أمراض تسكن جسد الحرب قبل جسدنا

تقتطع الأمراض نصيبها من واقعٍ تُعيد الحرب تدويره، لا تبقى على حالها مقيّدة إلى مسبباتها فحسب، بل تتمادى فتتسع دائرتها أكثر كلما قلّت مكونات الخدمات الصحيّة، أو تلاشت. الأمراض في سوريا لا تنهزم، تصير أثواباً على مقاس لغة الاقتتال المضنية، لترتاد بألوانها الجديدة أجساد المرضى، ثم تترجم لهم بؤسهم بدراية
2016-05-30

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك
ديانا حلبي - سوريا

تقتطع الأمراض نصيبها من واقعٍ تُعيد الحرب تدويره، لا تبقى على حالها مقيّدة إلى مسبباتها فحسب، بل تتمادى فتتسع دائرتها أكثر كلما قلّت مكونات الخدمات الصحيّة، أو تلاشت. الأمراض في سوريا لا تنهزم، تصير أثواباً على مقاس لغة الاقتتال المضنية، لترتاد بألوانها الجديدة أجساد المرضى، ثم تترجم لهم بؤسهم بدراية. نراهم مترددين معها بقبول حياةٍ تسكن قاعاً يسكن القاع، هناك حيث تتجاور أمراضٌ مزمنة يشحُّ علاجها بسبب العقوبات الاقتصاديّة، مع أمراضٍ جلدية تستفحل على أبدان الناس أينما تتراكم النفايات والأنقاض، ترافقهما أمراضٌ أخرى تسكن بدهاء داخل الجهاز الهضمي الذي تغذّيه مياهٌ ملوّثة، وجميعها تتفحّص بلهفة عيوب حياتنا. حتى أنّ الأمراض المنتشرة في أماكن سيطرة المعارضة، ليست كمثل الأمراض المنتشرة في أماكن سيطرة النظام. لكن هل تستخف بنا الأمراض داخل رداء الحرب لنتجاهل فحصها؟ أليست بمثل خطورة الموت الذي يسيل من فمِ الأسلحة بلا توقف؟

السيرة الذاتيّة لانتشار الأمراض

ليس انتشار الأمراض داخل سوريا من غِلال هذا العام أو العام الذي سبقه. تتبُّع سيرتها وهي تتوسّع مثل دوائر فوق سطحٍ راكد يعيدنا إلى صيف العام 2013 حين حذّرت منظمة الصحة العالمية وقتذاك من احتمال انتشار أمراض كالتيفوئيد، والكوليرا  والإسهال، والتهاب الكبد الوبائي داخل سوريا، أو في دولٍ تحيطها.
بعد ذلك بسنة، قالت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية "اليزابيث هوف" أواخر العام 2014 بأن النظام الصحي في سوريا قد انهار، مستدلة على ذلك بانتشار حزمة من الأمراض في بلدٍ وصفته بأنه منكوب بالعنف. حينها قدمّت منظمة الصحة مؤشراتٍ رقميّة مفزعة أهمها يخصّ انتشار مرضي التيفوئيد، والتهاب الكبد الوبائي بعدما تراجعت معدلات التطعيم في سوريا من 90 في المئة إلى 52 في المئة، ليكون عدد المصابين بالتيفوئيد عام 2014 نحو 6500 شخص، وقرابة 4200 صاروا مرضى بالحصبة. وزادت صحيفة "التليغراف" البريطانية بنشرها تصريحاتٍ منسوبة إلى أطباء يعملون داخل مناطق سيطرة المعارضة يقولون فيها أنّ مرض السل هو الآخر بدأ يزحف باتجاه الناس، ومعه انتشرت الأمراض الجلدية التي تستحسن البيئات الداعمة لها حيث تتزاحم النفايات والأنقاض على احتلال جسد المكان وإعطائه هويّةً جديدة. في ذلك الحين صرّحت المنظمة بأن الأطباء العاملين معها عالجوا عام 2014 أكثر من 13 ألف مصاب بآفات جلدية.
فحص الأمراض التي بثّتها يد الحرب كالبذار ظهرَ مجدداً على صفحات جريدة "الإندبندنت" البريطانية مطلع شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2015 حين نجد نصا مدموغاً بدلالاتٍ درامية: "كارثة السوريين الصحيّة تهدد كلّ المنطقة".

