هذه قصّة عن جريمةٍ من دون قاع.. قصّة نعتقد في كلّ واحدة من محطّاتها أننا وصلنا قاع الساديّة الوحشيّة، فيُذكرنا الاستعمار مرةً أخرى بانعدام حدود عدوانيّته المجنونة. وحيث نعتقد أن جريمة إعدام طفلةٍ بثياب المدرسة هي ذروة المأساة، ثم نكتشف أنها ليست إلا البداية..
أكثر من 200 شهيد في فلسطين منذ تشرين أوّل/أكتوبر 2015، نحو ربعهم من الأطفال تحت سنّ البلوغ. قُتلوا برصاص الإسرائيليين، لتلحق ذويهم من بعدهم إجراءات قمعيّة عقابيّة مروّعة، بدءاً من سحب تصاريح لمّ الشمل من العائلات المقدسيّة وطردها للضفّة، وإعلان إسرائيل نيّتها بدء تهجير عائلات الشهداء إلى قطاع غزّة، مروراً باعتقال الأقارب وهدم البيوت، وحتّى إغلاق بيوت الشهداء عن طريق سكب الإسمنت المسلّح داخلها. لكنّ هذه الممارسات كلّها، ورغم بشاعتها وعدوانيّتها، تُصبح هامشيّة حين تُسلب العائلات أكثر حقوقها الإنسانيّة جذريّةً، وتُضرب بأشد نقاط حساسيّتها الإنسانيّة والغريزيّة الطبيعيّة: احتجاز جثامين أبنائهم، ومنعهم من وداعها ودفنها بكرامةٍ واحترام.
هناك، في برّادات الموت الإسرائيلي
تنام العائلات وتستيقظ على تسجيلات الفيديو التي توثّق إعدام أبنائها، لحظاتهم وصرخاتهم وأنفاسهم الأخيرة. عائلات أخرى ممن قُتل أبناؤها في جنح الخفاء، ظلّت من دون أدنى فكرةٍ أو أي معلومةٍ عنه، هو الذي خرج في الصباح إلى المدرسة ولم يعد. لكنّ هذه العائلات كلّها عرفت وتعرف أن جثامين بناتها وأبنائها ترقد هناك، في برّادات الموت الإسرائيليّة. تعرف أن جثامين أولادها صارت كتلاً جليديّة بدرجة حرارة 25 تحت الصفر. فمنذ انطلاق الهبّة الشعبيّة، تمارس إسرائيل سياسية منهجيّة، بقرارٍ حكوميّ مُعلن وتأييدٍ جماهيريّ صهيونيّ واسع، تحتجز بموجبها جثامين الشهداء. مرة لأسبوعين أو ثلاث أشهر، ومرة لفترةٍ متواصلة وغير محدودة تعدّت نصف السنة وهي مستمرة. منع الجنازات، يقول الإسرائيليّون، "يُمكنه أن يشكّل رادعاً ويُقلل من الدوافع لتنفيذ عمليّة طعنٍ أخرى، أما دفنهم وتشييعهم وإقامة بيوت العزاء فتحوّلهم مثلاً يُحتذى به".
