ألقى الإمام السّلام يمنة ويسرةً مُنهياً الصّلاة، فعجّ المكان بأصوات الأذكار والأدعية تصدحُ بها حناجر المصلّين والمقْرئين في نغمة عذبة موقّعةٍ يتردّدُ صداها بين أرجاء جامع عُقبة بن نافع وجنباتهِ، فتزيدُ المكان رهبة وجلالاً وتبعثُ في النّفسِ خشوعا سكن قلوبنا منذُ ولجنا باب الجلادين أحد أهمّ أبوب مدينة القيروان وأكثرها حركيةً، نجتازُ الأقواس المحمولة على الأعمدة الرومانيّة حتّى نصل باباً خشبياً عريضاً فُتح على مصراعيْه، نُقشت دفّتاهُ نقشاً بديعاً بالصفائح الغليظة والمسامير المحدّبة تأثراً بنمط الزخرف العربي الإسلامي. يتوسّط هذا الباب أبواباً أخرى تُجاوره وتقلُّ عنه حجماً. نعبر الباب فنجد أنفسنا وسط بهو طويل من الأروقة المقوّسة التي تُحيط بساحة الجامع من كلِّ جهةٍ، يحتمي بها المصلّون من لفح الشمس ظهيرات الصيف الحارة خاصّة أيام الجُمع، أو اتّقاء المطر والبرد خلال الشتاء. تستقبلنا ساحة الجامع الواسعة المبلطة بالمرمر يتوسّطها مدرج قصير يتألف من خمس درجات تعلوه ساعة شمسيّة مملوءة رموزاً وأشكالاً يُعرف بها الوقتُ حسب حركة الشمس وظلّها، كُتب أسفلها بخط نسخي"من عمل الفقير إلى ربّه الحليم الغفّار عبده أحمد بن قاسم عمار السوسي". غير بعيد عن الساعة تصطفُّ صهاريج جوفيّة لتخزين مياه الأمطار وحفظها، تُساهم مصفاةٌ من الرخام المنحوت قريباً منها بتنقيتها من الشوائب والأوساخ.
السياحة أو العمود الهش للاقتصاد التونسي
03-10-2018
وأنت تولّي وجهك الناحية الغربيّة للجامع يلفت انتباهك صومعته الشاهقة التي يصل ارتفاعها الى ثلاثين متراً، ذات الشكل الهرمي والهندسة الفريدة من نوعها بطوابقها الثلاثة التي تنتهي بقبّةٍ هائلة. بجانب هذه المئذنة كان ينتصب مجلس الإمام سحنون أشهر فقهاء المالكيّة ببلاد المغرب، ترك إرثاً عظيماً من المؤلفات ولا زال يحتلُّ في وجدان القيروانيين مكانة هامّةً بالحفاظ على ما استنّه من عادات كتكليف منادٍ يجوب الشوارع كلما توفي أحد للإعلام بخبر وفاته وموعد ومكان دفنهِ. وأنت تجول في أرجاء المكان تكادُ تسمع أصوات الصحابة وأتباعهم من العلماء والفقهاء ممن طبّق ذكرهم الآفاق، على غرار العلامة أسد ابن فرات الذي كانت ترتحل له وفود طلّاب العلم من كلّ الأصقاع، يأخذون عنه أصول الفقه والتفسير والحديث، والتي عُرفت حينها بــ "الأسديّة"، وهي مدوّنة علميّة فقهيّة نسبة لصاحبها. ولا غرابة والحالئذٍ أن تكون ابنته "أسماء" أشهر فقيهات القيروان في عصرها وإحدى رائدات زمانها في رواية الحديث وحفظ القرآن.
ولا علاقة لعقبة بن نافع بالجامع في هيأتهِ الحاليّة، لأنّ "زيادة الله الأوّل" هدم كلّ البناء السابق ولم يُبقِ إلّا على المحراب الموجود حاليًّاً خلف المحراب الأغلبي الذي يُعدُّ أقدم محراب في كافة العالم.
