"هذا الوضع غير طبيعي [...] هناك ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس [...] هناك جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس [...] هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية".
"تونس تعتزّ بانتمائها الإفريقي فهي من الدول المؤسسة لمنظمة الوحدة الإفريقية وساندت عديد الشعوب في نضالها من أجل التحرر والاستقلال. كما أن تونس تدعو إلى أن تكون إفريقيا للأفارقة".
هاتان الفقرتان وردتا متتاليتين في بلاغ نشرته الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية التونسية، وتنقل فيه حرفياً ما قاله رئيس الجمهورية قيس سعيّد خلال اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي انعقد في 21 شباط/ فبراير 2023 "لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس.. مع ما تؤدي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة". وخلال الاجتماع طالب رئيس الجمهورية القيادات الأمنية والعسكرية الحاضرة بالسرعة والصرامة في "وضع حد لهذه الظاهرة".
جرس الإنذار أو الحرب الذي أطلقه/ قرعه الرئيس التونسي لم يعلُ صوته المزعج فجأة، بل أتى ليتوج حملة متعددة الأطراف تستهدف الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء إلى تونس، انطلقت بخجل منذ مطلع سنة 2023 واستعرّت بشكل كبير منذ منتصف شباط/فبراير. لماذا هذه الحملة؟ ما هي خلفياتها؟ لماذا الآن؟
"الإجصيون": الوسم/ الوصم الجديد
"الإجصيون" مولود جديد يضاف للمعجم السياسي/ الإعلامي في تونس. وهو نحت لنعت مشتق من عبارة "إفريقيا جنوب الصحراء"، ابتدعه ناشطون في حزب "فاشي" تونسي اسمه "الحزب القومي التونسي"، جعل من محاربة المهاجرين الوافدين إلى تونس من دول إفريقيا جنوب الصحراء علّة وجوده.
بمراجعة موقع الويب وصفحة الفيسبوك التابعين للحزب والاطلاع على "أدبياته"، نجد أنه يروج لأمة تونسية مكتملة الأركان ومستقلة تماماً عن أي أمم أخرى، ويعتبر "إن واجب الدولة وسبب وجودها أصلاً وأساس شرعيتها هو مدى تركيزها ونجاحها في تحقيق العظمة والمجد التونسيّين". ويخصص موقع الحزب ركناً كاملاً لما أسماه "الاستيطان الإجصي" ويكاد يقتصر نشاط صفحته الفيسبوكية على هذا الموضوع. يرى الحزب أن هناك مشروعاً توطينياً للأفارقة السود في تونس بالتآمر بين دول إفريقية من جنوب الصحراء وأوروبا، وهذا المشروع يراد به تحويل تونس إلى "إجصائيل" - على وزن "اسرائيل" – بتواطؤ طبعاً من "خونة تونسيين" من سياسيين وناشطين مدنيين ومسؤولين يدافعون عن المهاجرين أو يتساهلون مع وجودهم. وفي إطار "تنويره" للأمة التونسية، يقدم الحزب على صفحته عدة نصائح/تعليمات...
حملة ممنهجة؟
حتى قبل أشهر قليلة، لم يكن مصطلح "أجصيين" معروفاً لدى أغلب التونسيين، كما أن الموقف من المهاجرين لم يصل يوماً إلى موجة كراهية شديدة تجد صدى شعبياً كبيراً كما يحدث في الفترة الراهنة في تونس. وقبل الحديث عما يحصل اليوم، سيكون من المفيد تتبع مسار توافد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس.
"الإجصيون" مولود جديد يضاف للمعجم السياسي/ الإعلامي في تونس. وهو نحت لنعت مشتق من عبارة "إفريقيا جنوب الصحراء"، ابتدعه ناشطون في حزب "فاشي" تونسي اسمه "الحزب القومي التونسي"، جعل من محاربة المهاجرين الوافدين إلى تونس من دول إفريقيا جنوب الصحراء علّة وجوده.
