كأنّها تتجنب تسمية مرض عضال، تُعيّن عُلا* (شابّة لبنانيّة) بـ "هيديك الشّغلة" علاقتها الجنسيّة بعد زواجها في سنّ الـ 15، من ابن خالها الذي يكبرها 16 عاماً. "كان يجبرني كلّ ليلة على المعاشرة لأكثر من ساعتين وأحياناً ثلاث. أنام فيوقظني، ويبرحني ضرباً إن كنتُ متعبة، فأنصاع لرغبته. لم أكن أعرف ما الزّواج، ولا أمّي ولا أخواتي هيّأنني للموضوع".
- عشتِ صدمة في أوّل ليلة؟
- في كلّ ليلة، تجيب.
لم تلتقِ عُلا ابن خالها الّذي يعيش في سوريا إلا نادراً خلال فترة الخطوبة: "كان خالي يوقظني من النوم ويجبرني على إتمام المعاملات برفقته. ولا أنسى كيف شدّني من شعري وصفعني حين رفضت مرافقته. وكانت أمّي تمارس عليّ ضغطاً متواصلاً، مردّدة على مسامعي: لأنّك تحبّينني ستتزوّجين ابن خالك". أمّا المدرسة، فأصبحت خارج الحسابات "حين بلغت سنّ الـ 13، وبدأت دورتي الشهرية، ألزمني والدي بترك المدرسة. كان يقول: أنت جميلة ويجب أن تبقي في البيت".
هو "تزويج قاصرات" وليس "زواج" مع ما يَفترض قبول الطرفين. فالبنات اللواتي لم يبلغن سنّ الرّشد، غالباً ما تصادر الأسرة قرارهنّ فيُجبرن على الزواج. وهؤلاء القاصرات أكثر عرضة للوقوع ضحايا لعنف الشريك الحميم مقارنة باللواتي يتزوجن في سن أكبر، فـ"زواج الأطفال يصادف في كثير من الأحيان مقدمة مفاجئة وعنيفة للعلاقات الجنسية"، بحسب منظمة الصحة العالميّة.
لبنان: ولكن أين كلّ تلك الحرية والمساواة؟
14-12-2021
ولا يشكّل التعنيف والاغتصاب الزّوجيّ، كما هو حال عُلا، التّبعات الوحيدة لتزويج القاصرات. هناك عواقب طويلة ومزمنة بانتظار الطفلة التي ستغدو أمّاً لأطفال، سُلبت حقّها بالطّفولة، والصحّة الجسدية والنفسية، وستحرم المدرسة والفرصة بمستقبل مهنيّ. والظاهرة في لبنان ليست إلى انحسار، بحيث أشارت الأمم المتحدة أنّه في الوقت الذي ينزلق لبنان أكثر فأكثر في أزماته المتعدّدة العميقة، يكون تزويج القاصرات ضمن المجتمعات الفقيرة واحداً من "آليّات للتأقلم".
شهادة عُلا
جسم هشّ وولادات مبكرة
تخبرنا مريم*، وهي شابة سوريّة في سنّ الـ 20، أنّ البكاء لازمها وأضربت عن الطعام ثلاثة أيام متوالية، لأنّ أسرتها أجبرتها على ترك المدرسة، "كان حلمي أن أصبح محامية. كنا نعيش في قرية بعيدة عن المدرسة نصف ساعة، فرفض أخي أن أرتاد سيارات الأجرة، مخافة عليّ". ولفرط هذ الخوف، زوّجها أهلها في سنّ الـ 13!
"جاءنا أهل العريس لخطوبة ابنهم الأكبر لشقيقتي التي تكبرني، ولم يتمّ النّصيب. رأتني والدته فأعجبتُها، وقرروا خطوبتي لابنهم الأصغر. لم أكن أعرف ما الزواج، ظننته "فسحة" خارج المنزل. أمّا زوجي، فلم ألق منه الحبّ. كان لا يتوانى عن ضربي لأتفه الأسباب، وكنت أعلم أنّ قلبه كان معلّقاً بفتاة أخرى لكن والدته أجبرته على الزواج منّي، أو لا زواج. هو أيضاً ضحيّة أهله، لكنّني ضحية زوجي وأهلي وكلّ ما عانيت".
