في العشرين من حزيران / يونيو الماضي أصدر قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، بياناً نقلته "وكالة فارس للأنباء"، حذر فيه حكام البحرين من أنّ ممارساتهم القمعية لن تُبقي "لشعب البحرين خياراً إلا المقاومة التي سيدفع آل خليفة ثمنها، ولن تسفر إلّا عن زوال هذا النظام المستبد". انتقد النظام البحريني رسمياً وعبر أدواته الإعلامية البيان كما انتقدته أغلب دول مجلس التعاون، بل إن ناطقاً باسم المجلس رأى أنّه يشير إلى أنّ "لدى الحرس الثوري خطة حقيقية لزعزعة الاستقرار في المنطقة".
أما الردّ السعودي فلم يتأخر طويلاً وكان أكثر وضوحاً. ففي التاسع من تموز / يوليو الماضي، وقف تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية السابق وسفير بلاده السابق إلى واشنطن، أمام المشاركين في باريس في مؤتمر دعت له منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانية، ليعلن تأييده للانتفاضات في إيران وأنه "يريد إسقاط النظام" في طهران.
توضيحات
تسارعت التوضيحات الإعلامية لما قاله المسؤولان الإيراني والسعودي. فمن جهة، رفض المتعاطفون مع الجنرال الإيراني اعتبار بيانه "تورطاً غير محسوب" أو "تحذيراً تكتيكيا" لتحفيز النظام البحريني على مراجعة قراراته. فالرسالة، حسب ذلك الرأي، هي من "مسؤولٍ لا ينفعل"، وبيانه يتضمن رسالة "لا تعبر فقط عن اللواء قاسم سليماني بل وتعبر عمن هو أعلى من اللواء قاسم سليماني". وبالغ آخرون فاعتبروا بيان الجنرال الإيراني "بات يمثّل موضوعاً ملحّاً لحسْمِ الخرائطِ في الإقليم وانطلاقا من البحرين". تجدر الإشارة إلى أنّ بيان سليماني صدر عشية إعلان النظام البحريني تجريد الشيخ عيسى قاسم من جنسيته. والشيخ قاسم هو المرجع الديني لـ "جمعية الوفاق"، أكبر التنظيمات السياسية في البحرين، والتي تمّ حظرها مؤخراً. وبذلك القرار، اندرج اسم الشيخ ضمن قائمة تزيد على 250 مواطناً بحرينياً جُرِّدوا تباعاً من جنسيتهم منذ أواخر 2012.
من جهتهم، بيّن المتعاطفون مع رئيس المخابرات السعودية السابق أنه تحدث بصفته الشخصية لا الرسمية، ولكنه في الوقت نفسه كان يعبّر عن "المزاج العام السعودي الرسمي والشعبي"، وأن مشاركته في المؤتمرهي رسالة تحذيرية إلى طهران بأن بإمكان السعودية أيضاً أن تتحرك لدعم أنشطة المعارضة الإيرانية داخل البلاد وخارجها. لم يربط الأمير السعودي إعلان رغبته بتغيير النظام في إيران ببيان الجنرال سليماني حول البحرين، ومع ذلك لا يمكن التغافل عن أن حضوره في مؤتمر "منظمة مجاهدي خلق" أتى في سياق التصاعد الملحوظ في المواجهات الإعلامية بين بلاده وإيران منذ رفع العقوبات الدولية عن الأخيرة في أعقاب التوصل إلى تسوية بشأن برنامجها النووي.
يبقى غامضاً سبب التوقيت الذي اختاره المسؤولان الإيراني والسعودي الرفيعا المستوى لتبادل التهديدات العلنية. فمعاناة المعارضة في البحرين ليست جديدة. وليست جديدة أيضاً معاناة المعارضة الإيرانية، وخاصة "منظمة مجاهدي خلق". فمنذ دخول القوات السعودية إلى البحرين في منتصف آذار / مارس 2011 (على أثر انتفاضة دوار اللؤلؤة، ضمن الحِراكات العربية التي سادت حينذاك)، زجت السلطات في السجن بآلاف المعتقلين وقُتل العشرات تحت التعذيب. وخلال السنوات الأربع الأخيرة، منذ تشرين الثاني / نوفمبر 2012، نزعت السلطة جنسية مواطنين بينهم أكاديميون ونواب وعمال ورجال دين وصحافيون. أما "منظمة مجاهدي خلق" فهي تعاني من التشريد منذ أن أغلقت السلطات العراقية المعسكرات التي خصصها لها نظام صدام حسين لتنطلق منها للتسلل إلى داخل الأراضي الإيرانية. ومؤخراً اضطُرت المنظمة إلى النزوح إلى معسكرات تستضيفها ألبانيا بتمويل من الولايات المتحدة الأميركية. ومع استبعاد احتمال جهل الأمير السعودي والجنرال الإيراني بهذه التفاصيل، يمكن افتراض أن للتهديدات المتبادلة مراميَ أخرى.
خطورة العبث بالتهديد المتبادل
ما يجعل التهديد المتبادل بين إيران والسعودية بتسليح المعارضة في الضفة الأخرى مقلقاً لمعارضي النظاميْن قبل مؤيديهما، هو أنّ تلك التهديدات ترتبط بتنازع النظاميْن على النفوذ في المنطقة. وقد انعكست آثار ذلك التنازع في ما تشهده مختلف بلدان المنطقة من نزاعات، معلنة ومضمرة، أدت لما هو حال اليمن وسوريا اليوم. ولهذا قد لا يمكن استبعاد أن يقوم الطرفان ـ أو أحدهما ـ بمغامرة أخرى يتحول بها التهديد المتبادَل إلى تدميرٍ متبادَل.
