تُفصِح لنا قصة مدينة الناصرية عن فرادة تلامس بقوة أهم القضايا الكبرى المطموسة في السردية الحديثة للتاريخ العراقي أو العربي، وخاصة ما يتعلق بقضية الحداثة والنهضة. فأسباب إقامة هذه المدينة على يد الوالي العثماني "الإصلاحي" مدحت باشا عام 1870 ــ بعد لقائه بشيخ مشايخ "المنتفگ" (المتَّفق باللهجة أي الاتفاق) ناصر السعدون قبل ذلك بعامٍ لإبلاغه نية السلطنة تحويل "المنتفگ" إلى متصرفية منخرطة في الولاية، ونصيحته له بترك حياة البداوة والترحال ـ جاء في سياق اضطرار العثمانيين لتغيير شكل سيطرتهم على العراق. فهم أعادوا احتلاله عام 1831، وأزالوا حكم المماليك خشية عواقب الصراع المحتدم بين مركز الولاية المملوكي والمنتفگ، وهو صراع صار يوحي باحتمالات الاستقلال العراقي، سواء من أعلى على يد المماليك، أو من قبل إمارة المنتفگ التي تشكل قيادة وطنية قبَلية في جنوب العراق.
المنتفگيون في بغداد
سبق للمنتفگيين أن أعلنوا رغبتهم في قيام حكم عربي عراقي عام 1789، إبان الثورة الثلاثية التي نشبت خلال حكم سليمان باشا الكبير، وقادها ثلاثة من المشايخ الكبار هم سليمان الشاوي وحمد آل حمود وثويني العبد الله شيخ مشايخ المنتفگ. وقد اجتمع لثويني قائد الثورة وقتها ما يزيد على 100 ألف مقاتل، احتلوا البصرة ورفعوا مضبطة الى الباب العالي العثماني جاء فيها: "لا يصلح لكرسي الولاية إلا ثويني العبد الله، فهو الأسد الذي يؤمِّن الطرق ويحميها من العجم". ويذكر بعض المؤرخين أن جد ثويني أبدى هو الآخر رغبته في حكم العراق بعد تحرير البصرة على يد المنتفگ من الاحتلال الإيراني قبل هذا التاريخ بسنوات. ولم يتوقف الأمر عند هذا، فقد دخلت "المنتفگ" الى بغداد، ونصَّبت بحرابها سعيد ابن سليمان الكبير والياً على العراق بعد لجوئه إليه، ما حدا بداود باشا، الذي لجأ إبان حكم سعيد إلى شمال العراق عند آل بابان، لأن يبعث برسالة إلى الباب العالي يقول فيها نصاً: "إن سعيداً حكم العرب أهل الغشامة والجهل". وحين جاء داود باشا للحكم بعدما قتل سعيداً ابن خالته، اتجه بفعل التحدي العربي الجنوبي لإقامة جيش هائل يفوق تعداده 100 ألف، كما أقام الصناعات العسكرية، ما جعل الباحث المصري سليمان عبد العزيز نوّار يعتبره في أطروحته "محمد علي" العراق دون الالتفات إلى العوامل والخلفيات المتباينة المحيطة بالحالتين.
خصوصية العراق غير المدرَكة
مثل هذه التشبيهات معتادة، وهي تنحو إلى فرض النموذج المصري في التحديثية العربية، الموكولة إلى فعل العامل الخارجي الأوروبي والانتباه الفكري له، وهو ما لا ينطبق على حالة العراق، الذي ظهرت فيه تحديثية ذاتية سابقة على الحضور الغربي ومستقلة عنه. وفي جنوب العراق، ومنذ القرن السابع عشر، عادت الآليات الحضارية التاريخية تعمل هنا، متجاوِزة حالة الفوضى والاحتراب والأوبئة والفيضانات التي عمّت البلاد منذ سقوط بغداد عاصمة الإمبراطورية العربية الإسلامية على يد هولاكو عام 1258، لتتكرر مرة أخرى ظاهرة "الانقطاع الحضاري" الناجمة في تاريخ العراق عن حاجته لشبكة من النواظم والسدود عالية الإحكام، يفرضها واقع إنتاجي يصفه العالِم المهم في التاريخ الحضاري القديم، طه باقر، كـ "مواجهة مستديمة مع نهرين من أشد أنهار الدنيا تطرفاً من حيث وقت فيضانهما المخالِف للدورة الزراعية، مع قوتهما المدمرة"، ما أفرز عدة ظواهر منها تلازم العملية الإنتاجية مع تلك المجتمعية والسياسية، وانعكاس ذلك في منطقة "أرض السواد" على شكل المجتمع الإنتاجي الجنوبي الممتد من بغداد إلى البصرة، وجعله مجتمعاً مشاعياً مساواتياً محارِباً لا ينتج دولة من داخله. وهو دفع لأن تقوم الدول هنا كـ "دول ــ مدن"، أي متخندقة داخل أسوار محصنة تحصيناً شديداً ومعسكَرة بشدة، تمارس حَلْب الريع الزراعي بالقوة والغزو، وتظل معزولة داخل مدنها، تحكمها نزعة إمبراطورية متجهة للشمال رغبة في التخفف من أسباب التصادم مع المجتمع الأسفل المحارِب، المقاوِم لأي شكل من أشكال السيطرة البرانية، كما الداخلية أصلا.
