يُحيل "التَّسْيير" - في نسق العادات والتقاليد الشعبية اليمنية - على عُرْفٍ اجتماعي، عادةً ما يتم تطبيقه على حدود المناطق الخاضعة لتقسيمات قبليّة وعشائرية، أو على حدود مناطق المتحاربين في أوقات الحرب.
وهو يُعنَى بتنظيم الطريقة المتّبعة في حال شخصٍ مُضطر إلى المرور في منطقة أعدائه، ليقضي أمراً من أمور الحياة المعيشة، من غير أن تتعرض حياته لخطرٍ أو اعتداء. وحتى يصل هذا الشخص إلى غايته، فإن عليه أن يستعين بهذا النظام الاجتماعي، الذي يُعدّ واحداً من أهم التقاليد القبلية في اليمن - سيما في المناطق الشمالية والشرقية - بوصفه صكّاً ضمنيّاً يقضي باستمرار حركة التنقل، وتأمين توفير احتياجات الحياة ومقوماتها الرئيسة.
تقوم عملية "التّسْيير"، على نوعٍ من العلاقة بين شخصين اثنين، في محيطٍ اجتماعيٍّ معادٍ لواحدٍ منهما. تُطلِق المحكية اليمنية على الشخص الأول منهما مصطلح "السّييْر"، وهو صاحب الحاجة إلى المرور الاضطراري في منطقةٍ لا أمان له فيها، كما تُطلِق مصطلح "المُسَيِّر"، على الشخص الثاني منهما، وهو الذي ينتمي إلى منطقة الخطر، وإليه يستند الأول في بلوغ غايته، بعد أن يشرع في إجراءات "التّسْيير": إذ يقترب من منطقة أعدائه، فيترقّب بدقةٍ متناهيةٍ ظهور أي شخص من أهلها، ويتقدّم إليه، يعرّفه إلى نفسه - إن كان لا يعرفه من قبل - ثم يقول له: "سَيِّرْني"، بمعنى رافقني إلى مكانٍ محدد. يستجيب له على الفور، حتى ولو كان هذا الشخص "السييْر" هو عدوه المباشر، فهذا العرف الاجتماعي يُحَتِّم عليه ألّا يغدر به، وألّا يسمح لأحدٍ بالنيل منه، كما يُلزِم أفراد المجتمع بعدم الاعتداء عليه، مهما كان مستوى العداء معه، لذلك فهم يشاهدونه مارّاً بمعية واحدٍ منهم، ملتزمين بصرامة هذا النظام الاجتماعي، تحاشياً لما سيترتب على الإخلال به من عقوباتٍ قاسية.
تنتظم الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية التي يرغب في قضائها أيّ شخص يستعين بعملية "التّسْييْر"، في سياق الضرورة الحياتية الماسّة، سواء كانت لقضاء حاجة شخصية أو للوصول الى السوق، وهو ما يقوم عليه - بشكل جوهري - هذا العرف الاجتماعي، امتداداً لسلسلة من الأعراف والتقاليد ذات العلاقة بتأمين المناطق التي تقع فيها الأسواق، إذ تحظى هذه المناطق باحترامٍ ومكانةٍ اجتماعية عالية.
على امتداد الحرب التي نشبت بين الملكيين والجمهوريين عقب ثورة 26 أيلول /سبتمبر 1962، واستمرت خمس سنواتٍ، لم تفقد منطقة سوق "الأمان" وظيفتها وأمان مَنْ فيها من الطرفين المتحاربين، إذ كان تسَوُّقُهم فيها قائماً على اتفاقٍ ضمنيٍّ، على ألّا يحدث فيها أيّ اعتداءٍ مهما كان الأمر. انتهت الحرب، واستمرتْ سوق "الأمان" زاخرةً بالحيوية المتنامية حتى الزمن الحالي.
والمُلْفت في هذا التقليد المتوارَث أن شخصَ "المُسَيّير" ليس مقصوراً على مَنْ تتوافر فيه صفات معينة، وإنما يشمل كل فرد في المنطقة، حتى لو كان هذا الشخص الذي ظفر به "السّييْر" طفلاً، فإنه يطلب منه المرافقة، فيلبي الطلب، بصفته مأهولاً لتنفيذه، ليس في قدراته الدفاعية الجسدية أو العمرية، وإنما في انتمائه إلى منطقة العدو، فيسري عليه ما يسري على الكبار فيها.
السُّوق و"التّسْييْر"
تنتظم الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية التي يرغب في قضائها أيّ شخص يستعين بعملية "التّسْييْر" في سياقٍ واحد، هو سياق الضرورة الحياتية الماسّة، التي تتوزع على مسارين: الأول متعلقٌ بالوصول الاضطراري إلى مكانٍ محددٍ في المنطقة المعادية، والثاني متعلّقٌ بالوصول إلى منطقة السوق، في حال ما كانت المنطقة المعادية حائلة دون الوصول إليها.