في ما يتعلق بـ "منظمة مجاهدي خلق"، فإنّ رهان السعوديين على دورٍ لها في تغيير النظام في طهران خاسر. فليس للمنظمة وجود فعلي بين الناس هناك منذ أن تورطت بالارتباط بنظام صدام حسين والمشاركة بجانبه في الحرب العراقية ـ الإيرانية. خلال تلك الفترة أيضاً ارتبط اسم المنظمة بعدد من معارك حرب العصابات في مدن إيرانية سقط جراءها الكثير من المدنيين. ولهذا لم تتمكن المنظمة حتى من المشاركة في أنشطة "الثورة الخضراء" التي شهدتها إيران في 2009-2010. وفوق ذلك فهي لن تستطيع أن تقنع الإيرانيين ممن يعادون النظام الإيراني، ويأملون تغييره، بأن التحالف مع النظام السعودي سيجلب لهم نظاماً يرفع رايات الديموقراطية وحقوق الإنسان. وعليه فإن أقصى ما يمكن أن يأمله المخطِّطون الاستراتيجيون في السعودية هو أن تستطيع المنظمة تكرار التفجيرات ومعارك المدن التي قامت بها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بحيث تُربك النظام وتثير مخاوف المستثمرين الأجانب من دخول السوق الإيراني. إلّا أنّ بين هذه النتيجة وتغيير النظام في إيران مسافات طويلة لن يستطيع النظام السعودي عبورها.
أما في ما يتعلق بالبحرين، فلا بد من التذكير بأن طبيعة البلاد الجغرافية وتركيبتها السكانية المتداخلة وتاريخ العلاقات الإنسانية بين مواطنيها فرضت على قوى المعارضة اعتماد أشكال مختلفة من المقاومة المدنية. وما عدا استثناءات قليلة ومؤقتة، التزمت بهذا الموقف أجيالٌ مختلفة من مناضلي الحركة الوطنية البحرينية، منذ نشأة أول تنظيماتها في منتصف القرن الماضي. بالمقابل سعى النظام، خلال تلك العقود، لاختلاق الروايات حول عنف المعارضة ومخابئ أسلحتها، وحتى ادّعى مصادرة سفن قادمة إلى البحرين محملة بالسلاح. وفي السنوات الأخيرة، وخاصة منذ 2011، نجحت السلطة في وصم كل عمل احتجاجي بالإرهاب، لا فرق في ذلك بين اعتصام في موقع أو تظاهرة تغلق شارعاً أو صبياً يرمي حجراً أو يافعاً يرمي قنينة مولوتوف. كما نجحت في أن تصمَ كل معارض، مهما كانت خلفيته السياسية، بالعمالة لإيران. بالضبط كما كانت تصم جدَّه أو أباه بالعمالة لجمال عبد الناصر.
احتمالان لما بعد التصعيد الإعلامي
ما لم تصل إيران والسعودية إلى تسويات عقلانية تضمن مصالح البلديْن، وتحمي شعوب المنطقة وخيراتها من التدمير المتبادل، كذاك الذي شهدناه جراء الحرب العراقية الإيرانية، فإن من الصعب التنبؤ بمآلات التهديدات المتبادَلة الأخيرة. فبدون التسويات العقلانية المطلوبة، سيؤدي هذا التصعيد الأخير إلى مزيد من التوتر قد يضع البلديْن والمنطقة أمام احتمالين. أولهما، وهو الأقل تشاؤماً، يفترض ألاّ تؤدي أقوال المسؤولَين الإيراني والسعودي إلى أكثر مما أحدثته من ضجيج إعلامي. وبهذا يبقى الوضع المتوتر تحت السيطرة. يستند هذا الاحتمال من جهة إلى القناعة بأن ليس من مصلحة الطرفيَن، ولا أصدقائهما الدوليين، دخولهما في مواجهة عسكرية مباشرة. فالوضع الدولي الآن ليس هو ذاك الذي مهَّد لاندلاع الحرب العراقية الإيرانية وأطال أمدها. كما يستند هذا الاحتمال من الجهة الأخرى إلى عجز الطرفين عن تحريك قوى معارِضة داخلية قادرة على تغيير النظام في إيران أو البحرين (أو غيرها من دول الخليج الأخرى).
أما الاحتمال الثاني، وهو الأكثر سوءاً، فسيكون نتيجة لترجمة تهديدات كلٍ من سليماني والفيصل إلى إجراءات تنفيذية على الأرض. عندها تقوم كلٌّ من إيران والسعودية بتدريب مجموعات معارضة وتسليحها وتوفير الدعم اللوجيستي لها، وصولاً إلى التدخل المباشر لتسريع تحقيق انتصارها.
يَستبعِد هذا الاحتمال كلُّ من ينظر بتمعن إلى موازين القوى في المنطقة، بما فيها جغرافيتها وتداخل تركيبتها السكانية، ناهيك عن أهميتها بالنسبة للفاعلين الدوليين. إلّا أنّه احتمال لا يمكن الجزم باستحالة حدوثه لمجرد أنّه لا يستند إلى قراءة واقعية لمعطيات ميزان القوى. فعلى سبيل المثال، وبسبب الاستناد إلى حسابات خاطئة، زُجّ بالعراق قبل ربع قرن في مغامرة "غزو الكويت" التي ما زالت تداعياتها تستنزف طاقات منطقتنا وتعيق تقدمها.