أعاد زلزال تركيا وسوريا المريع في 6 شباط /فبراير 2023 "التفكير" في الكوارث الطبيعية إلى الواجهة من جديد.
تشكل الزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير والتسونامي وغيرها، كوارث "طبيعية"، وبالتالي كانت تتم دراستها من طرف العلوم "البحتة. لكن خلال منتصف القرن العشرين تنبه الباحثون إلى أن لتلك الكوارث جوانب انسانية واجتماعية، فبدأت العلوم الاجتماعية في الاهتمام بتلك الكوارث، وظهر في الولايات المتحدة الامريكية تخصص "دراسات الكوارث" Disasters Studies الذي يدرس الكوارث وتأثيراتها الاجتماعية باعتبارها مخاطر خارجة عن إرادة المجتمع ولا يمكن السيطرة عليها بحال، ويسعى لفهم الكيفيات التي يتلقى بها الناس والمجتمعات الكوارث وكيف يواجهون مخاطرها، ويعود الفضل في ذلك إلى عالم الاجتماع شارلز فريتز من مدرسة شيكاغو، الذي بيّن من خلال دراسته تهافت الكثير من التصورات المنتشرة حول سلوك الناس أثناء الكوارث وعدم صوابها.
لا يمكن لعلماء الاجتماع إنتاج كوارث مدمرة من أجل ملاحظة السلوك البشري ودراسته، لكن الكوارث لا تتوقف عن الحدوث، وهي تشبه اختباراً على نطاق واسع لقدرة المجتمعات على الصمود والمواجهة والتعافي. لذلك فإن تصورات الناس عن الكارثة مستقاة في أغلبها من التغطيات الإعلامية التي تفتقد للدقة العلمية، ويسود لدى الكثير من الناس انطباع بأن المجتمعات تنهار تحت الضربة الأولى للكارثة نتيجة للذعر الذي يسيطر على الأفراد وعدم القدرة على الاستجابة، وأنه في الصراع على البقاء يسود قانون الغاب، ومنطق البقاء للأقوى، وينتشر النهب والسرقة وتكثر الجرائم على نطاق واسع، ما لم تتدخل قوات حفظ النظام.
التفكير في الجائحة: كيف ولماذا؟
فما الذي يمكن للعلوم الاجتماعية كالسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرهما أن تخبرنا به عن الكارثة؟ وكيف يواجه الناس اللحظة الأولى للكارثة؟ وكيف يفهمونها ويتعاملون معها؟ وكيف يتعافون بعدها.. وغيرها من الأسئلة المهمة التي تبحث عن إجابات.
وبما أن تواجد الباحثين على الأرض إبان اللحظات الأولى للكارثة صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً، وتواجهه عراقيل مادية ولوجستية كثيرة، فقد اكتفى الباحثون بالاعتماد على ما يرويه لهم الناجون من قصص ومعاناة وتجارب عاشوها تحت هول اللحظات الصعبة. وانطلاقاً من تلك الروايات يسعى الباحثون إلى فهم الميكانيزمات التي تستخدمها المجتمعات في مواجهة الكوارث والكيفيات التي يوظفها الناس للمواجهة والبقاء تحت الظروف الصعبة.
لا يمكن لعلماء الاجتماع إنتاج كوارث مدمرة من أجل ملاحظة السلوك البشري ودراسته، لكن الكوارث لا تتوقف عن الحدوث، وهي تشبه اختباراً على نطاق واسع لقدرة المجتمعات على الصمود والمواجهة والتعافي.
على عكس ما هو سائد، بيّنت الدراسات أنه خلال اللحظات الأولى للكارثة لا يسيطر الذعر ولا الهلع ولا عدم القدرة على الاستجابة في مواجهة الصدمة غير المتوقعة للحدث، بل يبرز نوع من "التضامن الآلي" بين الناجين، مبني على المساعدة المتبادلة، حيث يساهم كل فرد بالمعارف والمهارات التي يمتلكها من أجل المجموعة، ويكون هذا التضامن في البداية مبنياً على وحدات أساسية صغيرة العدد، مثل الأسرة ومجموعة الجيران، حيث يتم توزيع الأدوار بشكل واضح.
