حين يتحدّث علي هزاع، الحلاق السبعيني، فهو لا ينظر إلى وجه محدِّثه، ويكتفي بالإطراق بعينين ثلجيتين في الفراغ. قال لي صديقي الصحافي وسام محمد، إن هذا الأمر يتأتى من تأثير التحديق الدائم والمطوّل في المرآة، والنظر للعالم من خلالها.
لا أحد في وسط شارع جمال بمدينة تعز اليمنية، لم يمر على صالون علي هزاع. صاحبه رجل قصير القامة، ونحيل، وأطرافه صلبة. عادة ما يلبس ثوباً أبيض. وتربطه علاقة صداقة بزبائنه الذين يتحدث إليهم مطولاً، بينما يقف في الخلف منهم. وعند الانسجام مع ما يقوله، يحدّق في المرآة، ويوقف مقصه عن الحركة، ما يثير الضجر قليلاً.
عندما اخترته لهذا اللقاء، كنت أعي تجربته المدنية الطويلة، وخصوبة ما تعنيه مهنته، وما يمثله وقوفه الطويل خلف جماجم الناس، والتحديق في ما يعتمل داخلها، على الرغم من أنه لم يحظ بتعليم نظامي. كان السؤال الأول عن المشاهير الذين قعدوا على كراسيه المنجّدة ليحلقوا رؤوسهم، كنت أظن أنه سيبدأ بالسياسيين، برجال الدولة، لكنه نطق بما لم أكن أتوقعه: الفَضول.
سألته: تعرف الفَضول؟ نعم، يعرفه. الشاعر اليمني عبد الله عبد الوهاب (1917-1982)، الذي ألّف كلمات النشيد الوطني للجمهورية اليمنية، ورفيق عرّاب الأغنية الوطنية أيوب طارش. لا يمكن لهذا الحلاق أن يغفل تفاصيل كثيرة أخرى عن زبونه المفضل: لم يكن ضخماً كما يمكن تخيله، "كان قصيراً ونحيلاً مثلي". ويأتي على ظهر سيارة "روسي" اشتراها من محال "الأصنج"، أول مورّدي العربات إلى اليمن.
يتذكر علي هزاع أولى بداياته مع هذه المهنة، الأيام التي ركض فيها طفلاً خلف اثنين من إخوته، يتجول في قرى مخلاف شرعب (غرب مدينة تعز) للبحث عن زبائن يقص لهم شعرهم. قال إنه كان حينها لا يستخدم إلا سكيناً لجز الشعر من الرؤوس ومقصاً مصنوعاً محلياً لتشذيب اللحى. تلك الأيام تصادفت مع تولي الإمام أحمد (1904-1962) مقاليد الحكم خلفاً لوالده.
وبالنسبة للوضع الاقتصادي لتلك المرحلة، يتذكّر هزاع أن "مدافن" الحُبوب لدى العائلة كانت ممتلئة، لوفرة ما كانوا يتلقونه نظير قيامهم بحلق رؤوس الفلاحين والمزارعين. لقد قعد لممارسة مهنته في الحقول وأمام أبواب المنازل، وفي سلالم الطمي والكلس. وتلقى نظير ذلك حبوب الذرة والسمسم وقضبان العلف والشوفان.
وفي سن مبكرة من عمره، قبل بلوغه العشرين، قامت ثورة 26 أيلول/ سبتمبر ضد الإمامة، ولذا تحوّل مع إخوته للعمل في السعودية، قبل أن يدّخر مبلغ ثلاثمئة ألف ريال، ليرسله على 3 دفعات إلى اليمن، ومن ثم يعود إلى شارع جمال بمدينة تعز ليفتتح أول صالون حلاقة له.
حينها كان قد تمّ الانقلاب على أول رئيس للجمهورية، المشير عبد الله السلال (1917-1994)، وتبوأ القاضي عبد الرحمن الإرياني منصبه (1910 - 1998).
