مدينة الحلّة بالعراق: أنا مهرجان للخراب

الأول هو الوجه الأثري وتمثله آثار بابل ومقترباتها من جنائن معلقة، وطبع أقدام الزمن الآفل وبصماته الذي تركته الأجيال متعددة المشارب حيث عاشت أزقتها وشناشيلها وما يشبه ذلك من طُرز عتيقة الوضع لمقامات الأنبياء والأولياء والأجداث المندثرة للمتصوّفة والبَختيّين الذين قطنوها ذات يوم، واتخذوا من حوافّ شطّ الفرات مكانا للمَوجَدة
2016-04-14

ميثم الحربي

كاتب من العراق


شارك
من دفتر:
مدن العراق
بابل الأثرية اليوم - الحلّة

تنظرُ مدينة الحلّة (100 كم جنوب بغداد) إلى الأفق بثلاثة وجوه:
الأول هو الوجه الأثري وتمثله آثار بابل ومقترباتها من جنائن معلقة، وطبع أقدام الزمن الآفل وبصماته الذي تركته الأجيال متعددة المشارب حيث عاشت أزقتها وشناشيلها وما يشبه ذلك من طُرز عتيقة الوضع لمقامات الأنبياء والأولياء والأجداث المندثرة للمتصوّفة والبَختيّين الذين قطنوها ذات يوم، واتخذوا من حوافّ شطّ الفرات مكانا للمَوجَدة، وصوامعَ أهدت لكتب المؤرخين فيما بعد سِلالا من جنوح الكلام، وشطحات التفلسف بالمصير، وهي تجري تحت محابر مدبّجي كتب الرحلات.
الوجه الثاني، تمثله الأبواب الخلفية للنهارات التي تنفتح على بسائط الأرض، وهي حافلة بالبساتين وصفوف النخيل التي تُسوّر عيون المتلفتين أبعد من أرنبة الأنف وهم يمدون البصر صوب أطرافها.
أما الوجه الثالث، فهو القلب الذي يتوسط بابل الوثنية القديمة، وبابل الأرياف والبساتين. وهو عبارة عن مرافق مدنية وأسواق ومعامل وصولاً إلى تفتّقات معمارية بنيت بالتعاقب، وعليها ضربات من فرشاة عمارة الحداثة العراقية لأصداء أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين.

إيقاع المحبرة

مدينة الحلّة، كغيرها من المدن العراقية المثيرة لإغراء التأمل والكتابة، انعكست صورتها بتكويناتها الثلاثة السابقة في جهود أعلامها بمختلف اختصاصاتهم الجغرافية والتاريخية والجمالية والاجتماعية.. وينقسم هؤلاء الأعلام بين الرواد والبحّاثة المُحدَثين الذين رسموا الأفق الثقافي للمدينة. الدكتور الآثاري طه باقر (توفي 1984) الملقب بـ "قارئ الطين" وهو متخصص بالآثار، أفرد مؤلفات وكراريس تنعكس في صورتها بابل بوصفها أثراً من آثار الحضارة الوثنية، وتراثات من الأساطير والأطالس اللغوية القديمة التي أنتجتها الطبقات الاجتماعية الموغلة بالقدم. بموازاة ذلك، ترك لنا الدكتور أحمد سوسة (توفي 1982) كتبا عن الحلّة بوصفها جغرافيا مائية، قارئاً إياها كفكرة جارية يبدأ بها كيان جغرافي يُعرف بـ"مدن الفرات الأوسط" إلى جانب الديوانية وكربلاء والنجف، فكتب متحدثاً عن الحلة الأنهار والبساتين ("وادي الفرات"، بجزأين، و"سدّة الهندية"، باللغة الإنكَليزية). وإذا لقب طه باقر بقارئ الطين، فهل يمكن تلقيب أحمد سوسة بقارئ العذوبة، ولاسيما أن شط الفرات الذي تنام وتصحو بجانبه مدينة الحلّة أمسى عذباً فقط في كتب التاريخ والتأملات الهندسية والرحلات! ومن الأعلام المدنية أيضاً في الدرس النقدي والأدبي الدكتور علي جواد الطاهر (توفي 1996)، الذي كتب إلى جانب مؤلفاته المعروفة، عن تجربة الشاعر والناقد الحلي ("عبد الجبار عباس، ناقداً") وقد توفي هذا الأخير عام 1992 بمستشفى مرجان في الحلة تاركاً لنا آخر آثاره ("مرايا جديدة"). إلى جانب هؤلاء الأعلام، هناك من المحْدِثين من كتب في الببلوغرافيا، ودرس الحلة في سياقها الحضري، أماكنَ، وأعلاماً، وشياطين أزقة. غنائياً تفوز أغنية "ليلة ويوم" للمطرب سعدي الحلّي في مهرجان الأغنية العراقية. ومن أشهر الملحنين وشعراء الأغنية من المدينة كوكب حمزة، وكاظم الربيعي شاعر الأغنية المذكورة.

