طال أمد التوترات التي شهدتها محافظة شبوة لتُكلّل في 8 أغسطس/آب بمعارك قتالية عنيفة في عتق (عاصمة المحافظة)، ما أدى إلى حشد قوات الأمن التابعة للإصلاح ضد الوحدات المدعومة من الإمارات. بعد ثلاثة أيام من الكر والفر انتهت المعارك، في 10 أغسطس/آب، بسيطرة ألوية العمالقة وقوات دفاع شبوة، بدعم من طائرات مسيّرة إماراتية، على المدينة وفرار القادة الموالين للإصلاح من المحافظة.
تُشكل الأحداث الأخيرة في شبوة، وما ارتبط بها من تداعيات، التحدي الأكثر حساسية لمجلس القيادة الرئاسي منذ تشكيله قبل أربعة أشهر. ورغم أنها ليست دورة الصراع الأولى في هذه المحافظة الاستراتيجية -حيث حسمت معركة سابقة بين القوات الموالية للإصلاح والمجلس الانتقالي الجنوبي الوضع في أغسطس 2019 لصالح الأول -إلا أن المعارك الأخيرة تعد الأولى من نوعها منذ التغيير المركزي في هرم الحكومة المعترف بها دوليًا، الذي أدى إلى إزاحة الرئيس عبدربه منصور هادي عقب مشاورات الرياض في أبريل/ نيسان واستبداله بمجلس قيادة رئاسي يتم تحت مظلته تشارك السلطة.
الهزيمة في شبوة عززت شعور الضعف لدى حزب الإصلاح، وقلقه من أي تحركات ضده قد تزيد من تراجع نفوذه السياسي والعسكري. هذا الانقسام المتنامي بين حزب الإصلاح والأطراف الأخرى يهدد بإحداث صدع سياسي داخل الحكومة وداخل المجلس الرئاسي، قد يفضي إلى مزيد من التناحر الداخلي، وسيترتب عليه انعكاسات سلبية في قدرة الحكومة على الاحتفاظ بجبهة موحدة ضد جماعة الحوثيين المسلحة، وعلى بسط الاستقرار الأمني والاقتصادي في مناطق سيطرتها وفرص استنباط موقف موحد قبل الانخراط في أي محادثات سلام رسمية. لتجنب هذا السيناريو، يجب على جميع الأطراف في معسكر الحكومة قبول العمل بموجب الواقع السياسي الجديد للحكومة ونزع فتيل التوترات القائمة بشأن قضايا الخلاف الرئيسية بطريقة علنية وشفافة.
الإصلاح: من حزب حاكم إلى حزب مُطارد
تشكل معارك شبوة تتويجًا لمسار إخراج حزب الإصلاح من دائرة النفوذ في المحافظة التي احتكر السلطة فيها. بدأ هذا المسار بإزاحة المحافظ الموالي للإصلاح محمد بن عديو في ديسمبر/ كانون الأول 2021 وتعيين المحافظ الحالي عوض بن الوزير العولقي؛ كشرط إماراتي مسبق لبدء قوات العمالقة عملية استعادة السيطرة على ثلاث مديريات شمالية غربية كانت تحت يد الحوثيين. لكن الموالين للإصلاح ظلوا في مناصب تتمتع بنفوذ، لا سيما كقادة لقوات الأمن الخاصة وشرطة شبوة واللواء 21 ميكا. هذه الوحدات هي من شاركت في المعارك القتالية الأخيرة ضد قوات دفاع شبوة وألوية العمالقة، المدعومتين من دولة الإمارات (العضو في التحالف العربي)، لكن يتمتعان بولاءات محلية واضحة. توالي قوات دفاع شبوة المجلس الانتقالي بقيادة عيدروس الزُبيدي، عضو مجلس القيادة الرئاسي، بينما تتبع قوات العمالقة القائد العسكري السلفي أبو زرعة المحرمي، وهو أيضًا عضو في مجلس القيادة الرئاسي.
تصرّف الإصلاح ضمنيًا كحزب حاكم في اليمن بعد 2011؛ وتلك كانت الفكرة السائدة لدى الرأي العام، وتعززت منذ العام 2015، رغم انكار الحزب المستمر لذلك الواقع، في مقابل تضخيم هيمنته وشيطنته من قِبل خصومه. استطاع الإصلاح بقدرته السياسية والتنظيمية أن يفرض جزءًا كبيرًا من أجندته السياسية، وبشكل ملفت صوّر خصومه كخصوم للدولة، ويُعزى ذلك في المقام الأول إلى تحالفه مع الرئيس السابق عبدربه منصور هادي ونائب الرئيس علي محسن الأحمر. كما ضمن تعيين شبكة واسعة من المحسوبين عليه أو المتحالفين انتهازيًا معه في مستويات مختلفة ضمن المؤسسات العامة للدولة، وخصوصًا السيادية منها، فضلًا عن تعيينات على المستوى المحلي في مختلف المحافظات، وهو ما منحه دائرة واسعة من النفوذ.