الإرياني والحمدي
يعتبر هزاع الإرياني رئيساً ضعيفاً، وأنه ترك الأمور تتفسخ، تماماً مثلما فعل الرئيس هادي: كان رئيساً بلا جيش، وأعتقد أن بمقدوره حكم الشعب من المبنى الذي أنشأه قبل أن يتولى الرئاسة، بحي المجلية بتعز. ولا تزال عالقة في ذهن هذا المسن فكرة الإرياني لفرض الوحدة بين الشطر الشمالي والجنوبي بالقوة: جمع مسلحين ومشائخ من مناطق شرعب والحجرية وجبل حبشي ومناطق أخرى مختلفة، وأراد القيام باجتياح الجنوب بقوات شعبية لا تحمل سوى أسلحتها الشخصية الرائجة آنذاك، وهي "الفرنساوي" والـ "ميزار".
ويواصل هزاع وهو يضحك، أن القوات الجنوبية، التي كانت تمتلك أسلحة من بقايا الاستعمار البريطاني، واجهتهم بالمدفعية والدبابات، وأنه لولا تلافي الأمر لاجتاحت القوات الجنوبية تعز الشمالية، وانها بالفعل، كانت قد بسطت سيطرتها على أجزاء من محافظة البيضاء.
ويوجز الرجل نهاية هذا الرئيس بالتالي:
قام مجموعة من العسكر، باستخراج جواز سفر له بدون معرفته، وتم نقله إلى المطار. وعندما سألهم إلى أين نحن ذاهبون، ردّوا عليه: القاهرة.
جاء الرئيس ابراهيم الحمدي (1943 ـ 1977) بعد ذلك..
يتذّكر علي هزاع الرئيس الحمدي من خلال زميل مهنته محمد أحمد قائد، وهو صاحب أول صالون في حي المركزي، والذي روى له قصة:
حضر ابراهيم وهو ملثم. لم أتعرف عليه في البداية، وعندما خلع اللثام عن وجهه، سألته: هل أنت الرئيس؟ قال: لا، واصِل الحلاقة.
يقول علي هزاع إن صديقه واصَل الحلاقة، مع ذلك لا أحد يمكن ألا يعرف الحمدي، وطلب تقصير شعر رأسه وحلق شاربه ولحيته بالكامل. وفي النهاية رفض الحلاّق أن يأخذ نقوداً، فأصر الرئيس. وضع في قبضته 10 ريالات، ثم غادر.
تحاك الكثير من القصص حول شعبوية هذه الفترة من حكم اليمن. وبالرغم من أن هزاع كان في اليمن خلال فترة حكم الحمدي، إلا أنه لا يفتأ يتذكر المرويات الشعبية عن أن العامل اليمني لقي حظوة خلال تلك الفترة، حتى في السعودية، وأن هناك الكثيرين تمردوا على مرؤوسيهم، بل وصل الأمر ببعضهم لترك أعمالهم، نكاية، وعندما طلب منهم العودة ردّوا ببرود:
الحمدي ما ارضاش (أي لم يسمح لنا بالعودة).
ومن سمات تلك المرحلة ما قاله هزاع بلهجته السهلة: لم تكن لتسمع الداعي من المجيب، الكل يعمل، والكل يوقّص (يكسر أحجار للبناء)، ولا تجد عاملا ليعمل معك بسبب من انشغالهم.
ويرد ازدهار فترة الحمدي لقدرته على جذب العمالة إلى الداخل، والإعلاء من شأنهم بتوفير وظائف عمل لهم من خلال التعاونيات، وهي الفترة التي شهدت فيها البلاد مشاريع إعمار. وأنه قام بذلك من دون اللجوء للقروض الخارجية. ولذا كانت العملة اليمنية هي المتداولة الوحيدة في السوق.
عودة النعمان والحرب على المشائخ
من جملة مشاهير السياسة اليمنية، يتذكّر هزاع رئيس الوزراء الأسبق أحمد محمد النعمان (1909-1996). قال إنّه في فترة من حكم الرئيس علي عبد الله صالح، وعندما عاد الأول من القاهرة إلى مدينة تعز، سكن في منزل قريبه أمين عبد الواسع بشارع جمال، وأنه كان يذهب إليه أسبوعياً لحلاقة جزء من شاربه ورأسه.
