تونس.. حين تعود أطياف بورقيبة

عودة بورقيبة ليست مجرد استعادة لتمثال رُمي به في المستودعات، بل هي أعمق من هذا بكثير حيث يتمّ استعادة مرحلة من تاريخ تونس الحديث بكل حمولاتها الرمزية والمعنوية، تمَّ تغيببها نسبياً من قبل النظام السابق. 
2016-05-20

فؤاد غربالي

باحث في علم الاجتماع، من تونس


شارك
شارع الحبيب بورقيبة

"نحن لا نعاني من الأحياء فقط بل من الأموات" (كارل ماركس).

في الجانب الشرقي من شارع الحبيب بورقيبة، وتحديداً مقابل وزارة الداخلية، وعلى مقربة من "ساحة 14 جانفي 2011" التي كانت قبل خمس سنوات تحمل اسم "ساحة 7 نوفمبر 1987"، انطلقت منذ مدة أشغال إعادة تمثال الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلى الشارع الذي يحمل اسمه، بعد أن رمت السلطة السابقة بتمثاله الذي كان يتوسط قلب العاصمة، مثلما رمت ببورقيبة نفسه شخصياً في مدينته الساحلية "المنستير" تحت رقابة أمنية مشددة كانت بمثابة المنفى القسري لزعيم "الأمة التونسية"، بعد أن انقلب عليه زين العابدين بن علي وزيره الأول حينها.
يعود تمثال الحبيب بورقيبة إلى شارع صار رمزاً للثورة التونسية وساحة عامة للاحتجاجات الاجتماعية التي لم تهدأ في تونس منذ رحيل بن علي، وساحة للطقوس الاحتفالية التي تتعلق بالذاكرة الجمعية بل وفضاء للصراع بين فاعلين سياسيين وحزبيين يراهنون على امتلاك "شارع الحبيب بورقيبة" كساحة سياسية لإثبات الوجود والقدرة على التعبئة. يعود التمثال إلى شارع له دلالة جديدة ترتبط بالفكرة الديموقراطية، التي طالما رفضها بورقيبة لأنها لا تتطابق مع شعب هو "غبار أفراد"، خاض من أجله صراعاً مريراً حتى يحوِّله إلى "مجتمع أمة". في خضم كل هذا، يبقى السؤال عن الدلالات والمعاني التي تختفي وراء استعادة تمثال بورقيبة ومن ورائه الإرث التحديثي الذي يرمز إليه.

بورقيبة يمسك بتلابيب الأحياء!

عودة بورقيبة ليست مجرد استعادة لتمثال رُمي به في المستودعات، بل هي أعمق من هذا بكثير حيث يتمّ استعادة مرحلة من تاريخ تونس الحديث بكل حمولاتها الرمزية والمعنوية، تمَّ تغيببها نسبياً من قبل النظام السابق. الاستعادة هنا هي فعل سياسي بامتياز بل استثمار سياسي في الذاكرة المعاصرة لتونس، حيث تحولت البورقيبية بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 إلى موضوع للنقاش السياسي ورهان للصراعات الإيديولوجية الدائرة بين "جماعة الحداثة" الممثلة في الأحزاب ذات المرجعية الدستورية وبعض الأحزاب اليسارية، و "جماعة الهوية" ممثلة بالإسلاميين الذين يراهنون على إعادة ترتيب قضايا المجتمع في إطار الهوية العربية الإسلامية، وضمن مقولة "إعادة أسلمة" المجتمع. وقد ظهر هذا الصراع في لحظات فارقة عديدة من مسار ''الانتقال الديموقراطي"، لعل أبرزها "اعتصام الرحيل" الذي أعقب اغتيال النائب بالمجلس التأسيسي حينها محمد البراهمي، وأدى إلى إطاحة حكومة "حركة النهضة". وقد تصاعدت حينها خطابات الحداثة المستلهِمة لبورقيبة، "محرّر المرأة" و "باني الدولة الحديثة" ضد الإسلاميين الذين يرمزون إلى "القوى الرجعية" التي تريد العودة بتونس إلى الوراء. وعلى تلك المرجعية اتفقت القوى اليسارية وتحالفت مع قوى النظام القديم. وقد تصاعد اللجوء إلى بورقيبة خلال الحملة الانتخابية في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، إلى الحد الذي حاول فيه الرئيس الحالي، الباجي قايد السبسي، تقليد الخطابات البورقيبية، بل ذهب به الأمر إلى ارتداء نظارات على طريقة الزعيم بورقيبة، وهو الذي يدرك جيداً أن صورة بورقيبة لا تزال حية في ذاكرة التونسيين الذين عاصروا دولة الاستقلال وتربوا على ''توجيهات الزعيم". مثلما استلهم قضية المرأة وتحريرها مستثمراً تخوفات جزء كبير من نساء الطبقات المتوسطة في تونس من أن يتم التراجع على مكاسبهن الحداثية، ومنها تلك المتمثلة بمنع تعدد الزوجات. وعلى هذا الأساس، ثمة وعي لدى الفاعلين السياسيين أن بورقيبة والبورقيبية عموماً هي ورقة رابحة في خضم الصراع الإيديولوجي والتكتيكات السياسية التي ترسم حالياً الصيرورة الديموقراطية في تونس. لهذا يتم استثمارها كملجأ سياسي حين تقتضي الحاجة وحين تكون إكراهات اللحظة السياسية ملحة.
يتم إحياء البورقيبية إذاً ليس كمشروع غير مكتمل يجب صهره ضمن عملية التحوّل الديموقراطي الحالي بل كاستعطاف للذاكرة الجمعية واستثمار نفعي لها إلى الحد الذي حدث فيه سطو على هذه الذاكرة ونزعة لاحتكارها وتحويلها "أصل تجاري" (علامة مسجلة)، في حين أن هذه الذاكرة، بكل ما يشوبها من لحظات مؤلمة هي ذاكرة "الشعب التونسي" الذي خاض صراعاً مريراً ضد الديكتاتورية بما في ذلك "ديكتاتورية بورقيبة المستنيرة".

