جاء تصالح الإسلام السياسي مع الميديا الاجتماعية والفنون متأخراً. فبعد محاولات عديدة لتبخيس هذه الوسائل في التعبير، يحاول الإسلام السياسي اليوم استغلالها كنوافذ لدعايته.. ومن بين هذه الوسائل: فن الكاريكاتير، الذي لم يشفع له كونه أكثر الفنون الإنسانية نباهة وخفّة للإفلات من المحاولة.
دأبت صُحف ومواقع إلكترونية تابعة أو مقربة من حركة حماس على نشر "رسومات كاريكاتيرية" كتلك التي ينشرها بين الحين والآخر بهاء ياسين الكاريكاتوري في صحيفة "الرسالة" المقربة من الحركة، نشرتها في 31 تموز / يوليو 2015 عبر حسابها على تويتر. الرسم يصوّر "الضفة" الغربية كامرأة تتعرض للاغتصاب من قبل جندي إسرائيلي، ومن قبلها كان ياسين نشر على صفحته على فيسبوك كاريكاتير آخر يصوّر الفتاة الجامعية كعاهرة، ليواصل نشر رسومات من هذا النوع كان آخرها في 21 آذار/ مارس 2016 حيث صوّر أهالي غزة كشخصين جالسين في مكان مفتوح، يدخنان النرجيلة فيما يقف شخص ملثم ويشير إليهم بيده قائلاً: "مش حرام هاظ (هذا) المجاهد يموت علشان هذول الكلاب يعيشو"، ووسم لوحته بهذه بعبارة: "الشهداء يريدون تطبيق شرع الله". المثير أكثر أن هناك الكثير من نشطاء وأبناء الحركة يدافعون عن الأفكار التي تتبناها رسومات ياسين. على الرغم مما أثارته من استفزاز وغضب في الشارع الفلسطيني، إلا أن ياسين يُظهر إصراراً على الاستمرار بإنتاج كاريكاتير مسيء لكل ما هو غير حمساوي في المجتمع - من "الفتاة الجامعية" إلى الفلسطينيين في "الضفة الغربية" وأخيراً "مدخني النرجيلة" - لتسقط فرضية أن الأمر مجرد سوء فهم أو سقطة عابرة.
الأمر متعلق بخطاب اللحظة التأسيسية "المشوّه" الذي أنتجته حركة حماس تجاه الآخر الفلسطيني، والذي ترعرع عليه جيلاً كاملاً من أبناء الحركة في التسعينيات، هم الآن نشطاؤها ورساموها والمدافعون عن خطابها هذا. ويأتي دور الكاريكاتير في تضخيم هذا التشوّه، لتصبح رؤيته أكثر سهولة، فالكاريكاتير "فن مبالغة" بلا شك، كما يرى برغسون، الفيلسوف الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للآداب.
جرى منذ 1760 استعمال مفهوم القارئ بخصوص مستهلكي الكاريكاتير. ويرى الباحث التونسي علي البوجديديّ في معرض دراسة مقتضبة قدمها للولوج إلى رسومات ناجي العلي، أنه يمكن الاستفادة كثيراً من الإنجازات اللسانيّة في دراسة الكاريكاتير، خصوصاً فيما يتعلق بـ"سميائيّات الخطاب البصرية". وهو يعتقد أن لوحة الكاريكاتير تقوم على توليف مجموعة من العناصر، من قبيل الأقوال اللغويّة المكوّنة للقول الأيقونيّ والفضاء التّشكيلي، و"من تعالق عناصر اللّوحة (الأيقونات، الأقوال) تنبجس الدّلالة". غير أنّ الدّلالة في الكاريكاتير، فضلاً عن العناصر الدّاخليّة للخطاب، لا تتحدّد في كثير من عناصرها "إلاّ بناء على مؤشّرات خارجية"، ولهذه العناصر المرجعية والسّياقات السياسية والثّقافية مع المكوّنات الأيقونيّة للوحة، تولّد دلالة ساخرة. يستنتج الباحث من ذلك أن اللّوحة الكاريكاتوريّة هي خطاب متكامل تتوفّر فيه أركان الخطاب المعروفة:1- الباثّ (الرسّام الكاريكاتوريّ) 2- الرّسالة ( اللّوحة الكاريكاتوريّة) 3- المتقبّل (المشاهد/ قارئ اللّوحة).
وبالنظر إلى الخطاب الذي ينتجه كاريكاتير الحركة، نلاحظ أن هذا الخطاب يعكس النظرة الاجتماعية المتداوَلة بين أبناء الحركة العاديين وعلاقتهم بكل ما هو غير حمساوي في المجتمع. فالبيئة التي ترعرعوا فيها أقرب لإنتاج هذه النمط من الخطاب نحو الآخر، وهو يعبّر عن أبناء الحركة العاديين وعن نظرتهم وعلاقتهم بالآخر أكثر مما يعبّر عنهم الخطاب الرسمي للحركة. فقد اضطرت هذه إلى ضبط خطابها الحركي الرسمي (وتنميقه) تدريجياً وبشكل متزامن، كنتيجة لحاجتها إلى إنتاج "خطاب حكومي" منذ 2006، وعلى الرغم من وجود نماذج متعددة لسقطات مستفِزة للمجتمع الفلسطيني، حتى في التصريحات الرسمية لقيادة الحركة، والأمثلة على ذلك كثيرة - من بينها تصريح النائب عن حركة حماس في المجلس التشريعي جمال نصار الذي رد به على اعتراض لتجار غزة بأن "المواطن هو المتضرر من الضرائب" كما جاء على لسانه، كذلك تصريح فتحي حماد حين كان وزيراً للداخلية أن وزارته تنوي مراقبة "مستوى الرجولة".. فقدرة الحركة على إنتاج خطاب حكومي مرحلي ومتأقلم هي أكثر فاعلية من التغير الجذري نفسه الذي قد تكون نتائجه وخيمة عليها كونه يمس بأفكارها المؤسِسة التي تتعلق بطبيعة الحكم وتطبيق الشريعة والنظرة للمجتمع الفلسطيني والصراع مع إسرائيل.
فإذ كانت الحركة إلى حد ما قد تمكنت من ضبط وتنميق خطابها اللغوي بصورتيه الكتابية والصوتية – لما يخضع له من سلطة التحرير والمونتاج- قبل تصديره، فإنها ما زالت غير قادرة على ضبط خطاباتها الأخرى. وهكذا فمن الصعب عليها ضبط الخطاب غير اللغوي الذي تعكسه لوحات الكاريكاتير، ويقحم هؤلاء فن الكاريكاتير في إنتاج خطاب تكتسيه في كثير من الأحيان المعاداة تجاه كل ما هو غير حمساوي في المجتمع الفلسطيني.. فيصبح أداة لإعادة إنتاج الكراهية.