وتستعيد بصوت مخنوق مرحلة الحمل "كنت أعاني من التهابات نسائية وإعياء دائم ومن تدهور في المناعة، فلزمت المستشفيات حوالي شهرين. وفي الشهر الثامن، عانيتُ أوجاع المخاض وتعيّن عليّ وضع مولودي. كان وزنه لا يتعدّى 1600 غراماً، ومحيطي يهوّل عليّ ويقول أنّ ابني لن يعيش. لم يمددني أحد ببارقة أمل، كنت شديدة الإحباط وانقطع منّي حليب الرضاعة".
وإذا كان طفل مريم قد نجا من مضاعفات الولادة المبكرة، فإنّ جسم مريم سيعاني هشاشة مدى الحياة "عظامي هشّة، وبدأت عندي عوارض ديسك في العمود الفقري، وأسناني بالغة الضعف".
بحسب اليونيسيف في 2016، استفحلت الظاهرة في مجتمعات اللّجوء مع الأزمة السّورية وتدفّق اللاجئين السوريين إلى لبنان. وقد تبيّن أنّ 6 في المئة من اللبنانيّات (ممن أعمارهنّ ما بين 20-24 سنة) تزوّجن قبل سنّ الـ 18، ولكن النّسبة المخيفة تخص اللاجئات السوريات (40.5 في المئة)، تليهنّ اللاجئات الفلسطينيات من سوريا (25 في المئة) واللاجئات الفلسطينيات في المخيمات (12 في المئة).
مريم هي صديقة عُلا، التقيناهما في منزل الأولى، قبل أن تنصرفا إلى "الصبحية". حضّرت مريم نرجيلة المعسّل بنكهة التفاح الثقيلة، تتشاركانها مع صديقة ثالثة. تنفث الشابتان الدخان المشبع بأحلام لم تكتمل، فينتشر في فضاء غرفة الجلوس، داخل بيت مكوّن من غرفتين ومطبخ في أفقر أحياء طرابلس. تمتلك الصبيتان أملاً واحداً: ألا تتكرّر المأساة. عُلا، الأم لصبيين تقول "أتمنّى لو لدي طفلة، حتّى تعيش حياة لائقة، وتتعلّم وتعمل. لا يجب أن تتزوّج البنات قبل سنّ الثلاثين". وتوافقها مريم الرّأي قائلة "أعمل وأجهد داخل وخارج البيت ولو بصورة متقطّعة، فالرزق صعب. لكن تعليم أبنائي فوق كلّ اعتبار. أنا اليوم حريصة على الحوار مع ابنتي، أهيئها للحياة وأتّخذها رفيقة".
شهادة مريم
حياة مهدّدة وغياب الرعاية الصحية
تشير الدكتورة ريما شعيتو، نقيبة القابلات القانونيّات في لبنان إلى أنّ "النّساء اللواتي يفتقرن للموارد الماليّة في المجتمعات المحافظة، يفضلن اللجوء للقابلات القانونيّات، حيث إنّ القابلة تحرص على استيعاب ومواكبة احتياجات المرأة الجسديّة والنفسية في كلّ مراحل الحمل والولادة وما بعدها، وأتعابها المالية أقلّ من الّتي يتقاضاها الطبيب". وتضيف "بتنا نلاحظ زيادات مطردة في أعداد القاصرات المتزوّجات، خصوصاً في المخيّمات ومحافظتي عكار والبقاع. ونأسف أنّ بعض المجتمعات عصيّة على "الخرق"، فالموروث الاجتماعي يُصوّر التّدخّل لصالح صحّة الفتاة انتهاكاً للخصوصيّة. والأزمة الاقتصاديّة جعلت الحاجة لمساعدة هؤلاء النّساء تفيض عن أعداد القابلات وعن إمكانيات لبنان في تأمين الرعاية الصحية. وأحياناً تلجأ هؤلاء الفتيات إلى عيادات غير نظاميّة، وأماكن أشبه بمسالخ. وهذا ما حدث في مكان غير مرخّص في محافظة الشّمال حيث توفّيت فتاة سوريّة وهي تلد وجرى التكتّم على الأمر".
