أدّت الحرب إلى إفلاس مُمنهج للمنظومة الإنتاجية، تعمّق خلال السنوات الخمس الماضية مستعيناً بالفساد، وبتسلّط حلقات الربح الطفيليّ الممتدّة من الاستيراد إلى الاستهلاك المباشر. لكن السلطة تبرّعت مؤخراً بتقديم وصفٍ ثري لفداحة المشهد الاقتصادي، ونوت اصطياد قلق الناس مباشرةً بفِخاخٍ من مشاريع إنتاجية أسريّة وصغيرة ومتوسطة، تريد من ورائها تشجيع الدخول غير الريّعيّة، مستلهمةً حلمها من معطيات الاستنهاض الصناعيّ الأوروبي الذي قام إثر الحربين العالميّتين الأولى والثانية.
إنعاش الزراعة
تنوي السلطة البحث عن عوائد مجزية في "قطاعات الإنتاج الحقيقي" وقد بدأت الحكومة الحالية تُحيط قطاع الزراعة السقيم بتمائم كثيرة علّهُ ينبعث حيّاً من جديد. يُعلّق الفريق الحكومي آمالاً على تحفيز المدخلات الاقتصادية لهذا القطاع من جديد، باعتباره عصباً حيويّاً هاماً لقطاعاتٍ إنتاجيّة أخرى، كما له دور وازن في تثبيت المعدّل العام للأسعار. قد ترتبك نياتها لاحقاً أو قد تتقاعس، لكن الناس تستقبلها بقلّة اكتراث. يعلمون بأن مصائرهم لا تزال ممدّدة فوق محفّاتِ الصبر وقلّة الدهشة، من دون أن تحرّك نيات السلطة يأسهم المديد هذا. يسمعون منها الكثير، ولا يتغيّر شيء يُذكَر فوق خرائط الواقع المرتبك.
وخلال شهر تموز/ يوليو، دعت الحكومة إلى تشجيع الزراعات المنزلية. اقترحت تنفيذ قرابة خمسة آلاف حديقة منزلية كمنحة سنويّة مجانيّة في محاولة متأخرة لانتشال الريف السوري من العوز. تريد من خلال مشروعها هذا تقوية الإنتاج الزراعي والحيواني، وتوليد دخول حقيقية تجنّب أهالي الريف الموالي للنظام الإصغاء إلى معزوفة الرحيل وهجران مناطقهم، أو الاكتفاء بربط منظومة دخولهم بالرواتب الحكوميّة الزهيدة التي يحصل عليها أبناؤهم الموظفون.
وحين قرّر مجلس الوزراء مؤخراً السماح باستيراد الأعلاف وتقديم الدعم الحكومي لمعامل الأعلاف السوريّة، شرعت الحكومة تعلن عن مباشرة مشروعها التالي وكان موضوعه دعم تربية الدواجن في المنازل. تلك الرؤى تتعلّق بمشاريع الاكتفاء الذاتي التي تعلّق عليها السلطات المحليّة أيضاً آمالاً واسعة لتخطّي جور الغلاء الذي أنهك تماديه معظم المداخيل في سوريا. لكن كيف يمكن التأكد من سلامة تلك التوجّهات، ومن أنها ستكون مرصودة لمن يستحق؟ إذ من السهولة بمكان إفراغ تلك الرؤى من جدّيّتها، واصطياد المبالغ المرصودة لها من قبل متنفّذين في جهاز الدولة أو في سواه، على غرار ما كان يحدث في السابق.
حديث الحكومة مؤخراً عن دعم المشاريع الإنتاجية يشبه خطابات التعبئة العسكرية القائمة فعلياً. لم ينسَ المرأة، فخصّص لها مشروعاً أسماه "دعم المرأة الريفية" باعتبار أنها تشكّل نصف قوة العمل في الأرياف، واقترح منح قروضٍ لتشغيل مشاريع إنتاجية صغيرة ومتناهية الصغر. يريدون الآن تنمية الأرياف بسرعة، ويتناسون بأن هذا يُخطط له لسنوات، ويحتاج تراكماً معرفيّاً، ومنهجيّةً حكوميّة صادقة. إذْ لا يكفي أيضاً أن تَخُصّ البرامج الحكوميّة الجديدة قطاع الصناعات الزراعية بفريق عمل متفرّغ لدراسة تطوير هذا النوع. قسوة الواقع الموضوعي لا تحتمل تجريب المزيد من "النيات" ولا حتى إعادة دراسة ما سبقت دراسته. المركزيّة القويّة للسلطة، والبيروقراطية الشديدة قد تعيقان كل تلك التوجّهات منذ الآن.
جدوى التفكير بأنماط إنتاج منزليّة
قبل العام 2016 كان امتلاك أبواغ الفطر على أنواعه أحد أنواع الجرائم الاقتصادية في سوريا، وصنف من أصناف المحظورات. زراعة الفطر كانت محتكَرة من قبل أحد المتنفّذين في النظام الحاكم، مثلها مثل احتكار مزارع طيور النعام، ومزارع دودة القزّ، ومزارع "أمهات الفرّوج".