____________
من دفاتر السفير العربي
مجابهة كورونا في المنطقة العربية - الفصل الأول
____________
تأخذ الأسرة أثناء الكارثة أهمية خاصة، حيث يتضخم دورها فجأة، وتصبح أولوية الأولويات، وتتحول إلى محور النشاطات الأول للناجين، ويصبح الوصول إلى المنزل أو أماكن تواجد أفراد الأسرة ولمّ شملها وجمعها مرة أخرى، الهاجس الأساسي الذي يتحكم في القرارات الأولى التي يتم اتخاذها، والتي قد تبدو في بعض الأحيان قرارات خطيرة أو حتى انتحارية. فقد غامر الكثيرون أثناء الزلازل بدخول المباني المعرضة للانهيار في أية لحظة بحثاً عن أفراد من عائلاتهم، إلا أن القوة العاطفية الدافعة لانقاذ أفراد العائلة والأقارب في هذه الحالات تحجب الألم والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الشخص.
بعد الأسرة تتوسع الدائرة لتشمل مجموعة ممتدة مثل الجيران والناس الذين يعرفون بعضهم بعضاً، وهنا يبرز القادة الذين يتولون دفة الأمور بناء على مكانتهم الاجتماعية أو معارفهم حول الكارثة، وفي أحيان أخرى يظهر بعض الناس كاريزما خاصة تجعل الناس يسلمون لهم ويتبعونهم.
والخلاصة أنه في الساعات الأولى من بعد الكارثة، لا يتفكك النظام الاجتماعي ولا ينهار، بل يتم تعزيزه ودعمه، ولئن كانت الكارثة تتسبب في فوضى مادية، فإنها في الوقت نفسه تخلق حاجة كبيرة لإعادة التنظيم، وهذا التنظيم هو محاولة لمساعدة الأشخاص الأكثر ضعفاً وهشاشة، مثل الناس الذين لا يزالون تحت الأنقاض أو الجرحى والمصابين، والذين يحتاجون للاعتماد على غيرهم ممن يمتلكون الدور الاجتماعي والمعرفة والمهارات في مجتمعاتهم قبل الكارثة، لذلك تكون الأسرة ومجموعة الجيران وحدات مهمة لأن الناس يعرفون بعضهم بعضاً ويقدِّمون من يتولى زمام الأمور لقيادة الجماعة.
مجتمع البقاء
في مواجهة الكارثة، يستدعي الناجون مهاراتهم الخاصة المكتسبة خارج سياق الكارثة، ويتم تفعيل الأدوار بقوة. وهكذا، غالباً ما يشارك الرجال في عمليات الإنقاذ أو جمع المواد اللازمة لضمان البقاء على قيد الحياة في الساعات الأولى.
على عكس الفكرة السائدة، بيّنت الدراسات أنه خلال اللحظات الأولى للكارثة لا يسيطر الذعر ولا الهلع ولا عدم القدرة على الاستجابة في مواجهة الصدمة غير المتوقعة للحدث، بل يبرز نوع من "التضامن الآلي" بين الناجين، مبني على المساعدة المتبادلة، حيث يساهم كل فرد بالمعارف والمهارات التي يمتلكها من أجل المجموعة.
في الساعات الأولى بعد الكارثة، لا يتفكك النظام الاجتماعي ولا ينهار، بل يتم تعزيزه ودعمه. ولئن كانت الكارثة تتسبب في فوضى مادية، فإنها في الوقت نفسه تخلق حاجة كبيرة لإعادة التنظيم، وهذا التنظيم هو محاولة لمساعدة الناس الذين لا يزالون تحت الأنقاض أو الجرحى والمصابين. وهكذا يتشكل "مجتمع البقاء"، الذي يظهر ويستمر ما دامت حياة الناس مهددة وعرضة للخطر.