المرحلة الأولى بدأت منذ بداية تسعينات القرن الفائت واستمرت إلى حدود سنة 2010 أي قبيل الثورة التونسية. في تلك الفترة توافد الآلاف من الطلبة من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء على تونس للدراسة في الجامعات العمومية أو الخاصة. وبلغ عددهم حوالي 12 ألف طالب في سنة 2010. عامل آخر عزز التواجد الإفريقي في تونس خلال تلك الفترة، ففي سنة 2003 تم نقل المقر المركزي لـ "البنك الإفريقي للتنمية" مؤقتاً من العاصمة الإيفوارية أبيدجان إلى العاصمة التونسية (بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت هناك سنة 2002). وهكذا استقبلت تونس المئات من الكوادر والموظفين الأفارقة رفقة عائلاتهم. سواء تعلق الأمر بالطلبة أو بموظفي البنك، فإن أغلبهم كان يقطن في الأحياء الميسورة بنمط عيش مرفه أو فوق المتوسط. تلك الفترة سجلت أيضاً بداية توافد بعض الأفارقة على تونس كدولة عبور لركوب قوارب الهجرة غير النظامية، لكن أعدادهم كانت محدودة وأغلبهم شباب ذكور. لتأتي سنة 2011 وتُحدث تغييرات عميقة على إثر الثورتين التونسية والليبية في شتاء 2011. مع اندلاع الحرب في ليبيا، هرب مئات الآلاف نحو تونس وأغلبهم من أفارقة جنوب الصحراء، وقد تمّ بمساعدة منظمات أممية وغير حكومية، إجلاء عدد كبير منهم نحو بلدانهم الأصلية، في حين اختار عدد منهم أن يجرب حظه ويركب قوارب الهجرة غير النظامية نحو سواحل إيطاليا. وهناك أيضاً من آثر البقاء في تونس بشكل غير قانوني أو تقديم طلب لجوء لدول غربية. في الفترة بين 2011 و2017 تزايدت أعداد الوافدين على تونس باعتبارها دولة عبور ولم يعد الأمر يقتصر على الشباب والذكور، بل شمل النساء والأطفال وعائلات بأكملها، خاصة وأن الطريق الليبية أصبحت محفوفة بالمخاطر بعد سيطرة الميليشيات المسلحة والعصابات على أجزاء واسعة من البلاد. كما أن توقيع تونس بعد الثورة لعدة اتفاقيات ثنائية مع دول إفريقية لإعفاء مواطني البلدين من طلب تأشيرة دخول سهّل وصول الكثير من الأفارقة إلى البلاد. يمكثون بضعة أشهر ويعملون في البناء أو الحقول لتحصيل المبلغ اللازم لركوب البحر. منذ العام 2018، بدأت تتكون تجمعات صغيرة من المهاجرين الأفارقة في المدن الكبرى، خاصة في أحيائها الشعبية. كما تنوعت المهن والأعمال التي يشتغلونها لتشمل المقاهي والمطاعم والحرف والمتاجر... هذا التطور الاقتصادي-الاجتماعي جعل هذه "الأقلية الظاهرة" (بسبب لون بشرتها) "مرئية" أكثر، مما أثّر على تمثل الكثير من التونسيين لهذه الجالية وتقديراتهم لحجمها.
في السنوات الخمس الأخيرة، حدثت مناوشات بين تونسيين ومهاجرين أفارقة وحتى حوادث عنف، لكنها كانت متفرقة في الزمن والجغرافيا، ولم تأخذ شكل حملة ذات بعد وطني. الإعلام التونسي لعب ولا يزال دوراً كبيراً في وصول الوضع إلى ما هو عليه اليوم. أغلب الأخبار المتعلقة بالمهاجرين الأفارقة تتحدث عن جرائم أو مخالفات ارتكبوها مع جرعة من التهويل وحرص مريب على التذكير بهوية هؤلاء "المجرمين".
