منذ أزمنةٍ ضاربة في القدم، يتوارث اليمنيون "البخور"، طقوساً واستخداماً وحرفةً تقليدية ممتدة حتى اللحظة المعاصرة. هو مادةً حيوية عطرية، يتم تركيبها مِنْ عددٍ من النباتات العشبية ذات الرائحة الزكية، من مثل "اللبان"، و"المُرّ"، و"القرفة"، و"الصندل". كما توارثوا في السياق ذاته طريقة استخدام "البخور" المُتَمَثّلة في وَضْع قِطَعٍ منه على جَمْرٍ في "المِبْخرة"، تلك الأداة الخاصة بعملية إحراقه، لتتصاعد منه خيوط دخانٍ شفّاف عِطْرِيّ الرائحة.
عِطْرُ الشتاء والصيف
تُعَطِّر رائحةُ "البخور" تفاصيل الحياة اليمنية، على تنَوُّعها الجغرافي والمناخي، حيث تتفاوت درجات الحرارة من منطقةٍ إلى أخرى، فترتفع كلّما اقتربنا من سواحل اليمن وأجزائه الصحراوية، وتنخفض ولا سيما في المرتفعات الجبلية الشمالية والغربية.
اعتاد اليمنيون، في موسمِ البرد (الخريف/الشتاء)، على تلطيف أجوائه بـ "البخور"، إذ تُعَدّ عملية "التَّبْخير" من المقوماتِ الرئيسة في مجالس المَقيل الذي يمتدّ من بعد الظهيرة حتى اللحظات التالية للغروب. وبهذه العملية أيضاً يَسْتَهِلّون لياليهم الباردة حيث تأتي فيها علاوة على وظيفة "البخور" العطريّة الرئيسة وظيفتُه الثانوية، الوجدانية، التي تبلورت من ارتباط استخدامه في الأجواء الباردة بفكرةٍ توارثتْها الذهنية الجمعية تقول بفاعليته في إضفاء الدفء على غرف المنزل المُعَطَّرة باحتراقه... ليس الدفء الوجداني الراسخ في الثقافة الشعبية فحسب، وإنما الدفء الموضوعي المتجسّد في تخفيف "البخور" مِنْ حدّة الطقس البارد! فعملية "التبخير" ذاتها تتضمّن تفاصيل موضوعية تُعطي نسبةً من المنطقية الواقعية لوظيفة "البخور" الثانوية هذه، حيثُ تغلق نوافذ المجلس/الغرفة إغلاقاً مُحْكَماً، ثم يُؤتى ب "المِبْخَرة" وعليها جَمْر يحمل تَوَهُّج نارِه المحدودة نسبةً من مقاومة الطقس البارد.
لغة "المَشَاقِر" في اليمن
03-11-2022
وفي أحوالِ الحرارة المرتفعة، يضطلع "البخور" بوظيفته العطرية الرئيسة، وبمعيّتها وظيفتُه الثانويةُ المتجانسةُ مع طبيعةِ الطقس الحار، تلك الوظيفة الامتصاصية للروائح التي يفرزها الجسم في المناطقِ شديدة الحرارة.
تقاليد اجتماعية
يتماهى استخدام "البخور" في صورِ الحياة اليمنية بخصائصها وعاداتها وتقاليدها. وتُضفي رائحته العطريّة ألفة على المناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة كالخطوبة، والأعراس، والعزائم، والمآتم.
كما أن لاستخدام "البخور" حميمية مضاعفة في مناسبات الميلاد، التي تقوم على حضوره فيها منذ أول يومٍ لولادة الجنين، واستمراره حتى اليوم "الأربعين" من الولادة. وقد تضمّن يوم "الأربعين" صفةً تُحِيْل عليها المحكية اليمنية بما معناه إغلاق المرأة النفساء فترة ولادتِها بيومها الأخير ـ الأربعين ـ والذي يمثّل لها مناسبةً تقيم فيه حفلةً صغيرةً للنساء اللواتي يتوافدن لتهنئتها باستعادتها عافيتها.
اعتاد اليمنيون، في موسم البرد (الخريف/الشتاء)، على تلطيف أجوائه بـ "البخور"، إذ تُعَدّ عملية "التَّبْخير" من المقومات الرئيسة في مجالس المَقيل الذي يمتدّ من بعد الظهيرة حتى اللحظات التالية للغروب.
الطب الشعبي دفع إلى استخدام "البخور" للتداوي من مرضٍ عضوي أو نفسي، وهذا عائد إلى ما تَوَارَثَتْه الثقافة الشعبية مِن اعتقادات الإصابة بالسِّحْر والعين...
