"الشعب" العراقي وسؤال ولاءاته

مرّت ثلاث سنوات منذ أن قام قناصو حكومة عادل عبد المهدي المختبئين فوق أسطح البنايات المحيطة بـ "ساحة التحرير" بارتكاب مجازر راح ضحيتها شباب عزل لم يرتكبوا ذنباً سوى أنهم حملوا الأعلام العراقية واتجهوا إلى تلك الساحة في بغداد. كانوا يطالبون بوطن فيه أبسط الحقوق من خدمات ماء وكهرباء وصحة وتعليم وفرص عمل.. وكلها ما زالت إلى اليوم شبه معدومة.
2022-10-15

ديمة ياسين

كاتبة صحافية، من العراق


شارك
جسر الجمهورية في بغداد

"مسكين جسر الجمهورية"، هكذا كتبت إحدى الصديقات في صفحتها على تطبيق إنستغرام. فقد أغلقت الحكومة العراقية كل جسور بغداد والطرق المؤدية إلى "ساحة التحرير" وسط العاصمة، مع حلول الذكرى الثالثة لانطلاق ثورة تشرين في العراق في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الجاري. حملَ جسر الجمهورية، مرة أخرى، ثقل الصبّات الإسمنتية والسواتر الرملية والمعدات العسكرية وعناصر "قوات الشغب" الملثمين والمدججين بسلاحٍ لم يوجه سوى لصدور العراقيين. الحكومة العراقية تخاف عبور المتظاهرين إلى "المنطقة الخضراء"، حيث يتحصن من يتحكمون بمصير العراق منذ 2003 بفسادهم وولاءاتهم الخارجية وخياناتهم المستمرة خلف أسوار تعزلهم عن ذلك الشعب المنهوب والمنهَك بكل أنواع المأساة حد الثمالة.

ساحة التحرير مضرجة بدماء شباب "الشعب" العراقي

مرّت ثلاث سنوات منذ أن قام قناصو حكومة عادل عبد المهدي المختبئين على أسطح البنايات المحيطة بـ "ساحة التحرير" بارتكاب مجزرة راح ضحيتها شباب عزل لم يرتكبوا ذنباً سوى أنهم حملوا الأعلام العراقية واتجهوا إلى تلك الساحة في بغداد. كانوا يطالبون بوطن فيه أبسط الحقوق من خدمات ماء وكهرباء وصحة وتعليم وفرص عمل - وكلها ما زالت إلى اليوم شبه معدومة. فأصبحت دماؤهم الشرارة الأولى التي وُلِد منها حراك ثوري شعبي غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث. استمرت الاحتجاجات لأكثر من عام كامل وبقيت مؤمنة بسلميّتها ومحافِظة عليها على الرغم من كل ما استُخدم ضدها من أدوات البطش والتنكيل، سواء من القوات الأمنية أو المليشيات المختلفة الاتجاهات والتسميات والولاءات، وكذلك على الرغم من الخسارات في الأرواح التي قاربت الألف متظاهر ومتظاهرة والإصابات التي تجاوزت الـ 25 ألف إصابة - الكثير منها أدى إلى عجز جسدي دائم.

وجّه السيد نصر الله النقطة الثانية في خطابه إلى "الشعب العراقي". هكذا وبشكل عام، وبدون تحديد من يقصد من هذا الشعب، وألقى عليه باللائمة على "التحريض الدائم على إيران، وتقديم الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني كعدو لشعوب المنطقة"، ونعتَ من يظن سوءاً بالجمهورية الإسلامية "بالخائن" و"غير الطبيعي"!

لم تكن التظاهرات الفعلية لإحياء الذكرى الثالثة للثورة كبيرة هذا العام. على الرغم من حدوث بعض المصادمات بين "قوات الشغب" والمتظاهرين، إلا أنها لم تؤدِ إلى إصابات خطيرة. لكن ربما ما يحدث في الجارة إيران أعاد إلهاب مشاعر العراقيين التي لم تبرد في الحقيقة يوماً. فالعراق ككل العالم ما زال في حالة صدمة ممزوجة بغضب وربما ببعض التفاؤل بما يحدث في إيران.