ما يزيد الطين بلة هو غياب معطيات وأرقام دقيقة حول أعداد وجنسيات ووضعيات هؤلاء المهاجرين، مما سهّل على البعض ترويج أرقام بعيدة تماماً عن المنطق مثل الحديث عن مليون مهاجر وأكثر. من خلال الأرقام الرسمية التي وردت سنة 2022 في تقرير أعدّ بالتعاون بين مؤسستين عموميتين رسميتين - المعهد الوطني للإحصاء والمرصد الوطني للهجرة - نجد أن عدد المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء يبلغ 21.466 شخصا. وهذا الرقم لا يشمل إلا المهاجرين الذين يتمتعون بوضع الإقامة القانونية. هناك جمعيات ومنظمات أممية تقدر عددهم بحوالي 60 ألفا بمختلف وضعياتهم. بالطبع هناك عشرات الآلاف من المهاجرين غير مسجلين في دفاتر الدولة لأنهم دخلوا بطريقة غير قانونية أو لم يستطيعوا الحصول على أوراق إقامة بعد دخولهم بطريقة قانونية. لكن هل يعقل أن يكون عددهم أربعين أو خمسين مرة ضعف المهاجرين النظاميين كما تروج لذلك البروباغندا المعادية للمهاجرين؟ كيف دخل مئات الآلاف منهم إلى البلاد دون أن تلاحظهم الأجهزة الأمنية؟
ما الذي حدث في الآونة الأخيرة حتى تتدفق مشاعر الكراهية وتكتسح وسائل التواصل الاجتماعي وتهيمن على النقاش العام في الأيام الأخيرة من شهر شباط/فبراير الجاري؟
افتتحت السيدة نجلاء بودن، رئيسة الحكومة التونسية، العرض بإعلانها يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر 2022 اعتزام الحكومة ترحيل مهاجرين غير نظاميين كانوا قد "احتلوا" مركزاً ثقافياً عمومياً في ضواحي العاصمة تونس، وبعضهم من طالبي اللجوء الذين رُفضت مطالبهم. اغتنم "الحزب القومي التونسي" هذه الفرصة لينظّم منذ بداية سنة 2023 حملات ميدانية بهدف "توعية" التونسيين بالخطر "الإجصي". تدريجياً، بدأ حضور هذا الحزب يكبر على صفحات الفيسبوك واستضافت عدة وسائل إعلام قاداته ليبثوا بكل أريحية هذيانهم المؤامراتي العنصري.
تغيب المعطيات الدقيقة حول أعداد وجنسيات هؤلاء المهاجرين، مما سهّل ترويج أرقامٍ مثل الحديث عن مليون مهاجر وأكثر. الأرقام الرسمية لسنة 2022 في تقرير أعدّ بالتعاون بين مؤسستين عموميتين رسميتين، تشير إلى أن عدد المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء يبلغ 21.466 شخصا. هذا الرقم يخص أصحاب الإقامة القانونية، ولكنّ جمعيات ومنظمات أممية تقدر عددهم بحوالي 60 ألفا بمختلف وضعياتهم.
ما الذي حدث في الآونة الأخيرة حتى تتدفق مشاعر الكراهية وتكتسح وسائل التواصل الاجتماعي وتهيمن على النقاش العام؟ الأوضاع الراهنة في تونس تشكل بنية خصبة لتنامي الإحباط والكراهية والمواقف الغرائزية: أزمة اقتصادية تحتد كل يوم، وأزمة سياسية يديرها رئيس شعبوي لا يكفّ عن التحدث عن المؤامرات والمخططات والأطراف الخفية، وخوف متزايد من المستقبل..
في الأسبوع الأول من شهر شباط/فبراير 2023 تناقلت بعض وسائل الإعلام أخباراً عن جريمة اقتحام عدد من المهاجرين الأفارقة لمنزل في محافظة "أريانة" بهدف السرقة حيث قاموا بتقييد الزوج وقتل الزوجة (بعد اغتصابها حسب بعض المواقع الإخبارية). لا معلومات دقيقة حول عدد المعتدين وجنسياتهم ووضعيتهم القانونية. أثار هذا الخبر غضباً كبيراً لدى التونسيين، وسَيْلاً من المنشورات والتعليقات العنصرية على وسائل التواصل الاجتماعي. وتلقفه مؤثرون ومؤثرات على انستغرام وتيك توك وغيرها من المنصات "الترند"، فتطور الأمر من استنكار وغضب من الجريمة إلى حملة على المهاجرين الأفارقة ومطالبة بترحيلهم. بالتوازي، كانت الأجهزة الأمنية تنفذ حملة توقيفات واسعة للمهاجرين الأفارقة غير النظاميين وسط ترحيب شعبي. وهكذا، في منتصف شباط/فبراير، أصبح المهاجرون الأفارقة المادة الأولى للنقاش في وسائل التواصل الاجتماعي وحتى وسائل الإعلام التقليدية.