يذهب روبرت نيسبت إلى أن وقوع الكارثة له تأثير منشّط على العلاقات الإنسانية، حيث يؤدي إلى تعبئة الطاقات البشرية الناجمة من أجل إرساء شكل من أشكال التكافل سريع الزوال، حيث يعتمد بقاء كل شخص على تماسك المجموعة. فمن جهة يحتاج الجميع إلى المجموعة للبقاء على قيد الحياة، وبالمقابل تحتاج المجموعة إلى كل شخص من أجل الاستمرار، وهنا يتشكل لدينا ما ندعوه "مجتمع البقاء"، الذي يظهر ويستمر ما دامت حياة الناس مهددة وعرضة للخطر.
إن الاعتماد المتبادل بين مختلف أعضاء مجتمع البقاء، يؤدي إلى ظهور "المساعدة المتبادلة" كشكل من أشكال العلاقة مع الآخر. ففي غياب المساعدة الخارجية (رجال الحماية المدنية والدفاع المدني والأطباء والمسعفون وغيرهم) تصبح المساعدة المتبادلة ممارسة ضرورية لا يحرّكها الواجب أو الأخلاق أو القيم، بل الضرورة الحيوية للاستمرار على القيد الحياة، وقد أشار الأنثروبولوجي البريطاني إيفانز بريتشارد في دراسته لقبائل "النوير" بالسودان إلى أن نقص الطعام نتيجة لفترات الجفاف المتكررة يجعل العائلات تتبنى "الاستهلاك المشترك"، لأن الندرة وليس الوفرة هي التي تجعل الناس كرماء باعتبار أنهم يقدمون اليوم ليأخذوا غداً، كنوع من التأمين التكافلي بين الأسر، يحميهم من الموت جوعاً، لأن "لحظة البقاء" تجعل كل قرارات الناس موجهة نحو شيء واحد وهو "الحفاظ على الحياة"، بغض النظر عن صاحب تلك الحياة أو ثمن تلك المحافظة، وهنا ترتبط المصلحة الذاتية بالمصلحة الجماعية لأنها لا تتحقق إلا من خلالها.
إن "مجتمع البقاء" المتشكل على أنقاض الكارثة هو مجتمع "ظرفي" و"مؤقت"، إلا أنه مع ذلك يقوم بتنشيط الأطر المعيارية والاجتماعية العادية للحياة الاجتماعية الموجودة سابقاً، والتي يستمد منها الأفراد الفاعلون شرعيتهم وأهميتهم، يساهم بذلك في "تسوية" التسلسلات الهرمية للأدوار بما يحفظ تماسك المجموعة ويجنبها صراعات الأدوار والمكانات. لأن الأدوار التي تخدم هدف البقاء فقط هي التي يتم تفعيلها بشكل قوي، أما الأدوار الأخرى عديمة الفائدة في ذلك الوقت فيتم تعطيلها إلى حين.
النهب والمقاومة
مع الكثير من الكوارث، نقلت لنا وسائل الإعلام مشاهد لعمليات نهب واسعة في مناطق معينة شملت المحلات الكبرى والمساكن الخاصة في الأحياء الغنية في المناطق المنكوبة، وعموماً فإن النهب "عمل متوقع" أثناء الكوارث ويحدث لأسباب مختلفة وبطرق مختلفة.
عند دراسة قبائل "النوير" بالسودان ظهر أن نقص الطعام نتيجة لفترات الجفاف المتكررة يجعل العائلات تتبنى "الاستهلاك المشترك"، فالندرة وليس الوفرة هي التي تجعل الناس كرماء باعتبارهم يقدّمون اليوم ليأخذوا غداً، كنوع من التأمين التكافلي بين الأسر الذي يحميهم من الموت جوعاً، و"لحظة البقاء" تجعل كل قرارات الناس موجهة نحو شيء واحد وهو "الحفاظ على الحياة".