وفي هذا الصّدد، يبرز في إحصاء لوزارة الصحة اللبنانية عام 2017 وجود 207 مراكز للرعاية الصحية الأولية، تقدم الخدمات لحوالي 1.4 مليون إنسان مستفيد بمن فيهم اللبنانيون واللاجئون السّوريون. وهذا يستوجب زيادة عدد هذه المراكز بسبب قصور المستشفيات الحكوميّة ومراكز الرعاية الصحية عموماً عن الوفاء بحاجات النّساء وكلّ المرضى، في ضوء تجاوز أكثر من نصف سكّان لبنان عتبة الفقر.
وتؤشر أرقام اليونيسيف عام 2016، إلى استفحال الظّاهرة في مجتمعات اللّجوء تزامناً مع الأزمة السّورية وتدفّق اللاجئين السوريين إلى لبنان، وهم يتركّزون خصوصاً في قرى وبلدات شمال لبنان والبقاع . فقد تبيّن أنّ 6 في المئة من اللبنانيّات ممّن أعمارهن تتراوح ما بين 20-24 سنة تزوّجن قبل إتمام سنّ الـ 18، ولكن النّسبة المخيفة تقع عند اللاجئات السوريات (40.5 في المئة)، تليهنّ اللاجئات الفلسطينيات من سوريا (25 في المئة) واللاجئات الفلسطينيات في المخيمات (12 في المئة).
وفي دراسة ميدانية (1) صدرت في تشرين الثاني /نوفمبر 2020، يظهر أنّ الزواج المبكر في لبنان تجاوز نسبة الـ 13 في المئة. وازداد تحديداً خلال الأزمة الحالية ضمن المناطق الأكثر فقراً. وتحذّر شعيتو أنّ حمل القاصرات مصنّف علميّاً "حمل ذو خطورة"، نظراً لعدم اكتمال النموّ التشريحي والفيزيولوجي للأنثى القاصر، موضحة: "لا تكتمل بنية العظام قبل سنّ الـ 18، ولذلك فإنّ أغلب المتزوّجات باكراً يصبن بهشاشة العظام، وتبرز لديهن تشوّهات عظميّة في الحوض والعمود الفقري، بالإضافة إلى فقر الدّم وسوء التّغذية والتعرض لارتفاع حاد في ضغط الدم، ما قد يؤدي إلى النزيف والإجهاض ونسب عالية من الولادات المبكرة التي تهدّد حياة الأم والجنين الذي يولد بوزن أخفّ من المعدلات الطبيعية". كما أنّ بنية الأعضاء التّناسليّة عند المرأة لا تكون قد اكتملت قبل سنّ الـ 18، فـ"تصاب بانقباضات رحميّة متكرّرة ونزيف، وهي عوارض شائعة عند القاصرات المتزوّجات". وتستدرك: "القاصرات هنّ الأكثر عرضة لكآبة الحمل وما بعد الولادة، وتداعياتها ليست مأمونة، حيث إنّ بعض الأمهات القاصرات يقدمن على الانتحار أو يحاولن التخلص من الرضيع".