 وبعد أن قصف النظام الحاكم في إيران كردستان العراق وقتل مدنيين أكراد عراقيين، بذريعة أن أكراد العراق يثيرون أكراد إيران، خاصة بعد مقتل الفتاة الكردية الإيرانية جينا (مهسا) أميني، التي غالباً ما تكون أصولها الكردية كانت سبباً مباشراً بممارسة عنف أكبر ضدها من قِبل من اعتقلوها. هي ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تنتفض فيها شوارع المدن الإيرانية بالمظاهرات ضد النظام الحاكم، ولا هي المرة الأولى التي تُقمع فيها المظاهرات بوحشية تذكّر بالطريقة التي استخدمتها حكومات المنطقة ضد انتفاضات شعوبها. وعلى الرغم من أن الإعلام في العالم يُفسّر الأمر حسب نظرته النمطية كالعادة، خاصة إذا تعلق الأمر بنساء المنطقة، إلا أن احداً لا يستطيع نكران أهمية ما يحدث ولا أن يقلل من الشجاعة المطلقة للمتظاهرات والمتظاهرين في إيران. والعراقيون بالذات يدركون ذلك ويقدرونه تماماً. فلا يخفى على أحد مدى تأثير القرار الإيراني الذي يُتخذ في طهران على ما يُنَفذُ في العراق، سياسياً أو اقتصادياً أو حتى اجتماعياً في أحيان كثيرة. العراقيون هم العارفون أيضاً بعمق البطش الذي يمكن لطهران أن تمارسه ضد كل من يعارضها داخل إيران وخارجها. فقد طال العراق منه ما طال حتى قبل انطلاق ثورة تشرين 2019، وعمليات اغتيال الناشطين التي نفذت خلالها وبعدها بأيدٍ ولاؤها معروف للجارة.

الحراك الحالي في إيران كمؤامرة

ربما كان هذا ما جعل السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني يخصص جزءاً مهماً من خطابه في رثاء العلامة محمد علي الأمين (بتاريخ 1-10-2022) للحديث عن الحراك الحالي في إيران. واصفاً إياه بأنه مؤامرة تحاكُ ضد الجمهورية الإسلامية ومحور المقاومة من قبل أمريكا وإسرائيل، متهماً وسائل الإعلام الغربية والخليجية بتضخيم الموضوع ونقل صورة غير صحيحة عما يحدث في "إيران القوية العزيزة المقتدرة"، فحرضّت وسائل الإعلام المعادية مستغلة ما أسماه "بالحادثة الغامضة" - مقتل جينا (ماهسا) أميني - البعض للنزول إلى الشارع في العديد من المدن الإيرانية. "ربما نزل العشرات، نزل المئات، يا خيي قول ألف، ألفين، ثلاثة"، و"البعض منهم مارس الشغب واعتدى وقتل". إلا أنه شددّ بأن الشعب الإيراني "متمسك بإسلامه ودينه ونبيّه وأهل بيت نبيّه"، وذكر لاحقاً بأن الشعب الإيراني "مُخلص ومضّحي ومُحب" مستشهداً بحشود الزيارات الدينية والحشود التي خرجت لتشييع قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني - الذي اغتيل من قبل الإدارة الأمريكية في بغداد في كانون الثاني/ يناير 2020. ونعتَ السيد نصر الله من يظنون عكس ذلك بالأغبياء والحمقى، مشيراً إلى أن هناك بعضاً منهم في لبنان "بس مش كتار، الحمد لله" بالطبع، لأنه ذكر سابقاً أن "لبنان عزيز وقوي ومقتدر" بوجود المقاومة. وطمأن محبي الجمهورية الإسلامية في إيران بأن هذه الأحداث عابرة كغيرها.

ملامة "الشعب العراقي"

لكن ما يثير الاهتمام حقاً هو أن السيد نصر الله وجه النقطة الثانية من هذا المقطع في خطابه إلى "الشعب العراقي"، هكذا، وبشكل عام، وبدون تحديد من يقصد من هذا الشعب. وألقى عليه باللائمة على "التحريض الدائم على إيران، وتقديم الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني كعدو لشعوب المنطقة"، وقال إن إيران "لا تريد شيئاً من الشعب العراقي" وليس لها أي أطماع في العراق عكس الولايات المتحدة ودول الغرب. ثم أشار بأنه لولا إيران وإمكانياتها "ودمائها وفلذات أكبادها" لما تمكن العراقيون من تحرير أراضيهم من تنظيم داعش، وتساءل: كيف يمكن "لشعب العراق" أن ينسى كل هذه التضحيات؟ على الرغم من أن المسؤولين العراقيين "يوضّحون ذلك يومياً". السيد نصر الله حدّد هنا إذاً أن مشكلته ليست مع الحكومة العراقية والمسؤولين فيها، وإنما مع الشعب العراقي. وهو حسب آخر إحصائيات الأمم المتحدة يضم 42,256,485 مليون نسمة من خلفيات عرقية ودينية ومذهبية متعددة، وله تاريخ كبير في تعدد عقائده واتجاهاته الفكرية. والسيد نصر الله نعت من يظن سوءاً بالجمهورية الإسلامية "بالخائن" و"غير الطبيعي"، فهل يقصد بأن "شعب العراق" الذي وجه له كلمته بهذا الشكل العام، خائن وغير طبيعي؟ وخائن لمن؟ وهل هذا تحريض مباشِر ضد الشعب العراقي؟ وهو شعب حمل من ويلات المنطقة وصراعاتها وفسادها ومآسيها ما حمل.

