليس الفلوجة عام 2004، وأرسل...