"يريدون أن يفتكوا (يستولوا) أعمالنا.. يعملون بأجر أقل من التونسيين، لا يمكن منافستهم.. يكترون (يستأجرون) بيتاً لشخصين ثم يصبح عددهم عشرون.. لا يحترمون ثقافتنا.. قذرون.. رائحتهم نتنة.. إنهم يسرقون القطط والكلاب لأكلها.. يزاحموننا في كل مكان.. محتالون.. يبيعون المخدرات.. يشربون الخمر في رمضان.. طعنوا شاباً في تلك المدينة.. اغتصبوا فتاة في مدينة أخرى.. يتجولون بأسلحة بيضاء ويثيرون الرعب في كل مكان.. رأيت المئات منهم قادمين عبر البحر.. هم لا يعترفون بالدولة التونسية، لقد أنشأوا محاكم وشرطة خاصة بهم.. في غضون سنوات سيصبحون أغلبية ويستعبدوننا.. يستهلكون السلع المدعمة ولا يدفعون ضرائب.. بإمكانهم القيام بأي جريمة دون محاسبة فلا أحد يعرف من هم.."
هذا فيض من غيض "تفاعلات" جزء هام من التونسيين على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي كما نرى تتوزع بين العنصرية البدائية الصريحة "المعتادة" ضد السود في كل مكان، ورهاب الأجانب بغض النظر عن هوياتهم، والعنصرية "غير المقصودة" أو المتخفية وراء حجج تبدو "معقولة"، لكن الكثير منها مبالغ فيه ومختزل تعوزه الدقة.
ولإكساب "شرعية" أكبر لمواقفهم، يشارك الكثير من التونسيين في المدة الأخيرة فيديوهات وصورا يرون أنها تؤكد المؤامرة "الإجصية": بعضها يُظهر أعداداً كبيرة من المهاجرين الأفارقة يسيرون على الأقدام وكأنهم نزلوا لتوهم من باخرة أو طائرة (بعضها قديم ويعود إلى 2011 مع اندلاع الحرب في ليبيا، وأخرى لم تصور في تونس أصلاً)، تجميع لفيديوهات يظهر فيها أشخاص من إفريقيا جنوب الصحراء يتحدثون فيها عن نيتهم "استرداد" شمال إفريقيا مع خطاب عنصري ضد العرب (من أتباع "الأفروسنتريزم" أو "المركزية الإفريقية")، صور لمحلات ومطاعم يعمل فيها عدد كبير من المهاجرين الأفارقة، صور لمهاجرين أفارقة وأمامهم كدس من الأوراق النقدية التونسية دون شرح للسياق..
من المثاليات أن نقفز على الوعي الجمعي للمجتمعات، ومن "الصوابية السياسية" غير المجدية مصادرة حق عموم التونسيين في التعبير عن قلقهم من ظاهرة يعيشونها ولا يفهمون أبعادها.. نعم هناك انزلاقات عنصرية كثيرة ومخيفة لكنها لن تتلاشى لوحدها. يجب فتح باب النقاش بلا تابوهات، يتدخل فيه جميع المعنيين بالأمر، بالإضافة طبعاً إلى المهاجرين الذين يُشتكى من حضورهم بضمير الغائب.
يواصل التونسيون الهجرة غير النظامية باتجاه أوروبا، فيُلقى القبض على بعضهم ويغرق بعضهم ويصل البقية إلى دول أوروبية حيث يضطرون في أغلب الأحيان إلى العمل بدون إقامة قانونية وتقاسم غرف ضيقة في ضواحٍ منبوذة مع مهاجرين آخرين... حيث يشتكي "السكان الأصليون" من هؤلاء الوافدين الذين يسرقون وظائفهم ويرتكبون الجرائم ويحاولون فرض ثقافاتهم، وحيث يحذر سياسيون وكتاب عنصريون من خطر "الاستبدال العظيم".
الأوضاع الراهنة في تونس تشكل بنية خصبة لتنامي الإحباط والكراهية والمواقف الغرائزية: أزمة اقتصادية تحتدّ كل يوم، وأزمة سياسية يديرها رئيس شعبوي لا يكفّ عن التحدث عن المؤامرات والمخططات والأطراف الخفية، وخوف متزايد من المستقبل..