كبت و"شيء جنسي" وبيدوفيليا
بدورها، الباحثة في علم النّفس الاجتماعي وعلم اجتماع الأسرة، الدكتورة رجاء مكّي، تجد في تزويج القاصرات في لبنان وجهاً من التناقضات الثقافية للبلاد: "في المشهد العامّ، يشجّع اللبنانيون على عمل وتعلّم وتحرّر الأنثى، فيما زيجات القاصرات إلى ازدياد. من المؤكّد أنّ الأزمة السّوريّة والوضع الاقتصادي السيء في لبنان يشكّلان تبريرات لأهالٍ يتخذون قرار التزويج المبكر، ولكنّها عوامل طارئة، وقد حفّزتها موروثات في ثقافة المجتمع اللّبنانيّ، وتحمل دلالات نفسيّة عميقة ولها بالغ الأثر في تشكيل نفسيّة القاصرة المتزوّجة".
حددت دول عربية السن الأدنى للزواج بـ 18 سنة مع سماح بعضها باستثناءات محدودة، وهي: السعودية، الأردن، الإمارات العربية المتحدة، تونس، الجزائر، العراق، عُمان، ليبيا، والمغرب.
"بعض المجتمعات عصيّة على "الخرق"، فالموروث الاجتماعي يُصوّر التّدخّل لصالح صحّة الفتاة انتهاكاً للخصوصيّة. والأزمة الاقتصاديّة جعلت الحاجة لمساعدة هؤلاء النّساء تفيض عن أعداد القابلات وعن إمكانيات لبنان في تأمين الرعاية الصحية".
وتقول الباحثة "أنّ البعد الديني وارتباطه بمسألة الشرف لم يتطوّر، وكذلك إلصاق هذا المفهوم بالفتاة، واعتبار الزواج الإطار الحامي لشرف البنت والعائلة، والضامن لسلامة القاصر البالغة من أي منزلق أخلاقي. كما يسيطر البعد القيميّ، الّذي يتمّ تفسيره باستمرارية للدور النمطي للمرأة على أنها ربة منزل وأن عليها تولّي هذا الدور مبكراً ودون سواه. ويصاحب هذا الدور التزامات عائلية، بتزويج الفتيات تنسيقاً بين الأقارب، أو تقديمها كمهر أو كجزء من تسوية خلافات، وهذا ما يتفاقم عند اندلاع النزاعات، فكانت تلجأ الأسر لتزويج الطفلات اعتقاداً بحمايتها من الاعتداءات الجنسيّة".
ووفق مكّي، يفصح تزويج القاصرات عن "الكبت الاجتماعي الّذي ينتج عنه القهر الجنسي، وهو ما يدفع بالقاصرات للرغبة بالزواج من أجل إشباع اللّذّة"، مضيفة "هو أيضاً نتيجة عدم تنشئة الفتيات على صورة جسد واضحة أو حتّى صورة ذات واضحة ومستقلّة، فتحتفظ القاصر بصورة الأنثى الّتي تستخدم جسدها وسيلة جذب. وتعزّز وسائل الاعلام هذا الدّور في مظاهر عصريّة بينما الباطن رجعيّ. كما تتشكّل لدى القاصر المتزوّجة صورة ذات تابعة للذّكر".
وتضيف الباحثة أنّه في مرحلة الحمل وإنجاب الأطفال "تدخل الفتاة الحلقة الاجتماعيّة على أنّها "شيء جنسي"، فهي بالزواج والإنجاب المبكرين تكون قد وفّت واجباتها الاجتماعية، وتسلّحت بأدوات لتلبية رغبة الرجل ولتحقيق تأقلمها الاجتماعي. وتحيلها الأمومة المبكرة إلى عدم التمييز بين جسدها كأمّ وجسدها كأنثى، وبين صورة الأم وصورة الابنة، وكأنّ الأم والابنة تحملان الجسد نفسه والطّموح نفسه، وتحديداً الطّموح الّذي لم تستطع الأم بلوغه. وفي حال إنجابها لذكر، فهو سيحمل للأم بذور التّحرر والحماية التي كان على زوجها أن يوفّرها، وهذا شوط لاحق من التّبعيّة".
