يشيع اليوم في ازدياد مطرد استخدام الفنون الرقمية، وبخاصة الرموز الفنية غير القابلة للاستبدال (NFTs)، ومنصات المعارض الفنية الرقمية، وعوالم الميتا (Metaverse)، مع تحول شركات كبرى إلى الاستثمار في هذه العوالم، ومنها شركة ميتا (فيسبوك سابقًا). استقدمت الرموز الفنية غير القابلة للاستبدال لتوفير طريقة لا مركزية للفنانين لتسويق وبيع أعمالهم، تدرّ عليهم ربحًا من دون وساطات أو مباركة «حراس البوابة»، فالنظام الفني التقليدي القائم لديه العديد من المحددات المفروضة على الفنان في سبيل رفده بشرعية ما، تسمح له ببيع أعماله. يجري الحصول على هذه الشرعية عن طريق خطوات تبدو واضحة، من الحصول على الشهادة الأولى والثانية، ثم المعارض الجماعية والإقامات الفنية والمعارض الفردية، ونيل انتباه نقاد معروفين للفنون، والعمل مع قيّمي معارض مرموقين، والعرض في معارض وبيناليات عالمية، وأن تصبح أعمال الفنان جزءًا من مجموعات ثابتة لمؤسسات فنية مهمة، وأن تبلغ أسعار أعماله مستوى عالمي ثابت. ولكن هذه الخطوات ليست مؤكدة ولا تحتكم للمنطق الموجود في الصناعات الأخرى، وعدد ضئيل من طلاب الفنون يتجاوز أول مرحلتين أو ثلاثة منها.
"أنا أيضاً" يا ميتافيرس
30-09-2022
معرض "402 من الرمادي": الفن الرقمي يواجه عنف الاحتلال في فلسطين
21-08-2021
على أي حال، برزت الرموز الفنية غير القابلة للاستبدال كمكان يستطيع الفنانون من خلاله تجاوز عقبات النظام الفني التقليدي في مصلحة الفنان. لكن بالطبع، تنبهت دور المزادات الفنية والمؤسسات الفنية التقليدية لذلك، واستطاع النظام الفني القائم استملاك هذا المفهوم بما يتناسب مع «حراس البوابة» والرعاة التقليديين. فمثلًا، طُرِحَت الرموز الفنية غير القابلة للاستبدال للفنان الأمريكي الأبيض بيبل (Beeple) للبيع في مزاد كريستي عام 2021، وقد حققت 69 مليون دولار، رغم أن الفنان لم يكن مشهورًا أبدًا في الأوساط الفنية التقليدية مسبقًا حتى طرحه أعماله كـ«إن إف تي». كنت أتابع أعمال بيبل منذ عام 2011 على منصة تمبلر، ولم تكن أعماله حينها أكثرمن منشورات عادية على المنصة، صورًا لعوالم غريبة بلمسة من الخيال العلمي، تجد مثلها الكثير على تمبلر أو على منصة DeviantArt، والتي كانت رائجة أيضًا في ذلك الوقت للفنانين، ويعيد نشرها جمهور تمبلر من الجيل ما بين المراهقة ومنتصف العشرينيات.
فمن أين جاءت الفنون الرقمية، وكيف تطورت، وكيف كانت مناوئة للنظام القائم، رغم تمكنه بشكل مستمر من تقنينها؟
جذورٌ فنية
رغم التطور التكنولوجي الذي أدى إلى بدايات صناعة الحاسوب في الأربعينيات، إلا أن ثورة الإنترنت لم تتبلور حتى بداية التسعينيات، قبل أن تلحق بها ثورة السوشال ميديا. أثّرت هذه الثورة الرقمية على كل المجتمعات حول العالم، ولم تكن الفنون استثناءً. لم تتطور الفنون الرقمية كوسط مستقل بعينه أو في الفراغ، لكنها جاءت مُكمّلة لإرث طويل من الحركات والمجموعات الفنية، وبخاصة الدادائية وفكرتها حول «العشوائية المضبوطة» (controlled randomness)، ومجموعة فولوكس (Fluxus)، والفن المفاهيمي، وبخاصة الاهتمام بالتركيز على المفهوم أو الفكرة، ومشاركة الجمهور، والحدث كوسيط فني. أحد المفاهيم التي جاءت بها الدادائية هو أن الفن يمكن أن يكون «مرحًا» ولا يحتكم إلى قوانين فنية كما قبله من الحركات، وأن المدخلات العشوائية واللعب بإمكانها أيضًا أن تنتج فنًا. فمثلًا، في أحد الأعمال المبكرة للفنان الدادائي هانس جين آرب عام 1933، والمعنون «بحسب قوانين الصدفة» (According to the Laws of Chance) يمزق الفنان قطعًا صغيرة عشوائية من الورق ويلقي بها على سطح ورقي ومن ثم يلصقها كعمل كولاج.