وفي حالات اختلال العلاقة بين المجتمع المنتِج والدولة المركّبة فوقه، واختناق الدول القاهرة بفعل انسداد الأفق الإمبراطوري في الغالب، فإن أساس البناء الحضاري يصاب بالانهيار المهول بسبب ضعف الرقابة اللازمة على ضفاف النهرين بقوة وباستمرار، درءاً للفيضان العاتي وغدر الماء وسطوة النهرين المدمرة التي لا فكاك منها على النواظم والسدود، ما يدخل البلاد وضعا من الانهيار العام والفوضى والأوبئة والاحتراب. وقد هبط عدد نفوس العراق من 31 مليون نسمة أيام العباسيين حسب تقديرات متواتِرة، إلى ما يقارب المليون في القرن السابع عشر.. حين أخذ طغيان مفاعيل "الانقطاع" يتراجع، وظهر "اتحاد قبائل المنتفگ" علامة على بدء الدورة الحضارية الثالثة، بعد الدورة الأولى السومرية البابلية، والدورة الثانية التي حفّزها الفتح الإسلامي.
قلب "أرض السواد"
ومن بين أجزاء "أرض السواد" (الأراضي الزراعية التي تقع جنوب بلاد النهرين، على أطراف دجلة والفرات وما بينهما)، تتركز الآليات الحضارية تحديداً في الموضع الذي نشأت فيه مدينة الناصرية، التي لا يمكن النظر إليها بذاتها بل بصفتها "دولة ــ مدينة"، قامت لهذا الغرض، وفي سياق احتواء مشايخها وإدراجهم في سلك الحكومة. وهي السياسة التي ظلت متّبعة على يد التحديثية البرانية العثمانية والإنكليزية كوسيلة لاختراق المجتمع الأسفل. وليس صدفة أن يكون الوالي مدحت باشا هو من أدخل الكهرباء والتراموي والبريد والبرق، وقام بتكليف المهندس البلجيكي جوليوس تلي (Tilly Julius) بتخطيط أول مدينة عراقية على الطراز الغربي الأوروبي، بشوارع عريضة متقاطعة ما تزال تميّزها إلى اليوم، مانحة إياها نكهة مختلفة عن كل مدن العراق الأسفل المنهارة المشوهة. ولم ينس الوالي أن يسبغ اسم الشيخ "ناصر" أول متصرف عراقي على المدينة التي حلت مكان "الدولة ــ المدينة" القبَلية السابقة عليها، "سوق الشيوخ". لكن اسم ناصر السعدون ظلّ رمزياً بمقابل اسم "المنتفگ" المأخوذ من واقعة عودة التشكل الوطني العراقي الحديث بين ثلاث قبائل كبرى هي "الأجود" و "حميد" و "بنو مالك" منذ أصبح "اتفاقها" اسماً لبداية تشكل المجتمع العراقي الجديد.
ظلت الناصرية تسمى "المنتفگ"، كذلك فإن القرار في المدينة ومجمل شؤونها وحياتها لم يكن ينبع من داخلها. فقد ظلت مدينة ــ دولة قبلية بثوب حديث لم يمنحها القدرة على اصطناع دور خاص بها ولذاتها يزيد على دور العاصمة القبلية السابقة عليها، "سوق الشيوخ"، التي تحولت إلى قضاء إلى جانب أقضية الشطرة والرفاعي والقلعة. ويثير هذا الوضع عفوياً في الأذهان تواريخ أخرى تعود الى الحضارة السومرية وقبلها "العبيدية"، وصولاً لأول مدينة في التاريخ "أريدو"، عدا "أور" مدينة النبي إبراهيم الخليل، صاحب أول وأكمل وأبقى رؤية كونية توحيدية في التاريخ، و "لكش" وثورة كوراجينا 2355 ق.م، يوم عرفت في وثيقة مكتوبة، ولأول مرة في التاريخ الإنساني، كلمة "حرية" ("أمارجي")، احتوت على كل ما هو معروف اليوم من مبادئ حقوق الإنسان، أو "أوروك" مدينة الأقواس التي ابتدعت القوس في الهندسة والبناء ليبقى الـ "أرك/ القوس" يتردد إلى اليوم في معظم لغات العالم. كما قامت هنا الإمبراطورية الأكدية، أول إمبراطورية في التاريخ، ومؤسسها الإمبراطور "سرجون الأكدي"، أول من قال "أنا حاكم زوايا الدنيا الأربع". وهنا ظهرت الكتابة الخ..، وكل هذا يجري تعداده ليولِّد نزعة خاصة، أو وطنية فرعية، هي بالأحرى رئيسية لدى أهل هذا المكان، بقدر ما يذكر غيرهم بأن هذه البقعة مميزة جداً على صعيد الفعالية الحضارية وسجل المنجزات الكبرى.