وتأتي عادة "مساءات يوم الخميس" من كل أسبوع، كمناسبةٍ عائلية أثيرة متوائمة مع ما في هذه المساءات من خصوصية في إمكانية أسمارها الطويلة، لتزامنها مع عودة العاملين في أماكن بعيدةٍ إلى أسرهم لقضاء استراحة يوم "الجمعة"، والإجازة الأسبوعية بالنسبة للموظفين بِمَنْ فيهم المستقرون في أماكن إقامتهم. أما أصحاب الأعمال الحرة غير المقيدة مواعيد إجازاتهم، فإنّ احتفاءهم بهذه المساءات مُتداعٍ مع اعتياد الثقافة الشعبية على خصوصيّتها كمساحةٍ زمنية أسبوعية للراحة والاستئناس. ويقوم الاحتفاء بهذه المساءات على استخدام "البخور" بشكلٍ كثيف. ففي مساءِ كلّ يوم "خميس" تتَشَكَّل مِنْ احتراق "البخور" على "المباخر" في منازل الأحياء السكنية رائحةٌ عطريةٌ متجاوزة منازل كُلّ حيّ إلى ممراته وأزقته كلها.
وفي حيوية العلاقة المتجدّدة بين "البخور" وبين تفاصيل الحياة اليمنية، يأتي ارتباطه بعملية التنظيف، إذ يعْقب هذه العملية، فيضفي على المنزل طابع الأناقة. وهو الطابع ذاته الذي يُضفيه على بعضِ المرافق الخدمية التي تستخدمه، كالفنادق والمؤسسات التجارية، العابقة أرجاؤها كلّ صباحٍ برائحةِ "البخور" فور الانتهاء من تنظيفها.
ومن صور استخدام "البخور" في الثقافة الشعبية اليمنية، الطب الشعبي: للتداوي من مرضٍ عضوي أو نفسي، عائدٍ إلى ما تَوَارَثَتْه هذه الثقافة مِن اعتقاداتٍ في احتماليات الإصابة بالسِّحْر والعين...
"بخور عدني"
يُصنع "البخور"، صناعةً معملية ومنزلية، في عددٍ من المحافظات اليمنية كمحافظات صنعاء، والمهرة، ولحج، وحضرموت، وتعز، وشبوة. لكن محافظة عدن هي الأكثر انتاجاً لأجود أنواع "البخور" اليمني، حيث يحظى "البخور العدني" ـ خاصةً المصنوع منه منزليّاً ـ بشهرةٍ واسعة، تتجاوز الجغرافيا اليمنية إلى المحيط العربي والخليجي منه بوجهٍ خاص، وكذلك إلى بلدان القرن الأفريقي، إذ لعب موقع عدن الاستراتيجي على طريق التجارة العالمية دوراً فاعلاً في هذه الشهرة، الممتدة من أقصى العصور البائدة حتى الواقع الراهن، بما يزخر به من أشكالٍ وأنواعٍ متعددة للـ"البخور العدني"، التي من أشهرها "البخور السلطاني"، و"البخور العرائسي"، و"البخور الملكي".
لاستخدام "البخور" حميمية مضاعفة في مناسبات الميلاد، التي تقوم على حضوره فيها منذ أول يومٍ لولادة الجنين، واستمراره حتى اليوم الأربعين من الولادة. وقد تضمّن يوم "الأربعين" صفةً تُحِيْل عليها المحكية اليمنية بما معناه إغلاق المرأة النفساء فترة ولادتِها بيومها الأخير ـ الأربعين ـ والذي يمثّل لها مناسبةً تقيم فيه حفلةً صغيرةً للنساء اللواتي يتوافدن لتهنئتها باستعادتها عافيتها.
تأتي عادة "مساءات يوم الخميس" من كل أسبوع كمناسبةٍ عائلية أثيرة متوائمة مع ما في هذه المساءات من خصوصية في إمكانية أسمارها الطويلة، لتزامنها مع عودة العاملين في أماكن بعيدةٍ إلى أسرهم لقضاء استراحة يوم الجمعة، والإجازة الأسبوعية بالنسبة للموظفين بِمَنْ فيهم المستقرون في أماكن إقامتهم.
ارتبطتْ صناعة "البخور" وتجارته واستخداماته بمدينة عدن ارتباطاً وثيقاً فكان من أهم خصائصها، كما كان موصوفاً بها أجود أنواعه في عبارة "بخور عدني"، التي امتدّ تداولها إلى سياقات الأعمال الأدبية، كتلك العنونة التي تصدّرت واحدةً من أهم الأعمال الروائية اليمنية، رواية "بخور عدني" للكاتب والروائي اليمني علي المقري (1).