ماذا يستفيد الرئيس؟
بعيداً عن مسألة إن كان الرئيس وأعوانه هم من دبّروا هذه الحملة أو سندوها سراً أو اكتفوا بركوبها وجني ثمارها، هناك سؤال يفرض نفسه: ما الذي يستفيده الرئيس من هكذا خطاب تحريضي؟
على المستوى المحلي، ضرب الرئيس عدة عصافير بحجر واحد. بداية، "أثبت" لشعبه أنه مصغٍ لمطالبه ومتفاعل مع مشاكله ومنفذ لإرادته. ثانياً، مهاجمة أقلية من المهاجرين الأفارقة الفقراء الذين لا ظهر يسندهم ولا حقوق لهم ولا سفارات قوية وراءهم، أسهل بكثير من توفير سلع أساسية مفقودة في الأسواق، أو التدخل لتعديل أسعار عدة سلع أخرى ارتفعت أسعارها بشكل جنوني، أو توفير مَواطن شغل، أو محاسبة الفاسدين. ثالثاً، هذه "الحملة الشعبية" المسنودة رسمياً جاءت في وقتها لتغطي على حملات الاعتقالات الواسعة التي تقوم بها أجهزة الأمن ضد معارضين سياسيين وناشطين وشخصيات إعلامية ورجال أعمال بتهم غامضة وفضفاضة (تآمر على أمن الدولة، السعي لتغيير النظام، إرهاب، تبييض أموال، الإتيان بفعل موحش في حق رئيس الدولة).
على المستوى الدولي، تبدو الحسابات أكثر تعقيداً وتضارباً. لا يمكن الحديث عن مسألة الهجرة النظامية وغير النظامية في تونس، كبلد انطلاق أو عبور أو وصول دون الحديث عن السياسات الهجرية للقلعة أوروبا التي بدأت منذ أواخر ثمانينات القرن الفائت في فرض إجراءات هجرية متشددة أصبحت سياسةً متكاملةً منذ دخول "فضاء شنغن" حيز التطبيق في 1995، وعقيدةً أمنيةً منذ 2004 مع بعث "الوكالة الأوروبية لإدارة التعاون في مجال العمليات على الحدود الخارجية" - التي كانت خطوة أولى لنقل معركة مكافحة الهجرة غير النظامية إلى خارج أوروبا -، كما أنها أصبحت حرباً صريحة على المهاجرين غير النظاميين مع إنشاء "الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل" المعروفة باسم "فرونتيكس" (نسبة إلى الحدود الخارجية Frontières Extérieures) في العام 2016 (على إثر "أزمة" هروب مئات آلاف السوريين إلى أوروبا وارتفاع عدد المهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط). "فرونتيكس" منظمة أمنية خالصة تتولى من جهة اصطياد المهاجرين غير النظاميين في البر والبحر، ومن جهة أخرى تدريب وتجهيز الأجهزة الأمنية في دول الانطلاق والعبور في الضفة الجنوبية للمتوسط. بعد تفجر الحرب في ليبيا سنة 2011 ثم في دول عربية أخرى، ومنح تونس مرتبة "الشريك المميز" للاتحاد الأوروبي في 2012، تعاظمت الضغوط الأوروبية على تونس.. ليس فقط للتصدي لمحاولات التونسيين عبور المتوسط بشكل غير "قانوني" بل كذلك لمنع الأفارقة ومواطني دول أخرى من اتخاذ البلاد نقطة عبور. حتى أن دولاً أوروبية تحاول منذ سنوات عقد صفقات مع الحكام المتعاقبين على تونس بهدف القبول باقتراحات مثل فرز ملفات طالبي اللجوء في تونس بدلاً من أوروبا، وقبول مهاجرين أفارقة مرحّلين من أوروبا، وتركيز نقاط ساخنة لتجميع بيانات المهاجرين غير النظاميين. خضعت تونس لبعض الضغوط وراوغت بعضها ورفضت أخرى بشكل صريح، لكن الابتزاز لم يتوقف ويبدو أنه يشتد كلما ساءت أوضاع البلاد.
بعيداً عن مسألة إن كان الرئيس وأعوانه هم من دبّروا هذه الحملة أو سندوها سراً أو اكتفوا بركوبها وجني ثمارها، هناك سؤال يفرض نفسه: ما الذي يستفيده الرئيس من هكذا خطاب تحريضي؟ على المستوى المحلي، ضرب الرئيس عدة عصافير بحجر واحد. بداية، "أثبت" لشعبه أنه مصغٍ لمطالبه ومتفاعل مع مشاكله ومنفذ لإرادته. وهناك ما يلي ذلك من أسباب...