نغادر صحن الجامع ليستقبلنا الشارع الذي غصَّ بالأمواج البشريّة الوافدة من كافّة أنحاء البلاد احتفاءً بالمولد. وللمولد في مدينة القيروان رونقه الخاصّ وطعمه المميّز، فالمدينة تُعدُّ من أوّل العواصم الإسلاميّة بشمال إفريقيا وكانت مركز ومنطلق الفتوحات نحو بلاد المغرب والأندلس وأجزاء من البحر الأبيض المتوسّط، وفيها مدفون العديد من آل البيت وصحابة الرسول، ناهيك عن إيلاء أهل القيروان هذه المناسبة الدينيّة اهتماماً خاصاً والحرص على إحيائها في طابع احتفالي بهيج.
يلفت انتباهك في الناحية الغربيّة لجامع عُقبة بن نافع صومعته الشاهقة التي يصل ارتفاعها الى ثلاثين متراً، ذات الشكل الهرمي والهندسة الفريدة من نوعها بطوابقها الثلاثة التي تنتهي بقبّةٍ هائلة.
نسير عبر الأزقّة المتعرّجة والأنهج الملتوية ربْضٌ يُفضي بنا إلى ربْضٍ: "حومة الجامع" "حومة الشرفاء" "حومة الباي" "حومة القرامطة" "حومة الزدادمة" "حومة الخسالة" "نهج سبع لفات"...تستوقنا بداعة الرسوم النباتية والزيتية التي تعلو المداخل والنقوش على الجصّ التي تؤطّرها، وتدهشنا هندسة الأبواب. باب كبيرٌ بمصراعين تتوسّط الدفّة اليُمنى "خوخة" (الخوخة تعني الكوّة أو الفتحة وهي باب صغير ضمن باب أكبر، يتطلّبُ المرور منه انحناءة) رُصّعت واجهتهُ الخشبيّة بمسامير حديديّة سوداء محدّبة وحلقتين من الحديد تُستعمَلان لطرق الباب الرئيسي وثالثة أقلّ حجماً لطرق خوخة الباب، وهو نظام اجتماعي ابتدعته الثقافة الذكورية قديماً، إذْ من خلال صوت الدقّة تُعرف هويّة الزائر رجلاً أو امرأة، من أهل البيت أو غريباً، فمطرقة باب الخوخة للنساء والأطفال من غير البالغين، أما المطرقة الكبيرة للرجال من الغرباء عن البيْت، تعلو كلّ مدخل شرفة زرقاء مشبّكة لا تستطيع تبيّن وتفحّص ملامح الواقف وراءها.
حيثما أرسلت نظرك طالعتك المآذن والقباب، فالقيروان مدينة الجوامع والمساجد: جامع الباي، جامع الزيتونة، جامع اللولب، جامع المعلق، مسجد الحُصري، مسجد الأنصار الذي يقُول البعضُ إنّ تشييده سابقٌ للجامع الكبير أي جامع عُقبة، مسجد الفرج، مسجد الأبواب الثلاثة أو مسجد ابن خيرون نسبة لمؤسّسه "محمد بن خيرون المعافري الأندلسي" أحدُ كبار التجار الأندلسيين بالقيروان، وهو مسجد يفد لهُ المصلون من أبواب ثلاثةٍ متجاورة تُفضي بك مُباشرةً إلى بيت الصلاة.
"أسماء"، ابنة العلامة "أسد ابن فرات"، هي أشهر فقيهات القيروان في عصرها، وإحدى رائدات زمانها في رواية الحديث وحفظ القرآن.
نتوغّلُ أكثر ليستقبلنا السوق، قلب المدينة النابض والذي يمتدُّ من باب الجلادين جنوباً إلى باب تونس شمالاً ويفصل بين حومة الجامع وحومة الشرفاء. ويتألّفُ هذا السوق من مجموع أسواق فرعيّة: سوق الزربيّة، سوق اللفّة، سوق البلاغجيّة، سوق النحاسين الذي تشتهر القيروان بإنتاجهِ... ننعطف يسرة ونتّجه نحو "بئر روطة" أو كما يُسمّى باللهجة المحلية القيروانيّة "برّوطة" وهو مَعْلم مائي اُنشئ في القرن السابع ميلادي، يُعدُّ من أهم المعالم المائية التي كانت تزوّد القيروان بالماء قديماً مواجهةً لشُحّ الموارد المائية للمدينة، نصعد إليه عبر مدرج ضيّق، يحتوي على بئر يُستخرج منها الماء بطريقة تقليديّة على ظهر ناعورة يديرها جمل يخرج منها الماء بارداً في جرار من الفخّار. تقول الأسطورة إنّ من يشرب منهُ يعود زائراً. يحضرني قول "ابن شرف القيرواني":
يا بئر روطة والشوارع حولها *** معمورة أبدا تغُصُّ وتمتلي
يضمُّ المعلمُ إضافةً إلى البئرِ مقهى تقليدياً فُرشت دكّاتهُ بحصر من السمار الملون بالأحمر والأخضر وازدانت جُدرانه بقطع أثاث وأواني قديمة مستعملة تُضفي على المكان طابعاً فولكلورياً، نأخذ وقتاً للاستراحةِ نشربُ فيه "قهوة عربي" معطّرة بقطرات ماء زهر في مرشّ أنيق من النحاس، ونكسر طعم المرارة بقطع من المقروض القيرواني الأصيل المحشو تمراً ولوزاً.
