أسس الكاتب والمخرج المسرحي الألماني برتولد بريخت لما سُمّي "كسر الجدار الرابع"، أو كسر الإيهام، وهي المدرسة التي تقوم على إلغاء حالة الفصل بين العرض الفني والجمهور، وتجعل الأخير مشاركاً وليس فحسب متلقياً، وتستبدل حالة التماهي الشعوري بين الجمهور وشخصيات العرض بحالة من التفكير النقدي تدفع المشاهدين لرؤية أنفسهم كفاعلين وليس كمستقبلين فقط، مما ينعكس بعد ذلك على قدرتهم على الفعل الاجتماعي والتغيير، وعلى رغبتهم به. ولذلك سميت هذه المدرسة بـ"المسرح التحريضي".
ومن الواضح أن علينا اليوم استلهام بريخت في السياسة وليس في الفن فقط. فرغم أن الفعل السياسي في العالم العربي، ومن ضمنه مصر منذ 2011، كان بالأساس مبنياً على حركة الجماهير، ليس كمتلقين ولكن كفاعلين (حتى لو أراد البعض من أنصار "نظرية المؤامرة" الترويج لعكس ذلك)، إلا أن هناك بعض الأوهام المتأصلة عن كيفية إحداث التغيير ودينامياته. وزاد من حدة هذه الأوهام حالة انكسار المدّ الثوري وتراجعه في دول المنطقة، مما جعل التماهي مع الأوضاع وكأنها ظواهر طبيعية خارج إطار قدرتنا على التأثير، يبدو كسبيل ومخرج جمعي من حالة الإحباط والإحساس بالهزيمة، خاصة بالنسبة لمن كانوا الأكثر فاعلية في ثورات العالم العربي، وبالتالي الأكثر إحساساً بالفشل وانعدام القدرة. وعلى الرغم من تعدّد الأوهام، إلا أن ثلاثة منها هي الأكثر انتشاراً وتأثيراً، على الأقل في الحالة المصرية الحالية، وبالتالي في تصوّراتنا عن إمكانية الخروج من اللحظة الآنية البائسة وسيناريواتها.
أميركا محرّك الأحداث؟
أول هذه الأوهام هي أن "الخارج" هو محرك الأحداث، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، أو أنها على الأقل فاعل رئيس فيها، بحيث أن أي تغيير مشروط بموافقتها. كانت هذه أحد الأوهام التي حاصرت كل من حكموا مصر، من أنور السادات وحتى الإخوان المسلمين قبل فترة حكمهم وخلالها. وهناك التنويعات على هذه الفكرة، من "المؤامرة العالمية ضد مصر" إلى ما يُسمّى بالاستقواء بالخارج. وبتعبير آخر، اعتبار أن الضغوط الخارجية على النظام هي مَن يحسم إمكانية استمراره من عدمها. والحقيقة أنه رغم أننا بالطبع لا نعيش في جزيرة منعزلة، وأن التضامن و/أو الضغوط الدولية، سلباً أو إيجاباً، مهمة لأي نظام، إلا أن المبالغة في هذه الأهمية هي الوهم بعينه. فباستثناء الحربين العالميتين وغزو العراق، كان سقوط الأنظمة أو تغييرها مرتبطاً أساساً بالشروط السياسية الداخلية. ثانياً، مصر والمنطقة بشكل عام لم تعودا بالأهمية التي يتخيلها البعض بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، التي ينصبّ اهتمامها الآن على الصين كمنافس، وعلى توسيع الشراكة التجارية عبر أسواق دول المحيط الهادي والبرازيل، وعلى التنسيق الأمني لاحتواء دول مثل روسيا وإيران والهند وباكستان... السياسة الأميركية تجاه المنطقة مهتمة بتحجيم الإرهاب، وبضمان تدفق الطاقة، وبسيولة الخطوط الملاحية، وبأمن إسرائيل.. ولكن هذا الاهتمام ليس معناه الاستثمار في حسم نتائج أية صراعات حالية في دول المنطقة، ومن ضمنها مصر. باختصار: العالم، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، ليس مهتماً بنا، لا للتآمر علينا ولا لإنقاذنا. هم اليوم يحاولون تجنّب "شرورنا"، وتطاير شرر حرائقنا باتجاههم. ولا يغيّر من ذلك أن نصيباً من خرابنا الحالي هو من دون شك من "صناعتهم"، أو هو بعض نتائج مسلكهم حيال المنطقة وفيها، على صعد السياسة والحرب والاقتصاد على السواء.