أمّا في حال قررت إسرائيل أن تُعيد الجثمان، فهي لا تزيد المأساة إلّا تدهوراً، إذ تتعامل مع جثث الشهداء كأنّها أوراق تفاوض رابحة. تفرض شروطاً صارمة ومكتوبة تُجبر العائلة على التوقيع عليها، ورهن مبالغ ماليّة طائلة مقابل تسلّمها الجثمان. من هذه الشروط، مثلاً، ألا تُبلغ المخابرات الإسرائيليّة العائلة عن موعد تسليمهم الجثمان فتُحدد الاتفاقيّة أن يتم التسليم "في أيامٍ قريبة". في حالة الشهيد معتز عويسات، وهو يبلغ من العمر 16 عاماً وتحتجز إسرائيل جثمانه منذ ستة شهور، فما زالت العائلة تنتظر "الأيام القريبة" لأكثر من شهرين. كذلك، يشترط أمن الاحتلال بـ "الاتفاقيّات" المكتوبة أن يكون موعد تسليم الجثمان في ساعات الليل المتأخرة، تحديداً بعد منتصف الليل، وفي المكان الذي يحدده الإسرائيليّون (وهو غالباً مدخل المقبرة). كما تشترط أن يستلم الجثمان أربعة من أبناء العائلة فقط لا غير، وألا يشارك بالدفن أكثر من 20 أو 30 شخصاً، وأن يصل المشيّعون إلى المقبرة ويخرجوا منها فرادى ومن دون "تجمّعات ومسيرات"، وأن تستغرق عمليّة الدفن أقل من ساعة ونصف الساعة. في معظم الحالات، يصادر الإسرائيليّون الهواتف النقّالة خلال الدفن لئلا يتم تصوير الجنازة. بين الشروط المكتوبة الأخرى ألا يُطلق المشيّعون ما يسمّيه الإسرائيليّون "هتافات تحريضيّة". وفي حالاتٍ كثيرة، اشترطت إسرائيل أن يُدفن شهداء الضفّة الغربيّة في القدس حتّى تخضع الجنازة للرقابة الأمنيّة.
تحصين القتلة
تبرّر إسرائيل احتجاز الجثامين وإعادتهم لذويهم بشروطٍ وحشيّة بحجّة منع تخليد ذكراهم، وبالحاجة لوقف "التحريض"، وبحجة أنّ جنازاتهم تتحوّل إلى "مناسبات للاشتباك" و "تأجيج الوضع". لكنّ الساديّة الجنونيّة لا تنتقص البتّة من المهارة التقنيّة في أداء "الجريمة المثاليّة". فالحقيقة أن إسرائيل ما زالت تقيم اعتباراً لأهميّة حماية جنودها أمام احتمال المحاكمات الدوليّة، وحتّى في داخل النظام القضائي الإسرائيليّ نفسه. فعلى الرغم من أن القضاء الإسرائيليّ، عسكرياً كان أم مدنياً، هو جزء جوهريّ في منظومة القمع الصهيونيّة، إلا أنه يجد نفسه في حالات نادرة مجبراً على البتّ بالتماساتٍ أو دعاوى ضدّ جنوده، وذلك حين لا تُبقي الدلائل المنشورة أمام إسرائيل أي إمكانيّة للتهرّب، مثل حالة شهيد الخليل عبد الفتّاح الشريف الذي تُظهره الكاميرات حياً ينزف وغير قادر على الحركة، ثم تظهر بوضوح الجنديّ الذي أطلق النار باتجاه رأسه وقتله بدمٍ باردٍ. حتّى حينذاك، تتخذ إسرائيل احتياطاتها، فتصادر مثلاً من المحال التجاريّة أو مداخل العمارات كاميرات المراقبة كافّة التي تصوّر المنطقة التي نُفّذ بها الإعدام، ويلاحقون بالاعتقال والتنكيل والتخويف شهود العيان الفلسطينيين على الجريمة المرتكبة.
