تستدعي دراسة بنية الدولة المغربية ملاحظتين تمهيديتين:
تنطلق الملاحظة الأولى من كون أعمال العلوم السياسية المشتغلة تتطرق عامة للسياسة في المغرب "كشكل حكومة" أو "كأسلوب العمل السياسي"، أو "كنظام سياسي"، أو "كنسق سياسي" أو كل هذه الأشياء مجتمعة..
تسعى الملاحظة الثانية إلى إعادة التذكير بأن الحقل السياسي المغربي كان في البدء يتكون من عدد قليل من الفاعلين (الفاعل الرئيسي، وإلى جانبه فاعلون ذوو أهمية متفاوتة، ومؤسسات معدودة...). وقد طبعت الحياة السياسية للبلاد خلال عدة حقب بعد الاستقلال سيرورة مأسسة بطيئة. وفي مرحلة لاحقة، وبالعلاقة مع متغيرات السياقات، عرف الحقل السياسي هيكلة مؤسساتية أعمق، كما عرف نوعاً من التأطير والتكثيف المؤسساتي، وذلك عبر تكاثر ملفت للنظر للهيئات والتنظيمات والفعاليات والمرجعيات.
ثلاثة تمثلات كبرى ميّزت المقاربات التحليلية للدولة المغربية:
1- كان الحديث سائداً، ولا زال، حول "دولة مغربية"، دولة واحدة، الدولة المغربية. نفى عدد كبير من كتّاب ومنظّري المرحلة الاستعمارية أن يكون للدولة المغربية أي وجود، وهي الأطروحة التي ما فتئت النظرة الوطنية تفنِّدها. والمغاربة، وأنا واحد منهم، كثيراً ما يؤكدون فخرهم واعتزازهم بكونهم نشأوا ويعيشون في دولة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، مما يميّزهم عن مواطني العديد من دول أخرى. ويقدم ذلك كأحد العناصر المحدِّدة لما يسمى أحياناً "بالاستثناء المغربي". هكذا، وبقوة كبيرة، أكدت أمّهات المراجع الأساسية للأدبيات السياسية المغربية ــ وخاصة أدبيات علم السياسة المهتمة بموضوع المغرب ــ على وجود دولة وطنية، وعلى دور محيط المغرب المليء بالتهديدات في تثبيتها وتقويتها منذ القدم.
وعلاقة جيلنا بالدولة الوطنية هي بالأساس علاقة مع دولة مغربية واحدة، متوفرة على أجهزة لتدبير مركزي للمصالح الجماعية، وبمنطق خاص بها، على أساس قاعدة اجتماعية محددة، عبر وبواسطة مؤسسات متميزة: إن وجود، وأقدمية ووحدانية بُنى الدولة المغربية تشكل معطيات أضحت أليفة ومألوفة من خلال الكتابات التي عايشناها منذ حقب (رموز الحركة الوطنية كعلال الفاسي، الوزاني، عبد الله إبراهيم، المهدي بن بركة.. وأمواج متتالية من مفكّرينا وباحثينا من أمثال: عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، عبد الكبير الخطيبي، بول باسكون، إلخ...). هذا البناء الأوحد والوحيد تحددت طبيعته كذلك من خلال المتغيرات السياسية: فترات من انخفاض درجة السلطوية في البلاد، سنوات الرصاص، فترات الليبرالية والانفتاح، مراحل الديمقراطية..
2- أشار الفاعلون السياسيون في سجالاتهم الحالية، بسبب قرب الانتخابات التشريعية، إلى وجود سلطتين (تصريح بنكيران). وفي الواقع، ألحّت العلوم السياسية حول المغرب، ومنذ زمن طويل، على ثنائية ذات طبيعة أخرى، وهي التمفصل الذي أدخله الجنرال الفرنسي "ليوطي" (أول مُقيم عام للمغرب بعد احتلاله من 1912 حتى 1925) في الحقل السياسي المغربي بين "الجديد" و "القديم"، بإيجابياته وسلبياته، بين "الدولة الحديثة" التي تَحدَّث عنها عالم الاجتماع الكبير "ماكس فيبر"، والتي ميزها عن "الحكم السلطاني" العتيق. ولقد تمّ إبراز العديد من الثنائيات الأخرى: هكذا مثلا تمّت مقابلة الدولة العميقة بالدولة المتغيرة، والدولة التاريخية (الناتجة عن تراكمات المحطات التاريخية الكبرى، وعلى المدى البعيد) بالدولة المرحلية (التي تدبر براغماتياً الظرفيات المتحوّلة). لكن الثنائية التي غالباّ ما يتمّ استدعاؤها تركز على تشكيلة سياسية تربط بين بنية مؤسسة على منطق تقليدي، وهو النمط التقليدي لإضفاء المشروعية، الذي يتحرك على أساس العلاقات الشخصية والولاءات، والوفاءات...، وأخرى تعتمد نمطاً حداثياً لإضفاء المشروعية، مبني على أساس القانون والعقل والبيروقراطية...