"مجتمع البقاء" المتشكل على أنقاض الكارثة هو مجتمع "ظرفي" و"مؤقت"، إلا أنه مع ذلك يقوم بتنشيط الأطر المعيارية والاجتماعية العادية للحياة الاجتماعية الموجودة سابقاً، والتي يستمد منها الأفراد الفاعلون شرعيتهم وأهميتهم، يساهم بذلك في "تسوية" التسلسلات الهرمية للأدوار بما يحفظ تماسك المجموعة ويجنبها صراعات الأدوار والمكانات.
بينت الدراسات أنه في كثير من الأحيان يتم تقديم النهب كعمل "مشروع". ففي ظل الحالة الاستثنائية أثناء الكارثة يكون الحصول على الموارد الضرورية لبقاء الجماعة مثل الماء والطعام والدواء أمراً حيوياً، وبالتالي يبادر الناس إلى الحصول على تلك المواد بغض النظر عن الطريقة، فيقومون باقتحام المحلات والمنازل وتتم شرعنة هذه التصرفات وأخلَقتها باعتبارها من الضرورات التي تبيح المحظورات، لأنه عندما تكون الحياة معرضة للخطر، وفي الحال الاستثنائية التي تخلقها الكارثة، يظهر إطار معياري جديد تكون فيه لمصلحة المجتمع الأسبقية على مصلحة الفرد، تحت حجة البقاء، ويمكن حينها السماح بأفعال تعتبر في العادة غير قانونية وغير أخلاقية.
مدننا المريضة وأنثروبولوجيا الفضاءات
30-04-2015
وقد بينت مقابلات مع بعض الذين قاموا بعمليات نهب، أجرتها الأنثروبولوجية الفرنسية ساندرين روفي في دراستها لكارثة الانزلاقات الأرضية في فنزويلا سنة 1999، أنهم كانوا واعين بتصرفاتهم ومدركين للحد الفاصل الذي يفرق النهب "المشروع"، والنهب "غير المشروع"، فما كانوا يقومون به هو التوفير الاستعجالي للمواد الضرورية، وقد اكتفوا بالضروري من المواد ولم تمتد أيديهم إلى أبعد من ذلك، على عكس المجرمين الذين امتدت أيديهم إلى كل شيء بالنهب والتدمير خاصة الأشياء الثمينة والغالية، وهو عمل إجرامي لا يمكن تبريره بضغط الحاجة.
وفي مواجهة انتشار مظاهر النهب وأعمال العصابات والمجرمين، يقوم الناس في الكثير من الحالات بتنظيم أنفسهم في مجموعات من أجل التصدي للنهب والدفاع عن الممتلكات الخاصة. وفي أحيان كثيرة تقوم هذه المجموعات بتطبيق قانونها الخاص من أجل استعادة النظام على الأرض، لتصبح هي القاضي والجلاد. وأحياناً تحدث تجاوزات وانتهاكات وعنف مضاد يؤدي إلى سقوط ضحايا آخرين يضافون إلى قائمة الضحايا الأصليين للكارثة.
بينت الدراسات أنه في كثير من الأحيان يتم تقديم النهب كعمل "مشروع". ففي ظل الحالة الاستثنائية أثناء الكارثة يكون الحصول على الموارد الضرورية لبقاء الجماعة مثل الماء والطعام والدواء أمراً حيوياً، وبالتالي يبادر الناس إلى الحصول على تلك المواد بغض النظر عن الطريقة، فيقومون باقتحام المحلات والمنازل وتتم شرعنة هذه التصرفات وأخلَقتها باعتبارها من الضرورات التي تبيح المحظورات.
على عكس الأزمات الاجتماعية باعتبارها "خللاً" داخلياً يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية وبالتالي إثارة الانشقاقات داخل المجتمع، يمكننا الذهاب إلى أن الكارثة باعتبارها "تهديداً" خارجياً غالباً ما تؤدي الى تذويب الفوارق الاجتماعية وتوحيد تصرفات الناس نحو هدف محدد وهو البقاء على قيد الحياة. فهي بطريقة ما عامل توافقي يساعد على تجاوز الآثار المدمرة للكارثة.