رمضان وديك الحارة
التمّ شمل الحارة على مائدة إفطار واحدة في ساحة بيت احدهم.
طبعا مع اللّمة، كانت الوجبة الرئيسية "هش ونش"، والوجبة الرئيسية الثانية "كبّه نيّة"، والوجبة الرئيسية الثالثه "فتُّوش"، والبداية طبعا شوربة عدس.
رغم فخامة الوجبة، إلّا أن الأطباق الخضراء كانت من البلاستيك ممّا قلّل من فرحي، لأنّ طعم البلاستيك الذي ذاب القليل منه في الشوربة أصابني بمغص وامتعاض.
لكن فرحي الأكبر، كان لأنني أصبت بهديتي التي كانت عبارة عن مشاعل، أثارت في الجو إعجاباً من الجميع دغدغ شهيتي للمديح، كما فرحت الطفلتان أمنية وليال بمصابيح رمضان، رغم أنّ المقطوعة الموسيقية التي اندلقت منهما سيئة، صنعت في أقاصي الصين، غير مفهومة الهويّة، وإذا ما كانت الأغنية باللغة العربية أم بالصينية.
لم تدع إحدى الجارات التي اتفق الجميع على تحييدها من فرحة المجموعة، وكان هناك اتفاق حماسي على عدم الخوض في سيرتها، رغم قرار النساء بأن يذهبن في رحلة معاً، "خلي عينها تتطلع"، وفوق هذا كله لم يكن اللحم من دكان زوجها، الذي لم يكن "حمش" بما فيه الكفاية ليمنعها من الشكوى لدى الشرطة، بسبب وضع أصص الورد على جدار بيتها، تحت ذريعة أن الأصص ممكن أن تسقط على سيارتها، التي يبلغ ثمنها مئة ألف دولار.
لم يكن من السهل سماع الآذان، مع الضحك وصوت النار وهي تهتاج على دهن اللحم الذي ذاب فوق فحم لم يتحول إلى جمر بعد، مما أدى إلى عواصف من الدخان الأسود، انتشر في الساحة دون انتظام.
لكنّ جوع البطون يعرف الموعد أكثر من آذاننا، ودون إعلان، جلس الرجال على طاولة، والنساء والأطفال على طاولة أخرى. بما أني عنيدة وحرون، اخترت الجلوس مع الرجال، لكن مواضيعهم التي اقتصرت على تفاصيل زيارة سيقومون بها بعد الإفطار مباشرة، وصوت النساء وهن يتمايلن من الحبور بالجَمعة الرمضانية، سرّع من ابتلاعي للشوربة، وانضممت لهن وشاركتهن في تخطيط رحلة ما بعد العيد.
نهض الرجال وقفة واحدة، وأشعلوا سجائرهم وتوجهوا نحو سياراتهم وبقيت النساء، تتحدثن وتأتين بأطباق الكنافة والبوظة والمثلجات، ثم القهوة في الثالثة صباحا.
صاح ديك الجيران كعادته، وضحكن معاً، لأن ديك الحارة يصيح في الليل وينام في النهار، بعكس خلق الله، لكن في رمضان، لم تكن مشكلة لأن الجميع ينام مع ديك الحارة في النهار. المشكلة كانت مع الدجاجات اللاتي قرّقن في عز القيلولة، يبحثن عن مكان لوضع إنتاج الليلة الفائتة.
***
أبو هريرة وهيفا
تأرجح الرجال على مقاعدهم بعد إفطار دسم ويوم عمل مرهق، أمسكوا بأطراف أصابعهم بمبسم النرجيلة، ونفخوا من أفواههم دخانا كثيفا، ثارت رئتاي المسكينتان على هذا التعدي، في هذا الجو اللطيف، والليلة المضيئة بالقمر المتآكل الذي حامت حوله شعلة الحظ الطائرة المصنوعة في الصين، فبدت وكأنها النجمة التي تهدي الملوك إلى مغارة المسيح.
وبدأ سمر الرجال والنساء في انتظار السحور، الذي سيأتي بسرعة ونحن نأكل الشمام والبطيخ والتين السباعي والقطايف والسحلب والقهوة والكثير الكثير من السجائر والنرجيلة.
-"خليه يأذن مرتين، مرتين.. مرتين، أصلا على مين بيرد؟ ولا بيرد غير ع راسه، قد ما قلنا له، يا أبيض .. يا أسود وأبدا ما بيرد".
لم أتمكن من معرفة هوية المتحدث، إذ جميعهم تحدثوا وهم يقذفون بالبذر المتبقي من بطيخة لم يبق سوى القليل من عصيرها وسط صينية من الألمنيوم المسمى حديثا بِـ "نِروستا".
لكن الشاب الذي مال نحو تقليد الرّجال مبكرا، قال بعجب، وليؤكد عجبه فتح عينيه الذي تحول خضارهما إلى الأصفر، ربما بسبب التعرض لحرارة الشمس على سطوح البنايات الشاهقة التي تبنيها مدينة تل أبيب في تسارع متزايد هذه الأيام:
- "أبو هريرة سكن مع النبي سنتين بالعدد، وصار عدد الحديث الشريف أربع آلاف حديث". ورفع إصبعان أدارهما أمام الحضور وقال مرة أخرى بنبرة أقوى:"سنتين".
- "معك حق، بس شيخنا إحنا، هو نفسه أبو هريرة جديد، كل يوم بيجيب لنا حديث من تحت
الأرض وبيقلنا أبو هريرة قال، أو في الشرع.. يا أخي هذا الشرع ما بيخلص؟ ما في حدا بشي محل في العالم عم يراقب شو بيصير بهذا الدين اللي ساعة بروح يمين وساعة بروح عكس السير؟ يا أخي الواحد مش ملحّق، المرة بدها تتحجب، قال نفسها من زمان تتحجب"!!
انفجر الحضور نساء ورجالاً بضحك رائق، ونظر الجميع نحو "هيفا. سمتها أمها تيمنا بـ"هيفا وهبي"، المغنية اللبنانية.
- "لو بتعرف هيفا وهبي إنك راح تتحجبي، غير تزعل منك وتبطل تغني، في واحده اسمها هيفا وبتتحجب"؟.
- "وليش مستغرب"؟ ما كثير فنانات تحجبت بعد ما فات العمر وبطلوا يلحّقوا عمليات تجميل".
- "المهم، طيب ليه مؤذنا يؤذن مرتين؟ لسّه ما فهمنا، أفيدونا بالله"؟
"ـ وبلكي لستنا "هيفا وهبي" تتحجب، وبتصير تيجي مرتين على المسجد اللي بيأذن فيه".
فرط عقد ضحكهم وماجوا بضحكٍ هستيري جريء، ليعجل بتعليق آخر، لكن كانت الضحكات تتحول إلى تفتفات أو سعلة تقطع النفس فيشهق من رئتين متهالكتين من الضحك ويكف عن المحاولة.