غير أنه يمكن تمثّل العلاقة بين البُعدين، (الحداثة والتقليد)، من زاوية مجاوِرة، أو من زاوية تَمفصُل أكثر قوة، أو من خلال فكرة الهَجانة (hybridity, hybridité). هناك مثلا تصنيفات فريدوم هاوس، أو البنية المركبة Composite (بول باسكون)، أو حتى المفهوم الكلاسيكي الموروث عن الفكر اليوناني "للنظام المختلط".
وفيما يُسمّى بالدراسات التاريخية التي تعنى بـ "الناس البسطاء" في صناعة التاريخ، "تاريخ العامة" (Subaltern studies)، فإن هذا الربط لا يمكن النظر إليه كمجرد تجميع لعناصر متنافرة فقط، وتجميع لمكونات متعددة، واحد زائد واحد، التقليدي زائد الحداثي.. ولكنه وبانصهار البُعدين يولّد شيئاً مختلفاً، آخر، ترابط لا يمكن اختزاله في ثنائية حداثي /تقليدي..
3- أصبح المشهد المؤسساتي منذ الاستقلال أكثر تعقيداً،على المستوى القاعدي للدولة كما على مستواها المركزي أو الوسطي: المؤسسات المركزية كالحكومة، البرلمان، السلطة القضائية، ومختلف الهيئات المركزية، والمؤسسات المستقلة، ومؤسسات الضبط، والوكالات، والإدارات، والجماعات الترابية.. لقد مررنا من بنية مؤسساتية خفيفة إلى هيكلة أكثر تعقيداً للمشهد السياسي.
أصبحت الدولة اليوم، بفعل المتطلبات الجديدة للحكَامة والضبط والتدبير، مختلفة تماماً عما كانت عليه في السابق. من هنا، على العلوم السياسية الجديدة، وبعيداً عن كليشيهات بعض الفاعلين السياسيين، أن تعيد اكتشاف ما هي الدولة الحقيقية الموجودة في واقع اليوم. إذ يبدو أنه يمكن تحديد الدولة المغربية بشكل أفضل، كما هو الحال بالنسبة للعديد من دول العالم في المرحلة الحالية، من خلال أعمالها وبناها ووظائفها..
لنلاحظ ــ بعيدا عن الحركات والتصريحات السياسية لفاعلين منغمسين في الصراعات السياسية الجارية ورهاناتها المباشرة ــ أنه لا يمكن للمحلل من زاوية معرفة "السياسي" اليوم، أن يماثل السلطة السياسية بالدولة. وأنه في الوضع الراهن تمَّ تجاوز فكرة إمكانية قيادة ممركزة بشكل كامل لأجهزة الدولة. كما تهيمن حاليا العديد من الأفكار التي غيّرت تماماً الملامح السابقة للدولة المغربية، منها كون الدولة تتشكل من مجموعة من التنظيمات المختلفة والمتميزة، تتواجد داخل شبكة مؤسساتية تتفاوت مكوناتها من حيث درجات مواقعها في الهرمية المفترضة. كما أنّه في حالات كثيرة، تأخذ مكونات الدولة شكل عناصر مستقلة نسبياً، كما تبدو في صورة تعددٍ في مراكز وقنوات ومضامين سيرورات اتخاذ القرار، وأن القرار بذاته كثيراً ما نجده في مواقع ما كنا نظنّ أنه يوجد فيها..
* نص المداخلة في ندوة "ثنائية النسق السياسي المغربي"، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط 26 تموز/ يوليو 2016.