بعد استراحة قصيرة نستأنف جولتنا فنتّجهُ إلى "دار العلّاني" وهي دار قديمة يعود تأسيسها إلى فترة الحضور العثماني بتونس، كانت مقرّ إقامة قائد القيروان وأضحت اليوم ملكاً لعائلة العلاني أحد أعرق العائلات القيروانية وأكثرها وجاهة، وتحوّلت إلى مزار سياحي ومركّب تجاري يختصُّ ببيع الزربية القيروانية الأصيلة التي تبدعها أنامل المرأة القيروانيّة. تراوح الدار بين النمطين المغربي والأندلسي وتُعدّ دون مبالغة آية من آيات الإبداع المعماري.
وغير بعيد عن "مقام الصحبي" توجد "مقبرة قريش" وفيها يرقُدُ العديد من آل البيت والتابعين والأشراف ويظلُّ أشهر قبورها قبر "زينب بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب" التي يُقال أنّها ولدت بتونس عندما كان والدها في جيش معاوية ابن حُديج لفتح إفريقيّا
خارج أسوار المدينة العتيقة وعلى تخومها يقعُ مقام الصحابي أبو زمعة البلوي، أحد صحابة الرسول، الذي شهد معه غزوة الحديبية وصُلح الحُديبية وبيعة الرضوان وشهد مع عمرو بن العاص فتح مصر.
تلج باب الدار نحو سقيفة واسعة تُفضي بك إلى باحة واسعة تعلوها قبّة هائلةٌ تُرصّعها طاقات زجاجيّة وتتدلّى منها ثريّا ذات فوانيس مضيئة كالأقمارِ تتوسّطُ هذه الباحة أربعة أجنحة على عدد نساء القايد (الوالي) حسب ما يقول أحد الأعوان المتواجدين هناكَ إضافة إلى قاعة اجتماعات وأخرى اُعدّت لغرض الترفيه فيها تُعقد المجالس الليلية والسهرات... ندلفُ أحد الأجنحة لنتفاجأ بتحوّله ورشة للنسيج، تتربّع خلف كلّ منسج امرأةٌ تُبدع بأناملها لوحات فنيّة بديعةً، تداعب أصابعها خيوط السداية المستوية أمامها كقُضبانِ القفصِ تُخلّلها برفق ومهارة خيوط الصوف المُلوّنِ ثمّ تضغط عليها بمشط حديدي لتثبيتها. وقد حافظت حِرفيات القيروان على هذا النوع من السجاد وحمايته من كلّ محاولات المكننة (أي الصناعة الآلية)، لذلك تُعدُّ الأجود والأفخر وحتى الأبهظ ثمناً على مستوى العالم. يطرحُ أمامنا أحد الباعة نموذجاً لأحد الزرابي المعروضة يُطلقُ عليها "زربيّة العروسة" وهي من العناصر الأساسية لجهاز أي عروس. يشرحُ لنا مكوناتها وعناصرها، يبدأ باللون الذي يطغى على سائر الألوان التي تُزينها والذي يُسمّى "الحميرة" (أي البرتقالي) ويمُرُّ إلى الأشكال الهندسيّة التي تُغطّي سطحها وهي أشكال مستوحاة من الموروث الديني والثقافي لمدينة القيروان، قاعتا الصلاة في جامع عقبة بن نافعة، الثريات التي تنيرهُ، المدن الأربع الإسلامية: مكة والمدينة والقدس والقيروان، قواعد الإسلام الخمسة، الخطاف، الياسمين، الفصول الأربعة، عدد أشهر السنة...