خلال العام الحالي فقط، ألغت السلطة احتكار امتلاك أبواغ الفطر، فصارت مديريات الزراعة تبيعها بأسعار تشجيعيّة للمهندسين الزراعيين، وبات شراؤها من قبل المواطنين العاديين أمراً متاحاً، ومنذ شهر نيسان/ أبريل، صرنا نسمع عن مشاريع منزليّة لزراعة الفطر. وهذا نمط إنتاج منزلي صغير مرتفع العائدية، حيث ينتج نصف كيلو من الأبواغ أكثر من ثلاثة كيلوغرامات من الفطر. ومن الممكن أيضاً جني قرابة خمسين كيلوغراما من الفطر خلال شهرين. الكثيرون أخذوا يزرعون الفطر المحّاري داخل صناديق خشبية يضعونها في أمكنة رطبة ومظلمة ضمن منازلهم، أو حتى في أقبية الأبنية السكنيّة التي يقطنون، يجنون إن أرادوا المتاجرة بإنتاجهم أرباحاً تقارب 100 في المئة. وخلال شهر تموز/ يوليو، عاد برنامج "مشروعي" إلى واجهة اهتمام إعلام السلطة، حين أعلنت إدارة المشروع عن افتتاح 43 صندوقاً تمويلياً جديداً في محافظة اللاذقية، وأن المشروع معني بتجهيز 14 صندوقاً تمويلياً كل شهر خلال النصف الثاني من العام الحالي. المعنيون بالمشروع قدّروا حجم الإقراض خلال العام الحالي بنحو 260 مليون ليرة، أي قرابة نصف مليون دولار، من المفترض أن تطال 171 قرية في الساحل السوري. وهذه قيمة متواضعة أمام ارتفاع الكلف التشغيليّة للمشاريع، وارتفاع المستوى العام للأسعار بصورة مضطردة.
وشهر تموز/ يوليو كان منذوراً لترصّد التصريحات الرسميّة الخاصة بالمشاريع الأسرية والصغيرة، فتصاعدت وتيرة الأخبار المحليّة ذات الصلة، وكأنها تريد اللحاق بموضة شهريّة. أحدها كان مصدره منظمة الاتحاد النسائي بحماه التي تعاونت مع دائرة التنمية الريفيّة وتنمية الموارد البشرية لتنظيم دورة تدريبية هدفها "تعليم كيفيّة تأسيس المشاريع الصغيرة لعائلات الشهداء".. وركّزت على إطلاق مشاريع زراعة النباتات العطرية والطبية والطرق الناجعة لتربية النحل والدجاج، كما وضعت قائمة من مشاريع أخرى كتعليم الخياطة وتعليم أصول صناعة الصابون داخل المنازل.
تمكين هذه الوحدات الإنتاجية ودمجها في حلقات التجارة المحليّة يبدو هدفاً مغرياً يمكن تشجيعه وتعميمه على نطاقٍ أوسع. وما يمكن حصاده هنا قد يستغرق سنوات، لكنه هام قياساً إلى جفاف الدخول الحقيقية في سوريا، والتضخّم المستمر، وتراجع المؤشرات العامة في قطاعات الإنتاج الحقيقية منذ سنوات. فقد انخفضت مساحات زراعة القمح في سوريا بمقدار 380 ألف هكتار بين العام 2010 والعام 2015، وهذا يعني خسارة ربع المساحة الكليّة المخصصة لهذه الزراعة في البلاد.
منطق الاستسهال والتركيز على الربحيّة الأعلى قاد المساحات المزروعة بالنباتات الطبيّة والعطريّة في منطقة الجزيرة السورية إلى الارتفاع من 6 آلاف هكتار عام 2010 إلى 71 ألف هكتار خلال العام الحالي. هذه الزيادة تضع أمامنا مكوّنات العقلية التي تدير قطاع الزراعة في اختيارها التوسّع في زراعات ذات كلفة أقل وربحيّة أعلى، بدليل أن المساحة المزروعة بالقمح في الجزيرة السورية صارت تمثّل خلال العام 2016 ربع إجمالي المساحات المزروعة، بينما كانت تسجّل عام 2010 نحو 40 في المئة من كامل الأراضي المزروعة.
المزيد من الاقتراحات التقشّفيّة
يوصي بعض المختصّين في الشأن الاقتصادي بترشيد الاستيراد إلى أقصى حدٍّ ممكن، وجعله مقتصراً ما أمكن على مستلزمات الإنتاج، والمواد الأوليّة، والأدوية النوعيّة. مثل هذه التوصيات تستبطن إيلاء الصناعة المحلّية أهمية قصوى، فتشجيعها بقرارات حكوميّة ليس كل شيء. المهم أن ينظر إليها القائمون على الشأن العام كاستراتيجية حقيقيّة لا يمكن تصفيرها، أو السماح بربطها بدوائر النفعيّة الضيقة التي تشكل منطق عمل جزء من بنية السلطة، وأحد أسباب تكوّن الثروات الشخصيّة الهائلة في ما مضى.