أتلونون حياتكم.. أم حياة الناس؟

"أتساءل في مشروعي الجديد ("إدراك") عن الأحكام والإدراك الخاطئ والذي يُصدره المجتمع بشكل غير واعي تجاه مجموعات مختلفة عنه. منذ عصور، تعيش مجموعة من الأقباط في حي الزرايب في منشية ناصر في القاهرة، حيث يجمعون القمامة من أنحاء المدينة، وبعد تجميعها يقومون بفصلها وإعادة تدويرها بشكل احترافي ومهني عالمي.
2016-05-03

أمنية خليل

معيدة واستاذة مساعدة في جامعة مدينة نيويورك CCNY، من مصر


شارك
منيشة ناصر - القاهرة

"أتساءل في مشروعي الجديد ("إدراك") عن الأحكام والإدراك الخاطئ والذي يُصدره المجتمع بشكل غير واعي تجاه مجموعات مختلفة عنه. منذ عصور، تعيش مجموعة من الأقباط في حي الزرايب في منشية ناصر في القاهرة، حيث يجمعون القمامة من أنحاء المدينة، وبعد تجميعها يقومون بفصلها وإعادة تدويرها بشكل احترافي ومهني عالمي. ورغم عملهم، ينظر لهم المجتمع أنهم مكان غير نظيف وقذر، ويتم تهميش مجتمع الزرايب وعزله. مع فريق عملي وبمساعدة المجتمع المحلي، وبغرض أن يأتي النور لهذا المكان، صممت ونفذت قطعتي الفنية الجدراية والتي تغطي حوالي خمسون بيت. والجدارية يمكن رؤيتها كاملة من نقطة معينة فوق جبل المقطم. تحتوي الجدارية الفنية كلمات القديس أثاناسيوس من الأسكندرية، وهو أسقف قبطي من القرن الثالث، قال: "إن أراد أحد أن يبصر نور الشمس، فإن عليه أن يمسح عينيه".  رحب مجتمع الزرايب بي وبفريق عملي، وتحولنا لعائلة. كانت واحدة من أروع التجارب الإنسانية التي مررتُ بها. فناس المنطقة غاية في الكرم وصادقين وأقوياء. لا يسموا أنفسهم ب "الزبالين" كما سُميوا من المجتمع. ولا يعيشون في الزبالة، ولكن تلك الزبالة تخص المدينة بأكملها ولا تخصهم. هم من ينظفون تلك المدينة، القاهرة" 
هكذا وصف السِيد مشروعه الفني والجدارية التي صممها ونفذها. تداول العديد تلك الصور للجدارية على أنها مشروع فني يهدف لتلوين المدينة وتجميلها.. من أهم المبادرات الفنية في تلوين البيوت في المناطق المهمشة والفقيرة هي مبادرة "فافيلا" في ريو دي جانيرو، البرازيل، للفنانين الهولنديين جيرون كولهاس ودري أرهان. وتعاون معهم أهالي المنطقة لشهور لتنفيذ مشروعهم، والمشروع لم يهدف فقط لتلوين البيوت، بل أيضا لتشغيل شباب وسكان المنطقة الذين يعمل عدد منهم في تجارة المخدرات. وفي أحدى المقابلات المسجلة قال أحد السكان: "فخور اني أصبحت من المنطقة الملونة وليس من منطقة المخدرات". ولا يمكن انكار التغيير ــ ولو المؤقت ــ للمشروع في سكان المنطقة وأثره في حياتهم وكذلك إدراك الآخرين في المجتمع لها. وهناك مبادرات أخرى عديدة في القاهرة مثل مبادرة "تلوين القاهرة" والتي تهدف لترميم واجهات البيوت السكنية مع سكانها ثم طلائها بألوان مختلفة. 
حول تجربة السِيد في منشية ناصر، هناك العديد من الأسئلة: ما فائدة العمل إذا كان رؤية الجدارية يتطلب الوقوف في نقطة معينة فوق المقطم؟ فقد العمل روحه الفنية والجمالية بهذا البُعد النظري. وبشكل شخصي لا أري العمل جميلاً، ولا أرى به ألواناً كتلك في المشاريع الأخرى التي تحاول تحويل الرؤية لشيء مبهج. وتلك ليست الإشكالية الوحيدة في هذا العمل، فماذا عن سكان المنطقة؟ الرومانسية عالية في نص وصف المشروع، والكلمات عن "صدقهم وكرمهم وقوتهم"، فهل اشتركوا في العمل؟ هل كانوا ضمن خطته واختاروا أن يُنفذ هذا دون غيره؟ هل أقيمت ورشات عمل مع السكان بحيث تكون مخرجات فنهم وأفكارهم وحياتهم هي من تحتل جدرانهم؟ هذا الطفل يريد أن يرسم "أبو تريكة" لاعب كرة القدم المصري المعروف على بيته، وعم محمد يريد بعض من آيات القرآن، وعم سعيد أخرى من الإنجيل أو عظةٍ ما يؤمن بها، وأخرى وهي أم شهيد من الثلاثة عشر الذين قتلوا في المنطقة برصاص الجيش في آذار/ مارس 2011، تريد تخليد صورة ابنها على جدران منزلها. 