والآن، يخشى الإصلاح من اقتلاع جذوره سياسيًا وعسكريًا في مناطق نفوذه المتبقية، حيث تحاذي شبوة الحدود الجنوبية لمأرب، أهم مركز له في اليمن. لكن قلق الإصلاح الأكبر من خسارته شبوة يتمثل في نفوذه بوادي وصحراء حضرموت والمنطقة العسكرية الأولى في سيئون، المصنفة موالية للحزب ولنائب الرئيس السابق علي محسن. النجاحات الأخيرة للمجلس الانتقالي الجنوبي والإمارات في شبوة قد يفتح شهية الطرفين على تغيير الوضع في وادي حضرموت، وهو مطلب أساسي طال أمده للإمارات وحلفائها المحليين. إن حدث ذلك فسيجد الإصلاح نفسه مطوقًا في مأرب، من خصومه المدعومين إماراتيًا في الشرق والجنوب، والحوثيين في الشمال والغرب، وهو ما يمثل تهديدًا وجوديًا بالنسبة له.
تدارك الخسائر
السؤال الآن هو، ما الذي يمكن أن يفعله الإصلاح لتعويض خسارته في شبوة ومنع خصومه في تحقيق مزيد من المكاسب على حسابه، وتجنب حدوث السيناريو المذكور آنفًا؟ أقل ما يمكن أن يقال هو إن المسار السياسي الجديد في المشهد باليمن يبدو غير مواتٍ للإصلاح.
لكن ما تزال هناك عوامل عديدة لصالحه. فالإصلاح يتمتع بشعبية نسبية في عموم البلاد، وتماسك تنظيمي قوي، ويُعد طرفًا محوريًا في المعسكر المناهض للحوثيين، حيث لا يمكن أن تُحسم المعركة ضد الجماعة دونه. كما يراهن على شبكات مواليه ضمن مؤسسات الدولة على المستوى الوطني ومستوى المحافظات والمستوى المحلي، والتي تمنحه نفوذًا ووسيلة للتصعيد ضد خصومه. يتمتع الحزب منذ إنشائه عام 1990 بعلاقة خاصة مع السعودية، تعمقت مع بداية الحرب ضد الحوثيين رغم استياء الرياض منه بين الحين والآخر. كما يعتمد الحزب على “جيش إلكتروني” وأذرع إعلامية لا يستهان بها، يمنية وغير يمنية، سواء داخل اليمن وخارجه، وهو ما يعزز نفوذه في ساحة المعارك الإعلامية.
يحاول الإصلاح تدارك نتائج المعركة في شبوة باستخدام الأدوات المتاحة، عبر ممارسة درجة أكبر من الضغط السياسي على مجلس القيادة الرئاسي ورئيسه رشاد العليمي. ورغم أن الهدف المعلن لحملة الضغط غير المسبوقة هو تغيير محافظ شبوة عوض بن الوزير العولقي والتنديد رسميًا بالعمليات العسكرية ضد القوات الموالية له -باعتبارها استهداف للدولة اليمنية من قِبل ميلشيات غير حكومية من وجهة نظره -يمتلك خصوم الإصلاح أوراق ضغط في أيديهم، وقد يغريهم ذلك للتصعيد ضده سياسيًا وعسكريًا في مأرب ووادي حضرموت وتعز. إضافة لذلك، لا تصب القرارات الأخيرة الصادرة عن رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، والتي طالت أهم المؤسسات الحكومية، في صالح الإصلاح، وهو ما يُظهر فعلًا خسارة الحزب نفوذه على أعلى مستويات الدولة اليمنية لصالح خصومه مثل المجلس الانتقالي الجنوبي.
اعتبارات التحالف
إمكانية انتزاع الإصلاح أي مكاسب من استراتيجية ممارسة أقصى درجة من الضغط السياسي ستتطلب تدخلًا من السعودية والإمارات في الصراع السياسي الداخلي باليمن وترتيب ضمانات للإصلاح للمُضي قُدمًا. هذا هو المسار الوحيد المتاح للخروج من هذه المعضلة، سيتيح مجالًا لتراجع الإصلاح عن موقفه التصعيدي وحفظ ماء وجهه، لكن حتى الآن، لا يبدو واضحًا الى أي مدى قد تفلح هذه الاستراتيجية في التأثير على الرياض وأبوظبي.