إن كان يمكننا تقريب هذه الطريقة لفنون رقمية استلهمت روح الدادائية العشوائية، فيمكن ربط ذلك بالفنون التوليدية (Generative Art) اليوم. والفنون التوليدية هي أعمال فنية تم توليدها بأكملها أو جزء منها عن طريق نظام مستقل، وهذا النظام هو نظام غير بشري عادةً، ينتج العمل الفني بشكل مستقل عن الفنان. ويمكن استخدام الحاسوب أو التطبيقات أو مواقع الإنترنت لتوليد هذه الفنون العشوائية. فكما استخدم آرب نظامًا عشوائيًا خارجيًا (وهو نثر الورق) لتوليد فنون الكولاج خاصته، يتم استخدام النثر الرقمي للذكاء الاصطناعي والجمل البرمجية لتوليد فنون مشابهة. وبالطبع الفنون التوليدية موجودة في الموسيقى أيضًا، في تجارب برايان إينو على سبيل المثال.
سيكون من المجحف الحديث عن الفن الرقمي دون ذكر الفنان مارسيل دوشامب، والموسيقي جون كيج وتأثيرهما على مفهوم هذا الفن، وبخاصة أفكارهما حول «الوصول العشوائي للمعلومات كطريقة لتحليلها وترتيبها»، وهي تشبه مفهوم الصدفة، أو العشوائية المضبوطة في الدادائية. فمثلًا في موسيقى جون كيج الطلائعية، والتي يصفها بـ«غياب الأصوات المقصودة» نرى استخدامه للضجيج المحيطي لقاعة الحفل وترتيب الضجيج لخلق موسيقى ما. أما مارسيل دوشامب فيأتي الوصول العشوائي في أعماله المفاهيمية الحركية التي تتغير بتغير الرائي، أي أن الجمهور بتفاعله مع العمل المفاهيمي يولد فنًا مختلفًا في كل مرة. أحد الأمثلة على أعماله العمل التفاعلي المعنون بـ«ألواح زجاجية دوارة» أو «بصريات دقيقة» عام 1920، وهو عمل مفاهيمي يعمل بالكهرباء، يقوم الجمهور بتشغيله، فينتج عن دوران الألواح تأثير بصري وهمي، يتغير شكله بحسب مكان ومسافة وقوف الرائي.
يمكن الآن رؤية صلات واضحة مع فنون الإنترنت، وأنواعها مثل فنون الويب التي تتخذ الموقع الإلكتروني كوسيط يتفاعل معه المستخدم فينتج تفاعلًا مختلفًا في كل مرة، أو الفنون الرقمية التي تتخذ البرمجيات شكلًا لها، يحملها الجمهور على أجهزته وتأخذ أحيانًا طابع لعبة إلكترونية، أو حتى الفنون التوليدية الرقمية وربطها بما سبق. أي أن عاملي: العشوائية والاعتماد على المستخدم موجودان في كل من الدادائية والفنون الرقمية. ويشار لعاملي ذاتية المستخدم والنسبية كأحد عناصر ما بعد الحداثة وثقافتها الشعبية، ومن ضمنها الإنترنت.
بقية المقال على موقع "حبر".