المرأة اليمنية وصناعة "البخور"
يغلب على صناعة "البخور" اليمني ـ والمصنوع منه منزليّاً بوجهٍ خاص ـ أن تكون هذه الصناعةُ من مهمات المرأة، لا سيما المرأة العدنية التي ارتبطت شخصيتها بصناعة البخور وتجارته، سواءٌ باعتمادها على وسيطٍ يَتَوَلّى عملية بَيْع بضاعتها وتسويقها داخليّاً وخارجيّاً، أو بأن تتولّى هي نفسِها عملية البيع بشكلٍ مباشر في عددٍ من الأماكن، كمنازل المدينة، وجولاتها، وأسواقها، وقارعات الطرق فيها.
واتَّسعتْ مؤخّراً صناعة "البخور" اليمني وتجارته بشكلٍ كبير، حيث لَجَأَتْ إليه كثيرٌ من النساء اللواتي شارَكْن من خلال ذلك أزواجَهنّ مسؤوليةَ إعالة أُسَرهنّ، بعدما خَذَلَتْهُم الظروف المادية القاسية.
محافظة عدن هي الأكثر انتاجاً لأجود أنواع "البخور" اليمني، حيث يحظى "البخور العدني" ـ خاصةً المصنوع منه منزليّاً ـ بشهرةٍ واسعة، تتجاوز الجغرافيا اليمنية إلى المحيط العربي والخليجي منه بوجهٍ خاص، وكذلك إلى بلدان القرن الأفريقي.
يغلب على صناعة "البخور" اليمني ـ والمصنوع منه منزليّاً بوجهٍ خاص ـ أن تكون هذه الصناعةُ من مهمات المرأة، لا سيما المرأة العدنية التي ارتبطت شخصيتها بصناعة البخور وتجارته.
وقد استوعب هذا التوسّع فئاتٍ جديدةٍ من النساء اللواتي لم يسبقْ لَهُنّ العمل في هذا المجال، حيث انْخرَطْن في صناعة "البخور" وما يتفرع منه أو يرتبط به من أصنافٍ ك "المخمريات"، و"العود الأخضر"، و"دهن الزباد"، "والمسك". أما النساء اللواتي اعتدن على احتراف هذا النوع من العمل، فقد زادَتْهُنّ هذه الطفرة التوسُّعية تفنُّناً في استحداثهنّ أصنافاً جديدة من "البخور"، وتحديثهنّ أصنافاً قديمةً بوصفاتٍ جديدة، كما عزَّزَتْ كُلُّ واحدةٍ منهنّ مِنْ مدى شُهرتِها في صناعة وصفاتٍ معينة من "البخور"، ارتبطتْ باسمها واقْتَصَر عليها إتقان صُنْعها.
امتدادٌ تاريخي وحضاري
في كتابه "الحضارات السامية القديمة"، أشار عالم اللغات السامية "سبتينو موسكاتي"، إلى أن العامل الرئيس في ازدهارِ التجارة اليمنية القديمة هو صناعة وتجارة "البخور" في اليمن القديم (2)، الذي احتلَّ مكانةً خاصة في الاقتصاد العالمي القديم، بما فيه من دولٍ وحضارات رومانية، وإغريقية، وحضارة بلاد الرافدين. تلك الحضارات التي استخدمتْ "البخور" في طقوسها الدينية واحتياجاتها الطبية، فتولّى اليمنيون تلبية الطلب المتزايد على هذه المادة (3)، حيث اتخذوا لقوافلهم التجارية طريقاً سالكاً بين اليمن والشام. وعليه أطلق عليه عددٌ من الباحثين المحدثين تسمية "طريق البخور" (4) كون هذه السلعة هي أهم السلع التجارية التي كانت تُنقل عبْرَه (5).
1- صادرة عن دار الساقي، ط4، بيروت، 2014.
2- ترجمة يعقوب بكر، دار الكتاب العربي، ط1، ص 197.
3- هادي صالح العمري، "طريق البخور القديم من نجران إلى البتراء وآثار اليمن الاقتصادية عليه"، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب ـ جامعة بغداد، 2003، ص 15.
4- يُنظر على سبيل المثال: نيكولوس رود كاناكيس، "الحياة العامة للدول العربية الجنوبية في التاريخ العربي القديم"، ترجمة فؤاد حسنين، مكتبة النهضة، ط1، القاهرة، ص115.
5- عبد القادر بن سالم بن أحمد الغساني، "ظفار أرض اللبان"، من بحوث ندوة الدراسات العمانية، سلطنة عمان، 1980، ص 52.