وتختم أنّ الاضطرابات النفسيّة الشائعة لدى القاصر المتزوجة تتعلّق بالجنس المبكر: "تعيش الفتاة حالة من التحرش الجنسي دون أن يكون متحرَّش بها، أي أنها تعيش صورة من التحرش من قبل زوجها. وفي حال وجود فارق كبير بالعمر قد يوازي عمر أبيها، تحمل تلك العلاقة بوادر "البيدوفيليا"، أي اضطراب اشتهاء الأطفال".
"البعد الديني وارتباطه بمسألة الشرف لم يتطوّر، وكذلك إلصاق هذا المفهوم بالفتاة، واعتبار الزواج الإطار الحامي لشرف البنت والعائلة، والضامن لسلامة القاصر البالغة من أي منزلق أخلاقي. كما يسيطر البعد القيميّ، الذي يتمّ تفسيره باستمرارية الدور النمطي للمرأة على أنها ربة منزل، وأنّ عليها تولّي هذا الدور مبكراً ودون سواه".
"حتّى لو فُرضت أطر قانونيّة تجرّم زواج القاصرات، لا شيء يوقف هذه الظاهرة لأنّ الكثير من هذه الزيجات تتمّ من خلال عقد قران غير مثبت في المحاكم، ومن الصعب ضبطها. علينا التّمسك بنشر حلقات التوعية والحوار داخل المجتمعات المهمّشة، ومن الضّروريّ إشراك الآباء والفتيان في هذه الحلقات، لأنّ القرار صنيعهم، والمجتمع يمدّهم بالسلطة المطلقة في تقرير مصير القاصرات".
وفي هذا السّياق، تنتقد النّاشطة النّسويّة رؤى دندشي "ازدواجية المعايير عند أهل القاصرات المتزوجات"، مستطردة: "ذهلت حين عرفتُ أنّ طفلة تبلغ من العمر 13 سنة، تتابع لديّ حلقة توعية حول التزويج المبكر، هي أم لثلاثة أطفال. عرفت لاحقاً أنّها تزوّجت بمجرّد بلوغها سنّ التاسعة. سألت الأهل: حين تظهر على التلفزيون مشاهد حميمة، يمنعون الأطفال ما دون الـ 18 من مشاهدتها، لأنّها "عيب"، وغير مناسبة لأعمارهم. كيف تدفعون بابنتكم لتمارس الجنس؟"، وكان الجواب "أنّ الزواج حلّله الشّرع، ولذا فهو خير. ومن الأفضل تأمين "سترة" الطّفلة في سنّ مبكرة (9 سنوات) على أن يفوتها قطار الزواج وتصبح عانساً".
وتضيف الناشطة أنّه "حتّى لو فرضت أطر قانونيّة تجرّم زواج القاصرات، لا شيء يوقف هذه الظاهرة لأنّ الكثير من هذه الزيجات تتمّ من خلال عقد قران غير مثبت في المحاكم، ومن الصعب ضبطها. علينا التّمسك بنشر حلقات التوعية والحوار داخل المجتمعات المهمّشة، ومن الضّروريّ إشراك الآباء والفتيان في هذه الحلقات، لأنّ القرار صنيعهم، والمجتمع يمدّهم بالسلطة المطلقة في تقرير مصير القاصرات".
صلابة الجدار الديني وتشظي الجهد المقابل
حين يكون تزويج الطفلات والأطفال شرعيّاً، من الصعب إيقاف هذه الممارسات. هذا حال لبنان، علاوة على مناعة متعدّدة يفرضها أنّ نفوذ المحاكم الدّينية هو الذي يسيطر على قوانين الأحكام الشخصية الناظمة لشؤون الأسر في لبنان. وفي ضوء هذه الهيمنة، يتناسل عن الـ 18 طائفة في لبنان 15 قانوناً تحدّد السّن الأدنى للزواج. وفيما تختلف السلطات الطائفية في لبنان على أمور كثيرة، فهي تتفق في رفضها لقانون يحدد سناً للزواج بـ 18 سنة. والمفارقة، أنّه في الوقت الّذي تشرّع فيه منظومة الطوائف في لبنان زواج القاصرات، يلتزم لبنان باتفاقيتين تمنعانه، وهما شرعة "حقوق الطفل" الذي وقّع عليها لبنان عام 1990، واتفاقية "سيداو" للقضاء على أشكال التمييز ضدّ المرأة، ولبنان طرف فيها منذ عام 1997.