علي هزاع، قال إن وفود رجال السياسة توالت على زيارة النعمان، ومن ضمن هؤلاء الشيخ (ع) الذي قال هزاع إنه حضر راجلاً برفقة عدد كبير من مرافقيه، وموكب كبير لمباركة عودة النعمان: "كان منتفخاً مثل سلة بلاستيكية".
يعتقد علي هزاع أن الشيخ (ع) شخص فاسد. وهو ما عرّج به لذكر حكاية وقعت أيام الرئيس ابراهيم الحمدي. يقول: وصلت للرئيس ابراهيم الحمدي شكاوى كثيرة من الأهالي عن تسلط وتجبّر الشيخ (ع)، فأرسل الرئيس قوات عسكرية لإيقاف طغيان الرجل.
يتحدّث الحلاّق والابتسامة تعلو شفتيه: لقد كان لدينا حينها جيش صغير بسلاح "كندا"، ومدفع.
وبحسب هزاع، فإن اليمنيات تطوعن لإعداد خبز وعصيدة لجنود الحمدي، الذين قادوا معركة أحرقوا خلالها منازل الشيخ الذي واجههم بقوة كبيرة، وقتلوا 2 من أولاده، قبل أن يتمكن من الهرب إلى السعودية: كان (ع) يمتلك قوة أكبر من الحكومة، "لمَ لا؟ فالبندق للشيخ، والدجاجة للشيخ، والبقرة للشيخ، والأرض للشيخ.. كل شي للشيخ، حتى أتى ابراهيم".
وبعد مقتل الرئيس الحمدي، وتولي صالح (مواليد 1942) رئاسة الجمهورية، أعلن عفواً عاماً، ومن ضمن الذين عادوا، كان هذا الشيخ. يقول هزاع: "وكمان رجع شيخ كما كان وأكثر".
علي هزاع تصادف أيضاً أن قام بحلاقة نجل هذا الشيخ، والذي صار في ما بعد عضواً لمجلس النواب. وأن الشيخ الأب (المتجبّر) حلق عند أخيه ذات مرة.
تغوّل المشايخ
يعتقد علي هزاع، أن صعود الرئيس صالح إلى صنعاء لتبوّء منصب رئيس الجمهورية في نهاية السبعينيات، بعد اغتيال الغشمي، كان بناءً على اتفاق ضمني مع الشيخ القبلي النافذ عبد الله بن حسين الأحمر (1933 - 2007)، وأن الطرفين تقاسما في ما بعد القرار والنفوذ، لذا ظل الناس يعيّرونه (يصمونه) خلال فترة حكمه، بأنه "صنيعة الشيخ".
ويرى هزّاع، في اجتماع اللجنة العامة لحزب المؤتمر الذي رأسه صالح، قبيل الانتخابات الرئاسية 2006، والذي أعلن فيه اعتزامه عدم ترشحه لرئاسة الجمهورية، فَكاكاً من سلطة الشيخ الأحمر، حتى يتسنى له الصعود إلى السلطة مجدداً، ليس بشرعية رجل واحد، بل بشرعية كل مشائخ الجمهورية، الذين يمثلون قوام اللجنة العامة.
على أي حال، لم يصدف أن حلق علي هزاع رأس أو لحية صالح. لكنه يعرف تفاصيل كثيرة عن السياسي الذي أدخل مصطلح الحلاقة إلى مفردات السياسة. ويرجع هزاع الازدهار المبكر لسلطة صالح، إلى الاستفادة من أخطاء برنامج التأميم الذي تم تطبيقه في جنوب الوطن إبان هيمنة الحزب الاشتراكي. ويتحدث عن أنه رأى وقتها بعض التجار يهربون تحت جنح الظلام من عدن إلى تعز، وأنهم أخرجوا أطفالهم وعائلاتهم من المدينة بالتقسيط. قال أيضاً إنّه كان يُمنع حينها السفر خارج مدينة عدن.
يقول هزّاع، إنّ صالح أمسك بزمام هؤلاء وترك للأغنياء حرية الحركة والتصرف مقابل منافع أخرى عززت نظامه. وهو ما أحدث في بداية حكمه ملامح ازدهار طفيفة، تلاها تحكم هؤلاء بخيوط الاقتصاد وتجييره لمصالحهم.