نتوغّل في باقي أجزاء الدار فنكتشفُ أصناف أكثر من المنسوجات التي تُستغلُّ في استعمالات يوميّة متعدّدة، وبعضها معروضة للبيع. ومن المؤسف ألا يُثمّنَ هذا المعلم ويُضمّ للائحة المعالم الأثريّةِ لما تختزلهُ هذه الدّار من خصوصيات حضارية وثقافية وسوسيولوجيّة لحقبة كاملة من تاريخ تونس.
سعيدة المنوبية، أو عائشة الصوفية، والنهضة
26-12-2012
خارج أسوار المدينة العتيقة وعلى تخومها يقعُ مقامُ الصحابي الجليل أبو زمعة البلوي، أحد صحابة الرسول، شهد معه غزوة الحديبية وصُلح الحُديبية وبيعة الرضوان وشهد مع عمرو بن العاص فتح مصر. اُستشهد سنة 34 هجرية خلال إحدى الغزوات الإسلامية لإفريقيا وقد دُفن في القيروان قبل تأسيسها، ليتحول ضريحهُ لاحقاً أحد أبرز المزارات الدينيّة في تونس لاسيما ليلة المولد النبوي الشريف، وفيه تُعقد عقود القران ويُختن الصغار وتقام معظم الحفلات الدينيّة...
ندلف أحد أجنحة دار العلاّني لنتفاجأ بتحوّله ورشة للنسيج، تتربّع خلف كلّ منسج امرأةٌ تُبدع بأناملها لوحات فنيّة بديعةً، تداعب أصابعها خيوط السداية المستوية أمامها كقُضبانِ القفصِ تُخلّلها برفق ومهارة خيوط الصوف المُلوّنِ ثمّ تضغط عليها بمشط حديدي لتثبيتها.
يتكوّنُ هذا المقامُ من مجموعة من العناصر المعمارية يسيّجها سور من الآجر الأصفرِ ويتوسطها ساحة فسيحةٌ، تتألف من مسجد وزاوية. الساحة فسيحةٍ ذات أروقة مسقوفة مفروشة حُصراً توزّعت بينها مجموعات من النساء، وتتصدّر هذه الساحة غرفة مضيئة تضمُّ مقام الصحابي أبي زمعة البلوي أو كما يسمّيه أهل القيروان بِ "السيّد الصحبي". السيّد: رفعة وتقديراً وإعلاء من شأنهِ، أمّا الصحبي فيُقصدُ بها الصحابي التي حُذفت منها الألف بمرور الوقت.
وغير بعيد عن هذا المقام توجدُ "مقبرة قريش" وفيها يرقُدُ العديد من آل البيت والتابعين والأشراف ويظلُّ أشهر قبورها قبر "زينب بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب" التي يُقال أنّها ولدت بتونس عندما كان والدها في جيش معاوية ابن حُديج لفتح إفريقيّا وكانت صحبتهُ زوجته التي ولدت لهُ زينب صاحبة هذا الضريح، والتي تُوفيت صغيرةً قبل تأسيس القيروان. وبصرف النظر عن مدى صحّة هذا الخبر من عدمهِ فإنَّ المؤكّد والثابت هو ما تضمّهُ هذه المقبرة من قبور فقهاء وعلماء أسهموا إسهاماً عظيماً في التأسيس لحركة علمية في القيروان لا تزال بعض مؤشراتها راسخة إلى الآن.
حافظت حِرفيات القيروان على هذا النوع من السجاد وحمايته من كلّ محاولات المكننة (أي الصناعة الآلية)، لذلك تُعدُّ الأجود والأفخر وحتى الأبهظ ثمناً على مستوى العالم.
تميلُ الشمس نحو الغروب وتزدان السماء بلون قرميزي، ومن كلِّ الاتجاهات تتعالى أصوات آذان المغرب. نقفلُ عائدين إلى وسط المدينة حيث سيُقام احتفال صوفي كبير. كانت القيروان مدينة الشعر بلا منازع ولا ريب في ذلك فهي بلاد الحصري، وابن رشيق وابن شرف وابن القزاز وعلى خطاهم سار اللاحقون من جعفر ماجد ومحمد الغزي ومنصف الوهايبي وغيرهم...