لا يمكن تحميل السِيد مسئولية التعبير عن تاريخ أفراد مجتمع بأكمله، ولكن ممكن التساؤل عمن عبرت قطعته الفنية. لماذا يبدو كل منزل وحده قبيحا مثلما ظهر عمل فني؟ هؤلاء الناس، بهؤلاء البيوت، يكملون بعضهم البعض، ليس بصورة قبيحة، ولكن بصورة متكاملة، ومداخلاتنا على حياتهم تجعلها مشوشة ومهزوزة... والتغيير يأتي بعد عمل طويل المدى مع هؤلاء البشر الذين يفتحون لنا بيوتهم ويطعمونا ويساعدونا في تنفيذ أفكارنا في مناطقهم. لقد صرفت ملايين الجنيهات من العديد من الجهات الحكومية وغير الحكومية في تطوير منشية ناصر، فهل تحسنت حياة قاطنيها اليومية، وهل زال خطر الإخلاء القسري عنهم؟ كيف لنا أن ندعي بجدراية فنية أننا نغيّر من إدراك المجتمع لإحدى المجتمعات المهمشة، بينما يجب رؤية ذلك العمل من زاوية فنية معينة اختارها صانعه لأسباب تخص رؤيته! بكل المقاييس البصرية والفنية (وحتى الذوق الشخصي): ألم يتم عمل أي دراسة أو تصور عن كيف سيكون شكل كل بيت على حدا بعد تنفيذ الجدارية؟ يعلم منفذو العمل أن هؤلاء الأهالي لن يصعدوا الى المقطم ليروا بيوتهم بهذا الشكل. هناك إشكالية في علاقة المنظور الكلي بالفردي، فالصورة التي يتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي تعبر عن لقطة كلية لهذا العمل وكأنه على جدار واحد. ولكنها ليست الحقيقة. وتكمن المشكلة بتقسيم ذلك العمل والنظر إلى كل بيت على حدا والى سكانه الذين يطلون من فتحاته المختلفة. إنها علاقة الحياة اليومية لهؤلاء السكان بالصورة الكاملة للمجتمع، هي علاقة التضاد وعدم القبول والتهميش. ماذا سيشعر هذا الساكن عند إطلاله على الحياة من داخل بقعة حمراء كبيرة على جدار مبناه؟ فهو لا يرى تلك الصورة التي تم التقاطها للجدراية كاملة.. وقد يشعر أنه جزء قبيح في تلك الصورة الكبيرة!
هذا العمل (والجدارية الفنية) يرسخ بشدة المنظور الفوقي من أننا نلون تلك البيوت ونحاول تغيير شكلها حتى ترضي أعين الآخرين، حتى لا يقول الآخرون (من الطبقات الأخرى وغير المعنيين بتلك الطبقة من السكان)، أن شكل المنطقة أصبح ألطف وأحلى ويُسرّ أعينهم. في هذا العمل، تمّ تغييب صوت السكان وحياتهم واليومية وتفاصيل بيوتهم ومعيشتهم. بل لعل المكان صار أكثر قبحاً مما كان! أنه مثل الطلاء على شباك واحد من العمارة بلون زاهي ومفرح، فيظهر هذا الشباك قبح كل من حوله، وقبح من يعيشون وراءه. 

 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

معاداة الأخضر ومجزرة الأشجار

أمنية خليل 2024-07-11

ما يحدث هو نزع مباشر لأهلية المواطنة، بمعناها الأوسع. من أن المواطنين يمكنهم اختيار شيء، بل والتحكم بعض الشيء في حياتهم اليومية. نزع صفة التحكم، والقول لهم بكل الأشكال المباشرة...

القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/2)

أمنية خليل 2021-02-01

لم تكتفِ الأجندة العمرانية للسلطة بالمشاريع الكبرى والاستثمار في الصحراء، بل اشتملت "خطة التنمية المستدامة لمصر 2030" على مشاريعَ يتم فيها تحويل القاهرة إلى عاصمة تراثية وتجارية واستثمارية. وهذه التحولات...