في العراق كانت بداية التاريخ! وشعب العراق يبدو صابراً مثل صبر جسر الجمهورية في بغداد وهو يتحمل الكثير من الأحمال والأثقال. وهو أيضاً شاهدٌ على ثورة تشرين/أكتوبر 2019، وإلى مَن كان وسيكون في نهاية الأمر ولاؤه.

يُذَّكر موقف السيد حسن نصر الله بمواقف أخرى تجاه الشعب العراقي حدثت في الماضي، فمحبو الرئيس السابق صدام حسين من العرب كانوا أيضاً يتهمون العراقيين بالخيانة إن هم اشتكوا من ظلمه وتحدثوا عن ديكتاتوريته، وما زالت مواقع الإنترنت مليئة بالفيديوهات تُبرر المجازر العديدة التي ارتكبت ضد العراقيين خلال سنوات حكمه الرجل. والسؤال هنا، لماذا يُطلب من العراقي دوماً أن يكون ولاؤه لغير أرضه وناسه وأن يتحمل الأذى نيابة عن الآخرين؟

السيد حسن نصر الله في خطابه ذكر حرب الثمانِ سنوات ومعاناة إيران خلالها. وكأن إيران كانت في حرب مع مجهول وليس مع بلد (العراق) الذي جُنِّد شعبه هو أيضاً "كما الشعب الإيراني" وقُتل نصف مليون من أبنائه في حرب بلا جدوى. كما وذكر العقوبات الاقتصادية الحالية على إيران وظلمها، ولم يتطرق إلى 13عاماً من عقوبات اقتصادية دولية جائرة تحّملها شعب العراق في ضنك وعوز فأنهكته. من الغريب أيضاً أن ينسى السيد نصرالله بأن تحرير الأراضي العراقية من إرهابيي داعش لم يحدث سوى بدماء عراقية شابة خالصة، وآلاف البيوتات العراقية تشهد على من فُقدوا في هذه الحرب، التي اقتصر فيها دور أنظمة الدول المجاورة على فتح أبواب سجونها للمنتمين للفكر التكفيري وتسهيل سفرهم الى العراق للتخلص منهم، فيقاتلهم العراقيون نيابة عن الجميع.

***

حقيقة، أتساءل أنا وكثير من العراقيين والعراقيات: إلى متى تبقى الأنظمة الحاكمة في المنطقة وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية تحاول التعامل مع العراق على أنه طفل يتيم ينام على كنز من الأموال التي لا تنضب، كل من يَمر به يسرق من أمواله ويضربه على رأسه وهو يردّد: أنا عمك وعليك أن تحترمني!!

لا أحد يستطيع نكران أهمية ما يحدث في إيران ولا أن يقلل من الشجاعة المطلقة للمتظاهرات والمتظاهرين هناك. والعراقيون بالذات يدركون ذلك ويقدّرونه تماماً. فلا يخفى على أحد مدى تأثير القرار الإيراني الذي يُتخذ في طهران على ما يُنَفذ في العراق، سياسياً أو اقتصادياً أو حتى اجتماعياً في أحيان كثيرة.

في العراق كانت بداية التاريخ! وشعب العراق يبدو صابراً مثل صبر جسر الجمهورية في بغداد وهو يتحمل الكثير من الأحمال والأثقال. وهو أيضاً شاهدٌ على ثورة تشرين/أكتوبر 2019، وإلى مَن كان وسيكون في نهاية الأمر ولاء هذا الشعب.  

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

نخلات غزة تشبه نخلات العراق

ديمة ياسين 2024-02-09

يمسك الميكرفون رجل ستيني يتحدث بإنجليزية مثقلة بلكنة عربية واضحة، تشبه ثقل عناقيد التمر في نخل بلادنا، بطيئة، بل متمهلة، مثل ثمار الزيتون وهي تكبر وتعمّر في أرض فلسطين "لا...

جيل الفراق

ديمة ياسين 2023-09-14

أنا من جيل احتفل بنهاية الحرب صيف عام 1988، في شوارع ضجت بالناس والأغاني والرقص لثلاثة أيام كاملة، بعد إعلان وقف إطلاق النار. مارسنا احتفالاً آشورياً قديماً برش الماء على...