عن الأسواق الريفية في اليمن
02-10-2019
ومسار الوصول الاضطراري إلى منطقة السوق هو ما يقوم عليه - بشكل جوهري - هذا العرف الاجتماعي، امتداداً لسلسلة من الأعراف والتقاليد ذات العلاقة بتأمين المناطق التي تقع فيها الأسواق، إذ تحظى هذه المناطق باحترامٍ ومكانةٍ اجتماعية عالية، وهو ما يشير إليه أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء الدكتور حمود العودي، في كتابه "التراث الشعبي وعلاقته بالتنمية في البلاد النامية"، في سياق تأكيده أن هذه المناطق عادة ما يتم تحديدها جغرافيّاً بما يوازي مسافة أربعين إلى خمسين كيلومتراً من الجهات الأربع، بما في ذلك الجبال المحيطة بها وكل الطرقات والمسالك المؤدية إليها، على اعتبار أنها مناطق أَمْنٍ دائمة في شتى الظروف، ولها نظامها وضمناؤها من رؤساء القبائل والعشائر، ضماناً لاستمرار جلب المنفعة، وما يحتاج الناس إليه في حياتهم. كما يغلب أن يكون نشوب حرب طويلة هو الفاعل الرئيس في إنشاء هذه النوعية الخاصة من الأسواق. من مثل سوق "الأمان" الواقعة في منطقة "الحيمة"، وتبعد عن صنعاء بما مقداره ستون كيلومتراً، يعود إنشاؤها إلى فترة الحرب التي نشبت بين الملكيين والجمهوريين عقب ثورة 26 أيلول /سبتمبر 1962.
يقترب صاحب الحاجة من الشخص الذي رآه في المنطقة المعادية التي يبغي اجتيازها، ويقول له: "سَيِّرْني"، بمعنى رافقني إلى مكانٍ محدد. يستجيب له على الفور، حتى ولو كان هذا الشخص "السييْر" هو عدوه المباشر، فهذا العرف الاجتماعي يُحَتِّم عليه ألّا يغدر به، وألّا يسمح لأحدٍ بالنيل منه، كما يُلزِم أفراد المجتمع بعدم الاعتداء عليه.
تقع عقوبات صارمة على المعتدي فيما لو وقع اعتداء على من يسيّره، أما إذا ما وقع الاعتداء في منطقة السوق، فإن قواعد السوق تعاقب المعتدي بالنبذ الاجتماعي القاسي الذي لا يزول عنه إلّا بعدما يُنفذ ما تقضي به الأعراف الاجتماعية وما يتصل منها بتقاليد منطقة السوق خاصة.
وعلى امتداد هذه الحرب التي استمرت خمس سنواتٍ، لم تفقد منطقة سوق "الأمان" وظيفتها المتجانسة مع دلالة اسمها على أمان مَنْ فيها من الطرفين المتحاربين، إذ كان تسَوُّقُهم فيها قائماً على أمانِ اتفاقٍ ضمنيٍّ، على ألّا يحدث فيها أيّ اعتداءٍ مهما كان الأمر. انتهت الحرب، واستمرتْ سوق "الأمان" زاخرةً بالحيوية المتنامية حتى الزمن الحالي من استهلال الألفية الثالثة.
عقوباتٌ و"مُحْدَعَشْ"
قد يتعرّض "السّييْر" لأي نوعٍ من الاعتداء على حياته أو ماله أو عرضه، وهو في رفقة شخصٍ "مُسَيِّر" من أبناء منطقة أعدائه. وفي هذه الحال يلحق "العيب" و"التعييب" بشخص "المُسَيِّر" نفسه، فلا حدود لما يُفْرض عليه من عقوباتٍ اجتماعية وذاتية، جميعها لا تسقط عنه إلا بعد أن يثأر ممّن اعتدى على "سييْره". من تلك العقوبات أنه لا يحلق شعره، ولا يقترب من أهله إن كان زوجاً، ولا يُسْمح له بالزواج إن كان عازباً، ولا يأكل اللحم، ولا يظهر أمام الناس في المناسبات العامة، ولا يُرد إليه اعتباره إلا بعد التقاضي الذي يفضي إلى الاقتصاص ممّن اقترف جريمةَ قتلٍ في حق "سييْره"، أو بما يرضيه ويرضي قبيلته فيما لو لم يكن الاعتداء قتلاً، من خلال عملية صلحٍ يتواجد فيها طرفا هذا التقليد: "السييْر/ والمُسَيّر".
وفي حال ما كان الاعتداء واقعاً في منطقة السوق، فإن قواعد السوق تعاقب المعتدي بالنبذ الاجتماعي القاسي، الذي لا يزول عنه إلّا بعدما يُنفذ ما تقضي به الأعراف الاجتماعية وما يتصل منها بتقاليد منطقة السوق خاصة، والتي عادة ما تسير في اتجاهين، الأول خاص بالشخص المعتَدَى عليه، إذ يمنحه العُرْف الاجتماعي صلاحية أن يحكم بما يراه مناسباً لمستوى ما وقع عليه من اعتداء، وما يراه مناسباً لإعادة اعتباره، سيما لو كان المُعتدى عليه واحداً ممن تقوم عليهم حركة السوق من التجّار وجُلّاب المنافع والبضائع.
أمّا الاتجاه الثاني، فمتعلّقٌ بضمناء منطقة السوق، فمَن حاول القتل أو السّلب أو الإهانة، أو حاول القيام بأي سلوك أو فعل مُخلٍّ بأمن منطقة السوق وطرقاتها ومسالكها، فإن قواعد منطقة السوق وأعرافها تقضي عليه بـ "المُحَدعْش"، وفيه يقدم أحد عشر رأساً من الغنم أو البقر، أو إحدى عشرة بندقية، أو غير ذلك، حسب نوع الفعل ودرجته وخطورته، وفقاً لما يتسق مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية المعنية بتفاصيل الاعتداءات الواقعة في منطقة السوق ومحيطها.