الإسلاميون يستعطفون بورقيبة

كثيراً ما كان السوسيولوجي الراحل ''عبد القادر الزغل" يردد أن "راشد الغنوشي هو الإبن غير الشرعي لبورقيبة"، في إشارة إلى أن الإسلام السياسي في تونس هو في النهاية وليد تجربة تحديث قسرية وفوقية وغير مكتملة بفعل تغييب المجتمع، بل إنه وليد الإحباطات الجماعية من المشروع الوطني الذي بدأ أفوله منذ الثمانينيات. وهذه الأبوّة غير الشرعية جعلت الإسلاميين في معظم الأحيان في حالة إنكار لبورقيبة كزعيم وللبورقيبية كمشروع سياسي ومجتمعي، إلى الحد الذي رفض فيه راشد الغنوشي الترحم على بورقيبة. إلا أن براغماتية الفعل السياسي للإسلاميين وإكراهات الحكم والتحالفات جعلتهم يعدِّلون، على الأقل على مستوى خطاباتهم السياسية، من مواقفهم المعادية للرؤية البورقيبية للمجتمع.. فاعتبر الغنوشي أمام حشد كبير من أنصاره أن "بورقيبة زعيم كبير"، وفي السياق ذاته ذهب علي العرِّيض أحد رموز حركة النهضة المؤثرين، إلى أن "لمدينة المنستير شرف إنجاب الزعيم بورقيبة".
وهكذا يتقاطع الإسلاميون مع "الحداثيون" في الاعتراف السياسي بالبورقيبية وتأثيرها في المخيال الجمعي للتونسيين أبناء دولة الاستقلال. فالمغامرة بشتم بورقيبة صارت بمثابة "الخطأ السياسي" الذي يجب تجنبه من قبل الإسلاميين. وفي هذا الإطار بالذات تبلورت الرؤية التوافقية التي صارت عنوان الديموقراطية التونسية برغم هشاشتها. لكن بالمقابل لم يتخلص اللاوعي السياسي للإسلاميين في تونس من ''عقدة بورقيبة" الذي يتمثلونه في غالب الأحيان بصفته قد اجتثّ تونس من جذورها "العربية الإسلامية".

مفارقة الغياب والحضور

مثل كل الزعامات السياسية الإشكالية والمفارِقة التي تجعل المتحدث عنها في إحراج يتردد بين الذاتي والموضوعي، يمكن القول إن بورقيبة ليس مجرد حدث في تاريخ تونس المعاصر، بل هو لحظة تأسيسية لا يمكن التغاضي عنها في تفسير ما تعيشه تونس الآن في صراعها المؤلم من أجل الحفاظ على شرف ''الاستثناء الديموقراطي" في إطار محيط إقليمي متقلب ولايقيني، محكوم بالصراعات الإثنية. إلا أن أطياف بورقيبة تعود ليس بوصفها ملهِمة للتغيير والبناء، ومن أجل مرحلة جديدة تستفيد من حدود البورقيبية نفسها من حيث هي "نموذج" سياسي، بل في إطار مزايدات بين "أطراف متوافقة إلى حين"، لم تستطع بعد بلورة مشروع مواطِني يمزج بين الإرادة البوقيبية القائمة على الخروج من "التخلّف" والمرجعيات القيمية للثورة التونسية التي استلهمت في لحظاتها الأولى القيم الكونية الإنسانية المتعلقة "بالحرية" و "الكرامة" و "العدالة الاجتماعية". هي إذاً استعادة ليس كمشروع ورؤية وتصور، بل كملجأ سياسي في ظل "ديموقراطية هشة" لم تتضح معالمها بعد. ومع ذلك يظل بورقيبة موجوداً في منعرجاتها وتقلباتها. أوليس هو الذي قال ذات مرة ''يموت بورقيبة ولكن ستبقى البورقيبية".

تمثال في قلب الشارع

سينظر كل التونسيين المارين من شارع الحبيب بورقيبة إلى تمثاله العائد على نحو يثير فيهم مشاعر متناقضة. فالبعض سيشده الحنين إلى زمنه الضائع، والبعض الآخر سيتذكر الآلام والعذابات فيه. وسيتساءل الجيل الجديد الذي لم يعاصر بورقيبة ولم يعرف عنه الكثير عن مغزى العودة، وسيأخذ معه السياح صور السلفي، وسيشتمه المتشددون حين يمرون أمامه.. ولكن مع كل هذا، سيتحول تمثال "الحبيب بورقيبة" بعد عقدين من الغياب إلى رمز لمدنية تونس وتفردها في عالم عربي صارت تسيطر عليه المرجعيات الطائفية و "الهويات القاتلة"، وفق أمين معلوف.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس: الثورة تنقسم على نفسها

كان 17 كانون الأول/ ديسمبر هو لحظة تكثيف معارضة التونسيين لتوصيات مؤسسات التمويل العالمية التي كانت تونس أحد "تلامذتها النجباء"، والتي أفرزت شروخاً اجتماعية، وجيوشاً من العاطلين عن العمل، ولا...

تونس: مثقفون هاربون من السياسة

لم تكن النخب الثقافية في تونس تتوقع أن يحدث تغيير جذري يطيح بالنظام، بل أن يُحْدِث النظام إصلاحات سياسية تتعلق بحرية التعبير والتعددية السياسية. تهاوي النظام كان الصفعة القاسية لغالبيتها،...