وزارة الصحة تقتنع بانتشار الأمراض

زحفت الأمراض بغيرِ تمهّلٍ منذ العام 2011 وعلى مرأى من الجميع، تباينت مسمّياتها، ونسب انتشارها بحسب مؤشرات الدمار أو الولاء المرصودة في كل منطقة، بحيث زجّت الحرب بالأمراض الجلدية والهضمية الوبائية داخل الجغرافيا التي خرجت عن سيطرة النظام، وتقاعست الأدوية النوعية عن تغطية المصابين بأمراض القلب والسرطان في أماكن سيطرة النظام.   
وبحسب أرقام مديرية الأمراض السارية التابعة لوزارة الصحة السورية فإن عدد المصابين بمرض "اللاشمانيا" بلغ قرابة 52 ألف في العام 2012. نهض المرض فوق أكوام النفايات وفوق أنقاض المباني المدمّرة، ثم نقله النازحون معهم أينما حلّوا، وصار مواطناً مقيماً في مخيمات الإيواء داخل سوريا حيث تتردّى خدمات الصحة والنظافة العامة إلى أدنى المستويات.
مرض السل بدوره تسلل إلى قائمة الأمراض التي رصدتها عين مديرية الأمراض السارية فأحصت في 2011 نحو 3700 إصابةً به.. دونما تراجع هذا المرض في الأعوام التالية بحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، وخارج إحصاءات وزارة الصحة السورية.
لكن أكثر الأمراض الوبائية بقيت تقارع مصائر البشر التائهين عن الموت، غير آبهةٍ بإحصائها، أو بدقة الأرقام التي تتنبأ بوجودها. مرض "التيفوئيد" اتسعت رقعته وصار ملازماً لتلوث المياه، بالأخص في أماكن سيطرة المعارضة، ثم أنّ انتشاره في السنوات الماضية دفع وزارة الصحة للتصريح بارتفاع عدد المصابين به، كما أن 50 مركزاً تابعاً لمنظمة الصحة العالمية داخل سوريا تحدثت عن اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي مرّةً بمنطقة تلبيسة بحمص، ومراراً في العديد من قرى درعا الخاضعة لسيطرة المعارضة، خاصةً خلال النصف الأول من العام الحالي، حيث عالجت المستشفيات الميدانية هناك، وبحسب تقارير صحافية، طيفاً واسعاً من الإصابات بأعراض رافقتها التهابات معويّة حادة. الأرقام الحديثة الراشحة من تلك القرى ترصد 30 إصابة جديدة بالتيفوئيد، و70 إصابة بالتهاب الكبد الوبائي، والأطباء المعالجين لا يخفون خشيتهم من انتشار التيفوئيد، والتهاب الكبد الوبائي، والكوليرا على نطاقٍ واسعٍ خلال الصيف الحالي بحيث يصعب لجمه في ريف درعا الذي تسيطر عليه المعارضة المسلّحة.

الموت بالسرطان مرتين

حصّةُ مرض السرطان من الموت هي حصّة المضارب الأكبر في بورصة الفناء اليومي، هذه صورة تظهر فيها وزيرة الصحة السوريّة في العام 2015 وهي تصرّح بأن الأورام السرطانيّة هي أكثر الأمراض تسبباً في الموت بنسبة تقارب 51 في المئة، وثالث أكثر مرض لجهة حدوثه في سوريا. لقد أزهق السرطان أرواح 85 ألف مريض داخل الحجرات الضيقة للمستشفيات السورية خلال العام الماضي فقط، ولا يزال مستشفى البيروني المتخصص بعلاج الأورام هو الوحيد الذي تهجس به أرواح الفقراء المصابين بهذا الداء، يتجاوزون خطوط الاشتباك اليوميّة على طريق حمص دمشق، وتتعلق أبصارهم باحتمالٍ واهٍ للظفر بجرعة علاج قد لا يجدونها بانتظارهم، فيموتون مرتين: العقوبات الدولية أكلت حصّتهم من العلاج، وسعر الجرعة في السوق السوداء يتجاوز 250 دولار، المرضى الميسورون يغادرون البلاد إلى دول الجوار للعلاج حيث ينفقون بسخاء.
الأطباء المتخصصون يعزون انتشار المرض على نحوٍ مفزعٍ خلال الأعوام الماضية إلى التلوّث المرافق لآلة الحرب التي لم تهدأ، وانخفاض مستوى الخدمات الصحيّة بشكلٍ عام، وشحّ العلاجات الإشعاعية أو الكيميائيّة اللازمة.
قبل 2011 كانت الأرقام الرسمية تشير إلى أن نسبة المصابين بمرض السرطان تقارب 4.5 في المئة من إجمالي عدد السكان في سوريا، وكانت رحلة التدواي أشبه بزيارة لأقسام جحيم "دانتي"، فكيف يكون حالها خلال سنوات الحرب..
وتبقى الخيبة تميمةً عامةً، وإن تفاوتت شدتها بين منطقة وأخرى، لكن لا حصون هنا تمنع من ملاقاة مرضٍ عابر، ولا نظام صحيّ لائق يطمئن من بقي حياً، خاصةً في أماكن سيطرة المعارضة، حيث كل شيئ معرض للقصف في أيّ لحظة. وطالت تلك الخيبة السوريين اللاجئين في دول الجوار إذ بقوا محرومين من الرعاية الصحيّة اللائقة، وهذا ما نعته منظمة "أطباء بلا حدود" في تقريرٍ صدر عنها خلال شهر تموز/ يوليو 2014 حين اعتبرت أن أكثر من نصف اللاجئين السوريين في لبنان لا يتلقون العلاج الذي يحتاجونه نظراً لارتفاع كلفته.
لا يملُّ السوريون اعتياد الموت، لقد جاوروه داخل بلادهم وفي خارجها، يحاولون تسّلق جداره الزَلِق كل يوم، القليل منهم ينجحون، والكثيرون يبقون إلى جواره.   

مقالات من سوريا

بعد الحرائق الأخيرة: الزيتون السوري ليس محصولاً استراتيجياً!

كمال شاهين 2024-11-14

وقع النصيب الأكبر من الحرائق الأخيرة في محافظتي"اللاذقية" و"حمص". ووفق معلومات محلية مصدرها مديريات الزراعة في هاتين المحافظتين، فإنّ هناك ثمانين موقعاً اشتعلت فيها النيران بشكل مفاجئ، ودفعة واحدة، مما...

خرائط التنمية المفقودة في الساحل السوري

كمال شاهين 2024-04-30

حضور السلطة المركزية في المشاريع الأصغر، المحصورة في خدمة أهالي الإقليم، يقرّ مركزياً، بعد اقتراح مجالس المدن والبلدات المعيّن أغلب أعضائها من السلطة المركزية، عبر "قوائم الجبهة الوطنية التقدمية" اﻹجبارية...

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...