لم تمرّ احتجاجات طلاب الثانوية العامة المعارضة لقرار إعادة امتحان الديناميكا المسرب خلال امتحانات البكالوريا مروراً عابراً. صحيح لم تتحقق مطالبهم وامتثلوا بالنهاية للفرمانات القاطعة، إلا أن تجلّيات أخرى أوحى بها المشهد ككل. فإن كانوا هكذا يختصمون الدولة، فكيف يدافعون عن حقوقهم "المهدورة" في النظام التعليمي البائس الذي يعايشونه؟ ومن يختصمون؟ لقد مَثَّل كونهم "مواليد العام 1998" بُعداً آخر رآه المتابعون. فسرعان ما انصرفت الأذهان لتحسب عمرهم آنذاك - حين اندلعت "يناير 2011" وعبّأت الأجواء بنسائم الحرية والحق والكرامة. ولما جاءت الإجابة بأنهم غالباً لم يتجاوزوا الإثني عشر عاماً، جمح الخيال مداه وانطلقت الأسئلة: هل صحيح أنهم أبناء يناير، وماذا غرست بهم؟ تُرى هل هَدَتهم للمطالبة بالحق والعدل والمساواة أم أنهم ضلّوا للانفلات والتصارع والمغالبة؟ هكذا نَحا البعض لالتقاط ملمح مختلف للمشهد يبحث عن رصد آثار ملحمة يناير والحراك السياسي والاجتماعي الذي تلاها، على تطوّر الوعي الحقوقي لدى النشء في مصر.
الوعي الحقوقي على المستوى المدرسي
من داخل المدرسة جاءتنا الإجابة بـ "نعم"، أنه يمكن رصد تطور نوعي في إدراك الطلاب لحقوقهم، لا يمكن حمله المباشر على حدث سياسي أو اجتماعي بذاته، إنما هو تطور متدرّج يستمد من العبث المنتشر حوله أسباباً لينمو ويزدهر عاماً بعد عام، وإنْ على نحوٍ غير "سويّ"، ربما تساهم الأحداث السياسية والأحاديث الإعلامية في إزكائِه، بينما تظل الأجواء التعليمية البائسة المصدر الأهم لتدعيم وجوده، بل نشأته. هكذا غطّت تعقيبات المعلّمين على ما يمكن وصفه بـ "تطوّر الوعي الحقوقي لدى الطلاب" نبرة من "الأسى". بدا الأمر وكأنّ علاقة ندية صارت تجمع بين الطالب والمعلم، فمنح أحدهما "حقاً" يمثِّل انتقاصاً من حقوق الآخر! يحكي أحدهم: "طلاب الأجيال الجديدة يدركون تماماً حقهم في معاملة جيدة لا تتضمن أي تجاوز نفسي أو بدني. يطول مسامعهم الحديث عن ضرورة احتواء الطالب والنظر لسلوكياته السالبة كـ "حالة" تستدعي البحث الاجتماعي والنفسي، ويستغل بعضهم ذلك في استفزاز معلميهم بممارسات كيدية يعرفون حتمية مقابلتها من الآخر، المعلِّم، بمنطق تربوي "هادئ"! يُكمل آخر: "نرى اليوم طلابا يجيدون تقديم الشكاوى، ويعرفون كيف يدينون معلميهم ويعرِّضونهم للمساءلة. لكنه حين الجد وإحقاقاً للحق، يتنازل أكثر الطلاب عن حقهم إن ثبت أن ضرراً سيلحق بمعلّميهم"! وهكذا تنتشر صفحات فيسبوكية تدعو لتعليم أفضل، وتدعم التمرد على المناهج التعليمية البائسة وطرق التدريس البالية، وتؤكد على حق كل طالب في تلقي خدمة تعليمية جيدة. ولكن ربما يُصَعِّب المسألة وجود فجوة قيمية لا يمكن إغفالها ــ عند بعض المعلّمين ــ تتعلق برفض مراجعة "الأكبر" واعتبار ذلك "قلّة أدب"! وإنْ تخفّى ذلك وراء رفض الكيفية التي يطالب من خلالها "الأصغر" بحقّه، وكيف أنها لا يجب أن تمسّ كرامة "الأكبر" ومشاعره، إلخ...
بالنظر لحالة "الوعي الحقوقي للطلاب" فيما بين بعضهم البعض، كمجتمع إنساني مصغَّر تحتضنه المدرسة، يبدو الأمر أكثر سوءاً. فالإطار الحقوقي لكلّ منهم مشوشٌ إن لم يكن غائباً بالكليّة، ولغة الذراع هي الأعلى صوتاً والأكثر حسماً للخلافات الناشبة، خصوصاً بين الطلاب الذكور.
