يمشي التعليم في المغرب على ثلاثة أقدام، عمومي، وخصوصي، وعتيق. وقد ساهم هذا الأخير في تكوين حركة علمية لعبت دورا محورياً عم جل مناحي ومشارب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية إبان القرون الخوالي.
اشتهرت بلاد سوس بمدارسها العلمية العتيقة. وتمتد منطقة سوس بين أغادير وطاطا جنوب شرق المغرب، وقد عرفت مئات المدارس العتيقة، كتب عنها العلامة المختار السوسي. كانت منطقة طاطا محوراً تجارياً ربط المغرب بالتجارة الصحراوية مع بلاد السودان، وساهمت في نقل التأثيرات الحضارية والثقافية ما بين المغرب وأفريقيا، وتحديدا الثقافة الإسلامية. واستمرت التجارة الصحراوية في طاطا حتى بعد سيطرة الأوروبيين على سواحل بلاد "السودان الغربي" والصحراء، وفرضهم الحصار على تجارة الذهب والعبيد خلال القرن التاسع عشر.
مدرسة شعبية
المدرسة العتيقة عبارة عن مدرسة شعبية تُؤسسها قبيلة أو مجموعة من القبائل تجمعها أواصر القرابة، الدم والنسب والحسب، وتشترك في امتلاك الواحات والعيون. وهناك فرق بين المدرسة العتيقة والكتّاب القرآني المعروف بـ "الجامع" أو "المسيد" المنتشر في جل ربوع المغرب.
تُبنى المدرسة العتيقة من طرف أحد العلماء المعلمين المشهود لهم بالصلاح بدعم من القبيلة طبعاً، أو من طرف شخصية ذات حمولة سياسية، أو فكرية، أو دينية، أو مالية، أو هي تبنى لاعتبارات اجتماعية، لتحقيق حلم رواد أحد الصالحين بنشر العلوم الشرعية واللغوية والمعارف الأدبية والعقلية والكونية، من خلال تشييد مَعْلمة علمية.
يحج إليها طلاب العلم من كل فج عميق ومن مختلف البلدان والأمصار للنهل من معينها الذي لا ينضب والتزود بأخلاق علمائها، ويحمل كل متخرج منها لقب "الطالب".
وتعرِّف رشيدة برادة المدرسة العتيقة بأنها" بناية كانت تحبس لمزاولة التعليم وإيواء الطلبة الذين كانوا يفدون عليها قصد التعلم من مختلف أنحاء البلاد"، ومصطلح التحبيس يعني أن "هذه البناية كانت لا تمول من بيت المال، وإنما يحبس عليها من أملاك الرعية أو الحكام"، بحسب ما أورده جمال الحمداوي في دراسة له عن المدارس العتيقة بالمغرب.
المدرسة العتيقة قديما والآن
ظهرت ببلاد طاطا مدارس عتيقة خلال القرون الماضية، من بينها المدرسة التمنارتية، والمدرسة الأقاوية والمدرسة اليعقوبية. لم يبقَ من معظم المدارس إلا مسجدها أو بعض المعالم التي تندرج ضمن التراث المادي واللامادي، كأجنحة تلقي العلم وتحفيظ المتون وبعض المخطوطات والوثائق.
تعرضت المدارس العتيقة للاندثار، وصارعت القلاع العلمية الأخرى عوادي الزمن وصمدت في وجه الظروف الصعبة، ولا زالت تؤدي رسالتها العلمية متحدية المحن.
بلغ عدد مدارس التعليم العتيق بالمغرب 388 مَدرسة سنة 2013 ثلثاها بالوسط القروي، وحوالي نصفها بجهة سوس (في ماسة درعة)، بحسب تقرير صادر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الذي أضاف أن "عدد أماكن تحفيظ القرآن بلغ ما مجموعه 14.707 أمكنة للتحفيظ، موزعة على 261 مكانا داخل مدارس التعليم العتيق و14.446 خارجها، مع وجود أكثر من 90 في المئة من أماكن تحفيظ القرآن داخل المساجد أو مُلحقة بها"، وأن عدد المتمدرسين بأماكن تحفيظ القرآن بلغ 410.471 ألف متمدرس، تمثل نسبة الإناث منهم 33.56 في المئة، كما أن أكثر من 88 في المئة من مجموع المُتمدرسين لا يتجاوز سنهم 18 سنة، حوالي 35 في المئة من مجموعهم يتواجدون بالوسط الحضري، على الرغم من أن عدد أماكن تحفيظ القرآن في هذا الوسط لا يمثل سوى أكثر قليلاً من 17 بالمئة من أماكن التحفيظ.
الموارد والمنهج وشروط الدخول
تتجلى موارد المدرسة العتيقة في الأعشار والهبات والعطايا التي تقدمها القبائل والأهالي لها، بغية إطعام الطلبة ودفع أجرة الفقيه والمحافظة على استمرار دورها في نشر العلم وتقعيد الفقه وأصوله.