توحيد الصف؟
الوهم الثاني المنتشِر لدى البعض ضمن معسكر الباحثين عن التغيير في مصر وداعميه، هو أن السبيل الأساسي للخروج من المأزق الحالي هو "توحيد الصف". وهذا ليس تصوّراً ساذجاً فحسب، ولكنه مضرّ، يدفع من يروّجون له لاستهلاك الكثير من الطاقة في مناقشة أمور لم تعد مطروحة واقعياً، لأنه يبني على شكل قديم لخريطة القوى السياسية، شكل لم يعُد موجوداً. مثلاً النقاش حول إمكانية العمل المشترك مع الإخوان المسلمين من عدمه، في حين أن هذه الجماعة نفسها منقسمة على ذاتها، وتجربتها في العمل السياسي منذ الثورة كارثية. وفي الوقت نفسه، فلا يوجد حزب سياسي يمثل ما يُسمّى بالمعسكر الديموقراطي حتى تكون هناك إمكانية لتحالف أو تفاوض مع الإخوان أو غيرهم. هناك حنين للحظة التي تقابلت فيها تيارات سياسية مختلفة داخل الاعتصام بميدان التحرير. والحقيقة أن هذه اللحظة لم تكن مؤقتة جداً فحسب ــ بمعنى انتهائها بمجرد تنحّي مبارك ــ ولكنها حتى في تلك الأوقات، فهي لم تكن بالرومانسية التي يُصوِّرها البعض. فلم يكن هناك اتفاق بين الأطراف المختلفة حول خيار التفاوض مع النظام من عدمه، أو حول خارطة طريق لما بعد، أو حتى حول طريقة إدارة الاختلاف السياسي وحسمه.. ورأينا مبكراً جداً تحول الخلاف لصراع صِفْري بين المعسكرات المختلفة. وبالتالي، فتصوّر أن هناك صفاً لتتم إعادة توحيده هو غير حقيقي قبل أن يكون غير عملي، والأحرى هو التفكير في كيفية "بناء" صف وليس تصوّر أنه موجود وعلينا توحيده.
النظام آيل للسقوط؟
أما الوهم الثالث والأكثر خطورة، فهو انتشار تصور بأن النظام الحاكم في مصر، بسبب هشاشته، هو آيل للسقوط بفعل عوامله الذاتية، سواء أكانت تدهور الوضع الاقتصادي أو فكرة أن هناك صراعات داخل الطبقة الحاكمة وبين أجهزتها الأمنية، أو بفعل ارتفاع تكلفة القمع. نعم، كل هذه العوامل موجودة بالتأكيد، والمؤشرات على هشاشة النظام والدولة ككل جلية. ولكن هذا لا يعني بالضرورة سقوط النظام، بمعنى طريقة إدارة الحكم أو المبادئ التي يقوم عليها. فالانفجار لا يؤدي بالضرورة للتغيير والبناء، والتصدع لا يعني الانهيار. هناك أسباب ذاتية تجعل تغيير نمط الحكم (وليس فقط الأشخاص) ضروري وممكن، وهذا الشرط ضروري ولكنه غير كافٍ، بمعنى أنه في حالة غياب محاولات لتقديم بديل، يصبح القائم هو الخيار الأوحد، حتى في ظل ازدياد السخط وتدهور الأوضاع. ليس هذا فحسب، ولكن الأخطر هو أن عدم الاشتباك في المعركة بحجة أنّها "معركة لا تخصّنا"، تجري بين أطراف في الحكم، واعتبار الاكتفاء بدور المشاهدين هو الاختيار الأحكم بانتظار أن تنتهي هذه المعركة، ثم بعد ذلك نستطيع "نحن" مواجهة من يتبقّى منها.. يجعل هؤلاء الساعين للتغيير خارج معادلة الصراع السياسي بالكلية. وهذا بمعنى ما، هو ما رأيناه على مدى خمسة أعوام، منذ اندلاع الثورة في مصر. فوجود أشخاص شجعان ومؤمنون بالتغيير، أو طرح أفكار جيدة وأكثر عدالة واتساقاً مع مصالح الأغلبية، لا يجعل هؤلاء رقماً ذا شأن في المعادلة السياسية وجزءاً من "بناء الصف" المشار إليه أعلاه. وهذا لا يتم إلا من خلال الاشتباك في معارك سياسية حتى وإن كانت تبدو في ظاهرها دائرة بين أطراف من داخل معسكر الحكم. فقبل سقوط حكم الاخوان في 2013، كان هناك سخط شعبي، وكانت هناك قناعة بين المهتمين بالشأن العام أن حكم الإخوان زائل، ولكن اطمئنان أصحاب تلك القناعة إلى إدارة المعركة عن طريق الجيش وأجهزة الدولة أتى بنظام أشد سوءاً مما كان يؤخذ على الإخوان.
... الفاكهة حين تنضج، فهي إما أن تسقط على الأرض أو تكون من نصيب مَن يقطفها، ولكنها بالتأكيد لا تذهب مهرولة لمن كان يشاهدها عن بُعد ويتمنى نضوجها.