ولأن "حقوق الإنسان" تمثل الإطار الأشمل الذي يضمن فهماً حقوقيّاً حقيقياً ومتكاملاً للأفراد، فإن الحاجة لانحياز النظام التعليمي القائم لتربية النشء على الإيمان بحقوق الإنسان والوعي بها والاحتكام إليها، ضرورة تتأكد يوماً بعد يوم، وذلك بدلاً من الاصطدام المتكرر بالأجيال الجديدة جراء ما تتبناه من مفاهيم حقوقية قد تكون.. فردية ومغلوطة في كثير من الأحيان. كما أنه لا يمكن الاكتفاء بالامتثال "الشّكلي" والضحل لقرار الأمم المتحدة منذ 1995، بجعل الفترة (1995 – 2004) عقد التثقيف بحقوق الإنسان، والذي تلاه إقرار مادة "المواطنة وحقوق الإنسان" على طلاب الصف الثاني الثانوي، بالإضافة لتدريس "حقوق الإنسان" على استحياء للطلاب في مرحلة التعليم العالي بالجامعات المصرية. فالتشرّب بحقوق الإنسان يلزمه أن توضع تلك نصب الأعين منذ المرحلة الابتدائية، مروراً بالثانوية ووصولاً لمرحلة التعليم الجامعي. لذلك تضع الأمم المتحدة نهجاً متدرّجاً لتعليم حقوق الإنسان يبدأ من مرحلة الطفولة المبكرة حتى يصل لمرحلة الشباب، ووفقه فإن احترام الذات والشعور بالمسؤولية الشخصية والإحساس بالواجب هي المفاهيم الأساسية الواجب إكسابها للأطفال في الفترة العمرية بين (3 - 7) سنوات، بينما التفرقة بين الحقوق الفردية والجماعية وتقدير الحرية والمساواة والعدالة وسيادة القانون والتمييز بين الرغبات والاحتياجات والحقوق هي الأهداف الواجب تعليمها للأطفال بين (8 – 11) عاماً، فيما تأتي التوعية بالقانون الدولي والسلام العالمي والاقتصاد السياسي العالمي وإدماج حقوق الإنسان في الوعي والسلوك الشخصيين للفرد كمفاهيم تستهدف الفئة العمرية من (12- 17) عاماً. وفي ذلك يمكن الاستعانة بالعديد من الأنشطة التعليمية المقترحة والتي تساعد على تحقيق تلك الأهداف بجدارة.
لكنّ التحدي الأهم يتمثل في مدى إيمان القائمين على العملية التعليمية بتلك الحقوق، حيث "يتعيّن عليهم أن يدرِّسوا بطريقة تكون فيها حقوق الإنسان موضع احترام في حجرة الدراسة وفي البيئة المدرسية نفسها، ناهيك عن المجتمع العريض، خارج المدرسة". يحتاج التلاميذ ليس فقط أن يتعلموا عن حقوق الإنسان بل أن يتعلموا في بيئة تشكل نموذجاً لهذه الحقوق. وهذا يعني تجنّب الحالات التي يكون فيها ما يدرِّسه المعلم متعارضاً بوضوح مع الطريقة التي يدرِّسه بها! لأنه في هذه الظروف، "سيكون أكبر ما يتعلمه التلاميذ هو عن السلطة، أما ما يتعلمونه عن حقوق الإنسان فسيكون أقل بكثير".. بحسب ما ورد في مبادئ تدريس حقوق الإنسان "أنشطة عملية للمدارس الابتدائية والثانوية" الصادر عن الأمم المتحدة (عقد التثقيف في مجال حقوق الإنسان، 1995 - 2004).
حقوق الإنسان "غريبة"!
لذلك تبدو المهمة صعبة، خصوصاً أن الحديث عن "حقوق الإنسان" في مصر ما زال قاصراً على مجالس النخب وتجمعاتهم، بينما تخور كثيراً حجج الحق - وقت الجد - ما دام للأقوى مآرب أخرى! ويبقى التراشق بين النخب المتحاورة / المتصارعة كلٌ يتهم الآخر بأنه يلوك شعارات رنانة ويردد إنشاء فارغاً. لذلك تجد المصطلح غريباً على "الشارع"، فلن تلتقط إشارات لـ "حقوق الإنسان" إن استرقت السمع لحواديت ربّات البيوت وحكايا الرجال على المقاهي والاشتباكات الحوارية بين الركاب في المواصلات العامة. إذ لا يسلم الحديث عن الحقوق عموماً في مصر من همز ولمز وإشارة "للكوسة"، المصطلح الذي اخترعه المصريون للتعبير عن الفساد (تشير دراسة في جامعة "ويسترن ميتشيجان" الأمريكية، قامت بها الباحثة آشلي أوبرمان إلى عبقرية المصطلح، فهو يختلف عن كل تعريفات الفساد الأخرى، ويمتد ليشمل كل أنواعه، من قمة السلطة إلى قاع المجتمع). والتعبير يتسيّد الموقف في الوعي الشعبي للمشهد الحقوقي بوجهٍ عام.
وعلى كلّ ذلك، فهذا الحراك القيَمي والحقوقي الذي يضرب المجتمع بعنف يدفعنا لضرورة رصده واستيعابه والإحاطة به، خصوصاً من قبل القائمين على التعليم، وإلا فهناك المزيد من التشتت الحقوقي.