ويذكر أنه "بعدما تنتهي القبيلة من بناء المدرسة، فإنها تعمل على تمويلها إما بتخصيص بعض الأحباس كالحقول، أو بعض الحصص المائية، وهي:
- غلال الأملاك من حقول مسقية في الفدادين المحبسة على المسجد أو المدرسة أو الزاوية، هذه الفدادين غالبا ما تكون مجاورة للمدرسة حيث تستفيد منها طول السنة بما تغله من تمور وحبوب.
- أعشار يدفعها أفراد القبيلة يرجع مقدارها إلى أحوال الزراعة من خصب، وهي غير منضبطة في مقدار معين.
- هبات الزوار وهداياهم للمدرسة.
يمول المحسنون المدرسة، ويقدم الأهالي ثلث العشر لمؤونة الطلبة، ويعطي الفلاحون والرعاة الأعشار والزكاة، وتعمل الجمعيات المشرفة على تسيير المدرسة على جلب أموال لدعم الميزانية، هذا فضلا عن منح وزارة الأوقاف.
وتعد العلوم النقلية من أبرز العلوم التي تدرس بالمدرسة العتيقة، من فقه وأصول الحديث وتوقيت وتفسير ومبادئ الشريعة الإسلامية وقواعد اللغة العربية، وَتَعْرِف المناهج التربوية بالمدارس العتيقة إشكاليات عدة على المستوى المنهجي والمعرفي. ومن بين الأخطاء التي تعتري تلك المناهج التربوية ذكر الباحث عمر أفا "الطالب يتربى بمنهج تربوي مرت عليه قرون دون أن يتطور. فكان من الطبيعي أن يظهر هذا الانحطاط. ومن تجليات ذلك:
- تم اقتصار بعض الفقهاء على تدريس آراء الفروع الفقهية دون بذل مجهود بالرجوع إلى المصادر الأصلية.
- جعل الطالب يتعصب لرأي شيخه.
- عدم تكوين الطلبة على منهج نقدي.
- عدم إعطاء فرصة للمناقشة حتى يتمكن الشيخ من المحافظة على مكانته وهيبته.
- اعتماد كل فقيه على نفسه دون حاجته إلى الغير من ناحية الإرشاد، وعدم المشاورة في ما بينهم من حيث كيفية التدريس ومضمونه.
وتفتح المدرسة العتيقة أبوابها في وجه كل راغب في حفظ الفرقان والأحاديث ودراسة العلم والتمكن من المتون. ويشترط على كل طالب الالتزام بالأخلاق الحميدة والانضباط وحسن السلوك واحترام الشيوخ والطلبة. يسهر الشيخ المعلم على تطبيق برنامج "علمي"، بغية تكوين الطلبة تكوينا متينا وجعلهم ضالعين في العلوم وأصول الدين. ويوقر الطلبة شيخهم ويعاملونه باحترام منقطع النظير، ويمارس الشيخ المعلم سلطة على مريديه وتلامذته.
يؤطر العرف المدرسة أملاً في ضمان استمراريتها، وتنص بنود الأعراف المتواترة في أغلب المدارس العتيقة بالمغرب على:
- ضرورة أداء الصلوات الخمس جماعة في مسجد المدرسة، وتلاوة الحزب ـ الراتب - جماعة، صبحا ومساء، وحضور الدروس بانتظام واحترام الوقت المحدد لها وعدم التخلف عنها إلا بعذر شرعي، هذا مع مراعاة التحلي بالأخلاق الحسنة والحميدة وعدم اقتراف أي فعل مشين يسيء إلى سمعة المدرسة.
- جعل علاقة الطلبة مبنية على الاحترام المتبادل وشيوع الأخوة والمحبة والنصح في ما بينهم، وتقديم مبلغ مالي رمزي للشيخ المعلم أسبوعيا يعرف محليا بـ "الأربعاء"، وتقديم مبلغ مالي مرتين في السنة أو أكثر، يدعى "العواشر".
بعد أن يفلح الطالب في حفظ كتاب الفرقان لثلاث مرات متتابعة يُحتفى به ويوجه لدراسة العلم إلى أن يتمكن منه، ثم يأذن له الشيخ بالرحيل للتدريس في أي مكان بعد أن يمنحه شهادة تجيز له نقل العلم والتدريس، تعرف لدى العامة بـ "الإجازة".
تَخرّج من المدرسة العتيقة كوادر يتولون التدريس والإمامة والخطابة والتوثيق والعدالة والقضاء والحسبة، وحافظوا على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف على طريقة الإمام الجنيد في المغرب.
وقد وظفت الدولة المغربية المدارس العتيقة والطرق الصوفية والزوايا لضرب اليسار الجذري والمعتدل على السواء، والإسلام السياسي الذي ينازعها الشرعية القائمة على أساس الدين. وكانت هذه المدارس مفيدة أيضاً لكبح مطالب دعاة الحريات وحقوق الإنسان والمرأة، وعدم الجمع بين الثروة والسلطة، وتغيير الدستور، ومحاكمة ناهبي المال العام، واعتبار المغاربة مواطنين لا رعايا!