لهذا الهدف، إضافةً للهوس الانتقاميّ والتخبّط الوحشيّ العاجز، تحتجز إسرائيل جثامين الشهداء وتشترط تسليمهم لذويهم بإجراء الدفن خلال مدةٍ زمنيّة قصيرة جداً: من أجل منع إخضاع الجثامين لعمليّة التشريح التي يُجريها طبيب شرعيّ لكشف ملابسات الاستشهاد. فلعمليّة التشريح في حالات القتل أهميّة قضائيّة بالغة وحاسمة في إمكانيّة تقديم القتلة للمحاكمة، والإثبات بأن الشهيد قد أُعدم بدمٍ باردٍ. فهي توفّر معلومات عن أسباب الوفاة، إذ يستطيع الطبيب الشرعي أن يؤكّد أن الوفاة حدثت إثر نزفٍ طويل وليس جرّاء رصاصة قاتلة، وهو ما يعني أن الطواقم الطبيّة الإسرائيليّة أهملته عمداً لفترة زمنيّة طويلة ومنعت عنه أي إسعاف، أو العكس، أن هذه الرصاصة هي تحديداً ما أدى للوفاة.. كذلك، بوسع التشريح أن يؤكّد عدد الطلقات التي اخترقت جسد الشهيد. فما الذي يُثبت علمياً، غير أصوات الرصاص وشهادات الناس والصحافيين، أنّ الإسرائيليين قد أطلقوا نحو 50 رصاصة على الشاب محمّد أبو خلف في باب العامود في القدس؟ يفحص التشريح كذلك موقع الإصابات، فيُحدد إن كان الرصاص قد أطلق باتجاه الجزء العلويّ من الجسد (الرأس تحديداً) أو السفليّ، وهو ما قد يشكّل دليلاً على تعمّد القتل، أو على الأقل إطلاق النّار بما يخالف معايير الضرورة بالقانون الدوليّ الإنسانيّ، أو يُثبت إصابة الشهيد بظهره، وهو ما يدل على إعدامه رغم أنه لم يكن، بلغة القانون، يشكّل خطراً على مُطلق النار، أو يفحص موقع دخول الرصاصة وخروجها ليُحدد زاوية إطلاق الرصاص، ويُفحص كذلك الاحتراق على ملابس الشهيد وهو ما يدلّ على المسافة التي أطلقت منها النار. هذه كلّها دلائل قطعيّة يتعمّد الإسرائيليّون إخفاءها بواسطة الابتزاز بجثامين الشهداء.
الانكسار الذي لم تقبله عائلة مناصرة
هل وصلنا إذن قاع البشاعة والانحدار الإنسانيّ؟ ليس بعد.
يوم 21 آذار/مارس 2016 تلقّت عائلة الشهيد الطفل حسن مناصرة مكالمةً هاتفيّة بأن تتجهّز لاستلام جثمان ابنها بعد ساعات قليلة. حسن الصغير (15 عاماً) استشهد قبل ذلك اليوم بستة شهور، يومها أصيب ابن عمّه أحمد مناصرة (13 عاماً) برصاص الاحتلال وتركوه ينزف وقتاً طويلاً، بينما شوهد الأطباء والمسعفون الإسرائيليّون بالفيديو يجتمعون حوله من دون أن يعالجوه، وشوهد الإسرائيليّون يقتربون منه، يشتمونه ويبصقون على جسده النازف. لاحقاً، شاهدنا تسجيل فيديو لأحمد في غرف تحقيق المخابرات الإسرائيليّة وهو يتعرض لأبشع أنواع التعذيب النفسيّ.
بعد منتصف تلك الليلة، بدأت وسائل الإعلام الفلسطينيّة تتناقل خبراً مفاده أن عائلة الشهيد حسن مناصرة رفضت أن تستلم جثمان ابنها وأعادته للإسرائيليين. قال والد الشهيد للصحافة فوراً: "هاي محاولة لإذلالنا ـ لمّا يجيبوه بالطريقة هاي، بيعرفوا إنه فش مجال لتكفينه وفش مجال لتقبيله وفش مجال لتوديعه، وفش مجال حتى أن نلحده". كان خالد مناصرة، والد الشهيد، يتحدّث عن الطريقة التي تُسلّم فيها إسرائيل جثامين الشهداء لعائلاتهم: من دون أن يتم إخراجها من البرّادات قبل التسليم بفترةٍ زمنيّة تسمح بذوبانها ودفنها وتوديعها بشكلٍ لائقٍ. العائلات المجبرة على إتمام الدفن خلال مدةٍ أقصاها ساعة ونصف الساعة، تستلم جثة ابنها كتلة جليدٍ واحدةٍ فلا تتمكّن حتّى من أن تميزه، هذا غير الحالات التي لا تتمكّن العائلة فيها من تمييز ابنها جرّاء اسوداد الجثمان، وهو ما يدلّ على تأكسد الجسد نتيجة إهمالٍ طبيّ وتأخّرٍ بالغٍ في إدخال الجثمان إلى برّاد الموتى. حرفياً، يستلم الأب ابنه كتلة جليدٍ، يُعانق كُتلة جليد ويقبّل كتلة جليد، فلا يستطيع توديعه أو تكفينه وتُصبح عمليّة الدفن خطيرة جداً، تقول العائلات، فالجثّة في هذه الحالة... يُمكنها أن تنكسر!