ويكرّس سنّ الزوّاج في لبنان التّمييز بين النّساء بحسب الطوائف: 18 سنة عند السّنّة - وهذا التّقدّم الأخير أحرز في أيار/مايو 2021 - و18 سنة لدى الرّوم الأرثوذكس، و17 سنة عند الدّروز، علماً أنّه يمكن تزويج القاصر في سنّ الـ 15 لدى الطوائف الثلاث بوجوب استثناءات، فيما هو 14 لدى الكاثوليك. أمّا الطّائفة الشّيعيّة، فلا تزال تتمسّك بسنّ الـ 9 لتزويج الفتاة، وهو الأدنى. وفي الوقت نفسه، حددت دول عربية السن الأدنى للزواج بـ 18 سنة، مع سماح بعضها باستثناءات محدودة، وهي السعودية، الأردن، والإمارات العربية المتحدة، تونس، الجزائر، العراق، عمان، ليبيا، والمغرب.
ولا يزال لبنان يفتقر إلى آليات ضغط وبدائل موازية لقوّة القوانين الطّائفية، ليس بسبب غياب نشاط المجتمع المدنيّ، بل لتشظّي جهوده، حيث يتنامى نشاط الجمعيّات غير الحكوميّة في مسألة تزويج القاصرات، إلّا أنّ الإصلاح القانونيّ يتشرذم ضمن عدة مشاريع قوانين، وهذا ما يحول دون طرح قانون بديل موحّد للضغط من أجل إقراره في البرلمان.
وفيما تختلف السلطات الطائفية في لبنان على أمور كثيرة، فهي تتفق في رفضها لقانون يحدد سناً للزواج بـ 18 سنة. والمفارقة، أنّه في الوقت الّذي تشرّع فيه منظومة الطوائف في لبنان زواج القاصرات، يلتزم لبنان باتفاقيتين تمنعانه، وهما شرعة "حقوق الطفل" الذي وقّع عليها لبنان عام 1990، واتفاقية "سيداو" للقضاء على أشكال التمييز ضدّ المرأة، ولبنان طرف فيها منذ عام 1997.
"هناك ثمانية اقتراحات قانونية لمنع تزويج القاصرات منذ عام 2010، ما يُضعِف آليات المناصرة. وغياب الأجندة الموحّدة يعدّ أهمّ نقاط ضعف الحراك النّسوي. فتعدّد القوانين المقترحة من قبل المجتمع المدني في لبنان أفضى إلى تشكيل لجنة فرعيّة في لجنة الإدارة والعدل، والمعلوم أنّ اللجان الفرعية هي مقبرة القوانين". إن غياب التنسيق يلازم عمل هذه المنظمات.
وتأسف الخبيرة في الشؤون الجنسانية، عبير شبارو على "وجود ثمانية اقتراحات قانونية لمنع تزويج القاصرات منذ عام 2010، ما يضعّف آليات المناصرة، وإنّ غياب الأجندة الموحّدة يعدّ أهمّ نقاط ضعف الحراك النّسوي في مسار المناصرة لقضايا القاصرات. وإنّ تعدّد القوانين المقترحة من قبل المجتمع المدني في لبنان أفضى إلى تشكيل لجنة فرعيّة في لجنة الإدارة والعدل، والمعلوم أنّ اللجان الفرعية هي مقبرة القوانين".