لطالما اعتبرت الإمارات حزب الإصلاح كفرع لجماعة الإخوان المسلمين، التي سعت إلى دحرها في الشرق الأوسط، لذا من غير المرجح أن تقدم الإمارات تنازلات من جانب واحد حول أي مسألة مع وجود ظل الجماعة. في الوقت نفسه، لن تقبل السعودية بانهيار مجلس القيادة الرئاسي -الذي صممته ورعت تشكيله كليًا -خاصة أنه من غير المؤكد ما إذا كان الجيل الجديد من حكام السعودية مستعدين للذهاب إلى أقصى مدى مع حزب الإصلاح كالجيل القديم.
حتى الآن، لم تعلن السعودية موقفًا واضحًا بشأن الأزمة الأخيرة. يمكن تفسير هذا الصمت بشيئين: أنها موافقة على ما حدث وتريد منح التطورات الوقت لكي تنتهي ومن ثم تتدخل للتخفيف من آثار ما جرى دون تغيير نتائجه، وهو أقرب تفسير يُعقل، أو أن أحداث شبوة وما تلاها من تداعيات سياسية كانت مفاجئة للسعودية وأربكت خططها، ولم تتمكن بعد من استنباط خطة وموقف واضحين للتعامل مع عواقب ما جرى.
بالمجمل، سيكون موقف السعودية نهاية المطاف مركزيًا للغاية بالنسبة لكل الأطراف؛ هي تتمتع بالثقل الكافي لتعديل النتائج والوصول إلى تفاهمات مع مختلف الأطراف الفاعلة، حتى حليفتها الإمارات. لذا يعمل الإصلاح جاهدًا خلف الستار على ضمان أن تتبنى السعودية موقفًا قريبًا منه، لكن جهوده قد تتقوض نتيجة الواقع المتمثل في أن خصومته هذه المرة ليست مع المجلس الانتقالي الجنوبي فقط، كما كان الحال في 2019، بل كذلك مع رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي الذي يُعد من أهم حلفاء المملكة السياسيين والأمنيين في اليمن، وهو ما لعب دورًا رئيسيًا في تصعيده إلى هذا المنصب. بالتالي، تؤخذ آراءه على محمل الجد من قِبل الرياض التي يهمها نجاحه مستقبلًا؛ لذا من المستبعد أن تتدخل السعودية للتأثير على مجريات الأحداث على حساب العليمي ولصالح الإصلاح.
من جهة أخرى، تبدو الإمارات الرابح الكبير في هذه المرحلة. حلفاؤها سبق أن خسروا المعركة الأولى في المحافظة، وهو ما شكل ضربة قاصمة لمساعيها في ترسيخ نفوذها والامتداد جنوب اليمن، وضرب نفوذ الإصلاح. بينما ساهم الانتصار في المعركة الثانية في تقوية نفوذ الجماعات المدعومة إماراتيًا، وجاء كتأكيد على ارتقاء مستوى النفوذ الإماراتي في العهد السياسي الجديد الذي تلى إدخال الأطراف المتحالفين معها في مجلس القيادة الرئاسي. يبقى من غير الواضح ما إذا كانت الإمارات ستدفع باتجاه مزيد من التصعيد ضد مناطق النفوذ الأخرى المتبقية للإصلاح في الجنوب، خصوصًا في وادي حضرموت، أم ستميل إلى تهدئة التوترات التي تهدد بإحداث صدع عميق داخل المجلس الرئاسي، وهو ما سيستفيد منه الحوثيون بالتأكيد.
مصالحة أم تأجيج الصراع؟
يبدو الإصلاح في وضع لا يُحسد عليه، حيث خسر أهم الحلفاء السياسيين وراكم الخصوم من حوله، الذين يتربصون به بخليط من التشفي على سقوطه والمزاج الثأري الحاد. في ظل وضع كهذا يتسم بالعداء، قد يصبح الإصلاح عاملًا خطرًا يُمكن أن يلحق الضرر بالوضع السياسي والعسكري الهش أساسًا في اليمن.
يجب ألّا يُدفع الإصلاح للزاوية، وتجري نقاشات سياسية صريحة لنزع فتيل التوترات المحيطة بقضايا الخلاف الجوهرية بينه والأطراف الأخرى. ينبغي على المجلس الرئاسي تفهم مخاوف الحزب وأخذها على محمل الجد، لكن قبل ذلك، على الإصلاح أن يدرك أن الزمن السياسي تغيّر فعليًا، وعليه بدء التعود والتصالح مع فكرة الشراكة مع حلفائه وخصومه على حد سواء.