الدفن، العدالة، الحياة
دخول منظومة الجريمة الإسرائيليّة إلى هذه المنطقة الإنسانيّة الحرجة المرتبطة بجوهر إنسانيّتنا، تُحيلنا إلى محاولة البحث عن جذور قيمة وحقّ الدفن في الأطوار المفصليّة من تاريخ البشر، من تلك الأولى وحتّى الحداثة المؤسسة للمنظومة الحقوقيّة التي نعرفها في عالمنا اليوم.
في أقدم عملٍ أدبيّ معروف للبشريّة، رفض جلجامش أن يترك جثّة صديقه الميت أنكيدو لسبعة أيامٍ ولياليٍ. وحين رأى في اليوم السابع دودةً تخرج من أنف الجثمان، قرر أن يدفنه بيديه. أوّل ظهوره بالملحمة، كان أنكيدو متوحشاً ربّته الحيوانات، لكنّ جلجامش تمكّن لاحقاً من تمدينه وصنع منه إنساناً. عند الخطيب الرومانيّ كنتليان (القرن الأوّل بعد الميلاد) قد نجد تفسيراً لقرار جلجامش هذا، ولقيمة الدفن عموماً، فكنتليان يقول إنّ أهم تفسيرٍ للحقّ بالدفن ينبع من كرامة الإنسان، إذ أنه بإنسانيّته وعقله يتفوّق على باقي الكائنات الحيّة، لذلك سيكون من العار على الإنسان أن تُترك الحيوانات المفترسة والوحوش (أو الحشرات في حالة أنكيدو) تنهش جثمان إنسان آخر، لما في ذلك من حطٍ من إنسانيّة الميت وكرامته. في حالةٍ مشابهة، ترفض أنتيغون في المأساة أن يُترك جثمان أخيها للوحوش وتُصر على دفنه.
في القرن السابع عشر، وضع هوجو غروتيوس أسس ما نعرفه اليوم بالقانون الدوليّ الإنسانيّ، وقد خصّص في الجزء الثاني من مؤلّفه "قانون الحرب والسلم" فصلاً كاملاً "عن الحقّ بالدفن"، ويصفه في مطلع الفصل بأنّه "قانون الطبيعة غير المنصوص، الذي تتفوّق قوّته على كل القوانين المنصوصة التي يُمكن لكلّ الأجيال أن تنتجها". في الفصل ذاته، يذكر غروتيوس تمسّك الديانة اليهوديّة بقيمة الدفن كقانونٍ إلهيّ، يأمر بالدفن الفوري "حتّى للمصلوبين، وهم أصحاب أكثر جرائم شائنةٍ". أما في دولة اليهود التي لا تمتّ لليهوديّة بصلة ـ إنما هي منتوج التطرّف العقلانيّ الأوروبيّ المؤدّي للفاشيّة الاستعماريّة، بكلمات أخرى: الصهيونيّة، فإنّ المنطق السيّد الوحيد هو احتكار المستعمِرين للإنسانيّة، وتجريد ضحايا الاستعمار من أي طابعٍ أو جوهرٍ إنسانيّ فيهم.
أن تمنع عن الإنسان دفنه، أو أي طقسٍ يعتمده أي مجتمعٍ لمواجهة موت الإنسان، يعني أن تنتزع منه أقدم أطباع الإنسان وأكثرها جذريّة وجوهريّة وأوّليّة، وأن تنتزع إنسانيّته. لكنّ أنتيغون التي قاتلت الملك لتدفن أخيها، وبالرغم من أنها قُتلت، إلا أنها كسرته وأعادته بقوّة الدم إلى الرُشد والعدالة. أما جلجامش، فتقول الملحمة إنه عندما دفن أنكيدو إدراكاً لقيمة إنسانيّته، خرج بحثاً عن الحياة الأبديّة. ونحن أيضاً نُريد شهداءنا مكرّمين: لنستعيد العدالة، ونستمر في بحثنا عن الحياة.