من المؤكد أن جزء من خطاب الرئيس التونسي كان موجهاً للأوروبيين. لكن كيف نفهمه؟ هل هو تطمين لهم بأن تونس ستلعب دور "الحدود الخارجية" وتمنع الأفارقة من الوصول إلى البحر وليس إلى أوروبا فقط؟ وفي هذه الحالة ما هو الثمن؟ أم على العكس، كان الرئيس يعلن رفضه القطعي لأن تتولى تونس "المهام القذرة" في السياسات الهجرية الأوروبية؟ لكن في هذه الحالة، لماذا استعمال المصطلحات ذات الطابع العنصري والحديث عن تركيبة ديموغرافية وحماية الهوية العربية الإسلامية والربط بين المهاجرين والإجرام واستعمال المعجم المعادي للمهاجرين نفسه الذي يستعمله العنصريون في أوروبا؟
لنتغاضى عن سقطات الخطاب.. على المستوى العملي، هل يعتقد الرئيس أن بإمكان تونس لوحدها، ليَّ ذراع الاتحاد الأوروبي أو على الأقل تحسين شروط التفاوض؟ ألم يكن من الأجدى السعي لتنسيق المواقف مع دول إفريقية أخرى من جنوب الصحراء والمغرب العربي، بهدف صياغة خطاب مشترك والتنسيق من أجل الضغط على أوروبا لفرض مقاربة إنسانية وتنموية لظاهرة الهجرة غير النظامية؟
ويبقى السؤال الأخطر: على ماذا اعتمد رئيس الجمهورية في تقديره للموقف وإطلاق جرس الإنذار؟ تقارير استخباراتية؟ تقارير أمنية؟ أم تقارير ديبلوماسية؟ مستشاريه السياسيّين، أم صفحات الفيسبوك؟
نقاش ضروري.. وشبه مستحيل
من المثاليات أن نقفز على الوعي الجمعي للمجتمعات، ومن "الصوابية السياسية" غير المجدية مصادرة حق عموم التونسيين في التعبير عن قلقهم من ظاهرة يعيشونها ولا يفهمون أبعادها.. نعم هناك انزلاقات عنصرية كثيرة ومخيفة لكنها لن تتلاشى لوحدها، بل يجب فتح باب النقاش. نقاش بلا تابوهات يتدخل فيه جميع المعنيين بالأمر: مسؤولون وأمنيون، سياسيون، علماء اجتماع، صحافيون، ناشطون مدنيون، مواطنون "عاديون".. وطبعاً المهاجرون الذين يُشتكى من حضورهم بضمير الغائب.
لكن هذا للأسف لم يحصل ومن الصعب أن يحدث في الأشهر وربما السنوات القادمة. أولاً، لأنّ رئيس الجمهورية لا يحبذ الحوار والجدل، وأثبت أكثر من مرة نفوره من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وله عدة مواقف سلبية من الإعلام. على المستوى المؤسساتي، تونس بلا برلمان منذ 25 تموز/يوليو 2021، وحتى البرلمان الجديد الذي انتخب في أواخر كانون الثاني/يناير 2023 لم يتم تنصيبه بعد، وسيكون منزوع الصلاحيات حسب ما أقره دستور 25 تموز/يوليو 2022. على المستوى الشعبي هناك للأسف حالة عامة من الكراهية تجاه كل ما يمس حقوق الإنسان والديمقراطية والنقاش العام والأحزاب والناشطين المدنيين (والنخب عموماً)، بل وتخوين ومطالبة بسجن وتكميم أفواه الخارجين عن صف "الإجماع الوطني" لأنهم يعرقلون رئيس الجمهورية في "سعيه" لمحاربة الفاسدين واسترداد هيبة الدولة وإنقاذ تونس من أزمتها.
***
بعيداً عن النقاش الدائر، يواصل التونسيون ركوب قوارب الهجرة غير النظامية باتجاه أوروبا، يُلقى القبض على بعضهم ويغرق بعضهم ويصل البقية إلى دول أوروبية حيث يضطرون في أغلب الأحيان إلى العمل بدون إقامة قانونية ولا تصريح، ويتقاسمون غرفاً ضيقة في ضواحٍ منبوذة مع مهاجرين آخرين. هناك حيث يشتكي "السكان الأصليون" من هؤلاء الوافدين الذين يسرقون وظائفهم ويرتكبون الجرائم ويحاولون فرض ثقافاتهم، وحيث يحذر سياسيون وكتاب عنصريون من خطر "الاستبدال العظيم" وتأثير الهجرة على التركيبة الديمغرافية البيضاء لأوروبا وتهديد هويتها المسيحية.. حلقة شريرة مفرغة وعالم يزداد ضيقاً.