زوجة السرَطان

الحلّة، تاريخا مَدنّياً ومصنعاً روحيا مُميزاً، تتقاطع اليوم مع نموذج الحلة هنا والآن. فالخرابات العمرانية تعكس بأمانة وحشية حال وصورة الخرابات الاجتماعية التي دكّت علاقاتِها الصراعاتُ العميقة المتنقلة من لحظة عملاء الأيديولوجيا إلى لحظة عملاء الطائفية وسماسرة القبائل، وما أنتجه برابرة العالم السفلي من نفايات عقائدية، وذُهانيّات قوى النفوذ السياسية، ناهيك عن الإسهامة التي أكملت "الغرقان غطّة" (كما يقول المثل العراقي.. والأغاني!) على يد موجات الإرهاب منذ 2003، وحُماتها من اللصوص والقتلة.
تمارس هذه المدينة، كبقية مدن ومحافظات العراق، يومياتها وسط مناخ من السرطان القيمي، ويبدو على مُحيّا السكان والجغرافيا ولعا مذهلا بصداقة الانحدار، وفخرا بارد البال في اتخاذ الغيبوبة كمبدأ تضحَويّ. فقد أنتج ذلك التخصيب المدمر بين القبائليين ورجال الدين أن يكون القراران الاجتماعي والسياسي بقبضتهما، الأمر الذي أدى إلى تحويل حياة التنوّع في الحلة من ذخيرة ارتقاء، إلى قطعان تمشي مُسرنمة وراء صفير العزف على الغرائز المتدنية، حيث التغزّل على قدم وساق بأوهام حرّاس الثوابت، وأكاذيب الإعلانات الضوئية الكبيرة بشأن المدن الفاضلة.
خرجت الحلة من حكم البعث مرعوبة إلى جانب أخواتها، وكزّت على أسنانها خيبة وأسفاً وهي تنتشل أبناءها من المقابر الجماعية في مناطق المحاويل، وقرب مدينة بابل الأثرية. ومنذ 2003 تلاحق عيونها الشريط الأخباري وهو يرصف أرقام الضحايا الذين تبخّروا في الانفجارات الكبيرة للسيارات المفخخة، سواء في تفجير "جامع ابن النما" وسط السوق الكبير، أو نقطة التفتيش في مدخل المدينة، والتفجيرات الأخرى التي حدثت طوال هذه السنوات في أحياء حي "باب الحسين"، وقرب سجن الحلة المركزي، ومناطق النيل، وآل بو علوان، والجِمِجْمَه، ومنطقة الوردية، وغيرها..
وفي كل مرة تنظف المدينة ثيابها من الدماء وتذهب لشراء الطماطم والخبز، تتجول بين شعارات الأحزاب واستعراض القبائل وخبل الميليشيات وهم يفتتحون دكاكينهم السياسية ويقدمون للسكان عقاقير الرموز المتوفرة دائماً في صيدلياتهم الشريرة المكتوب على جبينها "هذا من فضل ربي"! مدينة الحلة اليوم في قطيعة مع نفسها وتاريخها، وروحها الحيّة. إلى السراديب المظلمة تمّ قذفها ورميت على جرف شطّها الوادع، عارية إلاّ من آثار كدمات الاغتصاب المادية والروحية.

تلك البطاح بين بغداد والحلة

من خلال هذه المدينة تتفرع دلتا الطرق للنازل إلى بقية مدن الجنوب. وبصورتها التي يَطنّ الخراب حواليها يمكن لمسها كإحدى البوابات المريضة وهي تؤدي بك إلى بحبوحة العصور الوسطى وعوالمها الحافلة بنماذج مختلفة من الديكتاتوريات الروحية الرائعة! إنها اليوم بالضد من هذه الصورة التي يحدثنا عنها خيال الرّحالة أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير في كتابه الشهير، "رحلة ابن جبير":
"والطريق من الحلة إلى بغداد أحسن طريق وأجملها، في بسائط من الأرض وعمائر، تتصل بها القرى يمينا وشمالا. ويشقّ هذه البسائط أغصان من ماء الفرات تتسرب بها وتسقيها، فمحرثها لا حد لاتساعه وانفساحه، فللعين في هذا الطريق مسرح انشراح، وللنفس مسرح انبساط وانفساح، والأمن فيها متصل، بحمد الله سبحانه وتعالى".
الخريطة التي تحدث عنها ابن جبير، هي بالضبط اليوم العنوان والتفاصيل المرعبة التي أكلت المارة منذ 2003 بسبب سيطرة ذباحي القاعدة، ومجلس شورى المجاهدين، وكانت مكاناَ لخطوط الزخم الناري الشرس والمتبادل بين الإرهابيين وسياراتهم المفخخة وبين عناصر الشرطة. وقد خلفت تلك المعارك وحفلات الشواء والذبح ندوباً جسيمة على تلك البطاح بين بغداد والحلة. فكثير من البساتين هجرها أهلها وتحولت إلى سباخ تَلْتحي بالملْح والرياح، وتنتطرح كإسفنجة تنام في داخلها دماء الهزائم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية. ماذا تقول اليوم هذه المدينة عن نفسها؟ لديها كثير من العويل والصراخ، ولديها ما تصف به نفسها عندما تهدأ: أنا مهرجان للخراب! ولكن صداقتها الطويلة مع الخراب أثمرت أيضا هامشا إنسانيا عنيدا، يتحرك اليوم داخل الشوارع الخلفية، شاحبا وضئيلا، وهو يقاوم "زمن القتلة". هذا الهامش يعي بأنه يعيش داخل مصحة كبرى، تحملُ سيماؤه كثيرا من الندوب والتناقضات، وأحيانا دائمة يُهدّد البرابرة بتكشيرة ذات نفس طويل من الشتائم.

مقالات من الحلّة

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

الموصل.. ثمن البداية من صفر جديد

هواجس ما بعد تحرير الموصل: أين المشروع الوطني القادر على تجاوز الكوارث المتلاحقة، وآخرها ما جرى للموصل وفيها، وتداعياته المستقبلية. وهل يتشابه زلزالا الاحتلال في 2003 وهذا الحدث الاخير؟