وبعيداً عن الدّخول في تفاصيل الاقتراحات، والتي تستوجب قراءة قانونيّة على حدة، هذه نبذة عن أبرزها:
- إطار قانوني مقترح عام 2017 من "التجمع الديمقراطي النّسائي اللبنانيّ"، ويحدّد سنّ الزواج الموحّد بـ 18 عاماً وقدّمه النائب إيلي كيروز. طرح الاقتراح ثلاث مرّات ضمن المجلس النيابي، كان آخرها في حزيران/يونيو 2021.
- عام 2014، قدّمت "الهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة اللبنانية" مشروع قانون يستهدف "تنظيم الزواج المبكر" من خلال النائب غسّان مخيبر، ويشترط موافقة قاضي الأحداث قبل تزويج القاصرات.
- على الرغم من إلغاء مجلس النواب المادة 522 من قانون العقوبات، وهي منحت أسباباً تخفيفيّة للمغتصِب إذا اقترن بالقاصر المغتصَبَة، يعتبر خبراء في القانون أنّ هذا "الانتصار" منقوص، وتتخلّله ثغرات، بسبب بقاء المادتين 505 و518 من قانون العقوبات، حيث نستخلص أنّ مدة سجن المغتصِب هي خمس سنوات كحدّ أقصى وأدناها شهران، وهذا ما تعْمل "الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضدّ المرأة" لإلغائه منذ عام 2018، مطالبة بتغليظ العقوبات بحق المغتصب، وتحديد سنّ الزواج بـ 18.
- تنشط جمعيّة "كفى" في سبيل إقرار قانون مدنيّ موحّد للأحوال الشخصيّة، وبموجبه يحدّد السنّ الأدنى للزواج بـ 18 عاماً للجنسين.
وعلى الرغم من تواصل نشاط المنظّمات النسوية في إثارة مسألة تزويج القاصرات وتقديم الدعم والمشورة القضائية، والتّواصل مع النوّاب بهدف إكساب القوانين المطروحة التأييد داخل ورشة التشريع، إلا أنّ غياب التنسيق يلازم عمل هذه المنظمات.
ومن عبثية واقع تزويج القاصرات في لبنان أنّ عدّاد الظاهرة إلى ازدياد، وكذلك وتيرة البرامج والحملات المنبثقة عن المجتمع المدنيّ، في حين أنّ هذه القضية تندرج أكثر فأكثر في مستوى "الترف" ضمن النقاش العام اللبناني، الذي تسطو عليه الأزمة المالية والاقتصادية باعتبارها صلب الأولوية. في المقابل، يؤكّد البنك الدّولي أنّ منع تزويج القاصرات سيدعم الأحوال الاقتصادية للأسرة والبلاد، لأنّ البنات سيتمكّن من مواصلة التحصيل العلمي، وكذلك أطفالهنّ في المستقبل، وهذا ما سيرفع دخل المرأة العاملة المتعلّمة ومستوى رفاه المجتمع.
لكنّها المصالح الطائفيّة تمنع كلّ نقاش علميّ ومسؤول في قضية تزويج القاصرات في لبنان، وكذلك تفعل بمختلف قضايا المرأة والصحة الجنسية والإنجابية عموماً... ألا يستدعي هذا الواقع غير المستنير من الجمعيات والمنظمات التي تناضل ضد تزويج القاصرات منذ زمن، أن تعيد تقييم آلياتها، وتجد مساراً واحداً تقاطعيّاً؟ لعلّ هذه الخطوة تبدأ بمراجعة الإخفاقات، قبل الحديث والتنافس على الإنجازات.
تمّ إنتاج هذا التقرير بدعم من مؤسسة "مهارات" ومنظمة "Hivos" ضمن مشروع We Lead. تجدر الإشارة إلى أنّ المحتوى لا يعبّر بالضرورة عن آراء منظمة "Hivos".
*اختارت الشابتان اسمين مستعارين.
1- "الزواج المبكر- أسبابه وآثاره ونتائجه السلبية"، لجمعية "مساواة وردة بطرس للعمل النسائي"، بالتعاون مع لجنة حقوق المرأة اللبنانية.