"قانون تسوية الأرض"
أقامت المنتفگ في العصر الحديث وطنيتين بارزتين. الأولى أيام العثمانيين، قبَلية، تمثلت بالصراع المستمر مع المماليك لإقامة حكم عربي، تدل عليها عشرات العصيانات والانتفاضات والحروب مع المركز، وثانية وطنية، بعد الاحتلال الإنكليزي وقيام الدولة "الحديثة" عام 1921. فالاحتلال الانكليزي لجأ لإقامة "حكم من أهل البلاد"، وهي صيغة أولى مُبكِرة من صيغ "الاستعمار الجديد" الذي سيعرفه العالم في الستينيات، أسماه الإنكليز وقتها "الحكم من وراء ستار"، بعدما كانوا يتبنون النظرية الاستعمارية الهندية المتجبِّرة وجاؤوا ليطبقوها في العراق، لكن ثورة العشرين أجبرتهم على التخلي عنها. والسلاح الأمضى الذي استعمله الاحتلال الإنكليزي لتطويع المجتمع الأسفل هو "قانون تسوية الأرض" لعام 1932 الذي قلب العلاقات الإنتاجية المساواتية التاريخية، بتسجيله الأراضي ـ وكانت مشاعاً ـ بأسماء المشايخ، وبالتالي تحويله هؤلاء الى ملاّك نهابين للأرض، منفصلين عن أبناء جلدتهم، جاعلاَ منهم قاعدة اجتماعية للدولة البرانية المركبة من أعلى، تخترق بنية المجتمع الأسفل. وهذه الوسيلة لم يكن العثمانيون قادرين على اللجوء إليها إلا في نطاق ضيق جدا، ما دفعهم وقتها لما أقدموا عليه في المنتفگ، بإقامتهم "الناصرية".
بمقابل المشروع الإنكليزي، عادت المنتفگ أو "سومر الحديثة" لتضطلع بمهمة إنشاء وطنية ثانية، عجزت بغداد وبقية مدن العراق الكبيرة عن إقامتها رغم تأثرها بالنهضة الفكرية العربية، بينما أقام "فهد"، يوسف سلمان، وهو مسيحي في مجتمع غالبيته الساحقة مسلمة، مع صديقه غالي زويد الزنجي المتبقي من أيام ثورة الزنج في الزمن العباسي، حزباً شيوعياً صعد من أسفل إلى أعلى، ليمثِّل وطنية مضادة اقتضاها تغير الأحوال بعد الاحتلال. هذا غير تأسيس حزب البعث في المكان نفسه على يد فؤاد الركابي. أي أن الحزبين الإيديولوجيين الأكثر تأثيراً في تاريخ العراق الحديث، نشآ في الناصرية / المنتفگ. والحزبان المذكوران، وخاصة الشيوعي، أسهما بقوة في إسقاط النظام الملكي الذي أقيم على أسس الاحتواء العام نفسها بالإجهاز على خاصيات المجتمع الأسفل، ما أثار سخطا هائلاً، كان السبب في سرعة تنامي الوطنية الحزبية الإيديولوجية وانتشارها الكاسح على مستوى العراق ككل، وصولاً لثورة 14 تموز/ يوليو 1958.
اليوم
الناصرية حالياً رابع مدينة عراقية من حيث عدد السكان بعد بغداد والبصرة والموصل. بلغ عدد سكانها عام 2013 مليوناً و139 ألف نسمة، وكان تعداد سكانها عام 1920 يصل إلى 6523 نسمة فقط، وهي تقع على الفرات الأسفل، على حافة الأهوار. أصبح لها اليوم حزام عشوائي بأسماء غريبة تعكس انهيار الحداثة، وهي ما تزال "المنتفگ" في خيال أبناء المنطقة، مع ان اسمها الرسمي الحالي تحول إلى "ذي قار". ومع حيوية نخبتها وإصرارها على التذكير بخصوصية دورها بإطلاقها عام 1991 "الانتفاضة الشعبانية" (إثر هزيمة الجيش العراقي في الكويت)، كأنما ثأراً من نظام أفلح في قتل خاصياتها بالريع النفطي، وتحويل المجتمع إلى الوظيفة. المسؤولون في هذه المدينة قد يكونون الأقل فسادا على مستوى العراق، وهي التي أطلقت في الصيف الماضي شعار "باسم الدين باكَونا الحرامية". وما تزال شوارعها مستقيمة وواسعة ونظيفة.. لكن السؤال الحائر الذي يخيم عليها بإلحاح، كما على العراق، هو: ترى هل ماتت التحديثية الذاتية مع موت التحديث المستعار، وماذا تبقى للمستقبل؟
يبقى أن الحديث عن "مدينة ــ دولة" هي منطلق العراق الحالي في دورته الأخيرة، لن يكتمل من دون تناول ما يلاحظه الجميع عادة من تميز المدينة بالشعر والأدب، وعناية أبنائها بالثقافة والفنون، وإسهاماتهم المميزة في الغناء.. ففي هذا الجانب ثمة حداثة موازية، لها سمات مختلفة، تقابل الحداثة الأخرى البغدادية المستعارة. وهنا يكمن عالم آخر يستحق عناية وبحثاً مستفيضَين...