تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
في تموز/ يوليو 2020 أجازت الحكومة الانتقالية في السودان قانوناً يُجرّم ختان الإناث، وجاء في نص المادة 141 المضافة إلى القانون الجنائي السوداني "يُعد مرتكِباً جريمةً كلُّ من يقوم بإزالة أو تشويه العضو التناسلي للأنثى ما يؤدي إلى ذهاب وظيفته كلياً أو جزئياً، سواء كان داخل أي مستشفى أو مركز صحي أو مستوصف أو عيادة أو غيرها من الأماكن. يعاقَب من يرتكب الجريمة بالسجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبالغرامة".
هذا المكتسب الذي وصلت إليه النساء بعد سنوات طويلة من العمل المتصل على المستوى الرسمي وعلى مستوى المجتمع المدني، جعل المجموعات المناهضة للختان تتنفس الصعداء، ليس لأنّ المعركة انتهت بل لأنّ الدولة وضعت القضية الشائكة في مسارها الذي ينبغي أن تكون فيه. وبالنسبة للمؤسسات الرسمية أو المجتمع المدني فإنّ مسألة تجريم الختان كانت هدفاً رئيساً ضمن خطط واستراتيجيات متعددة. وعلى الرغم من أنّ عامل التوعية المجتمعية في مثل هذه القضايا ربما يكون أكثر فاعلية من القوانين وأكثر الأدوات تحقيقاً للمكاسب المرجوة، لكنّ وجود قانون يستهدف بالعقاب الكوادر الصحية والمساعِدة التي تقوم بهذا الفعل يُسْهم في تضييق الخناق على الممارسة، ويُظهر انحياز الدولة الواضح لمسألة الحقوق.
وقد قالت (1) مسؤولة في "وحدة حماية الطفل" - وهي وحدة شرطية معنية ببلاغات الانتهاكات الواقعة على الأطفال - إنّ الوحدة سجلت حتى الآن بلاغين فقط، والشاكي فيهما الأب. وفي هذا الصدد، ترجح بعض مناهِضات الختان المهتمات بالمسارات القانونية أن تكون الدوافع عادة خلافات مع الأم، فيتخذ الأب القانون أداة لتصفية خلافاته مع زوجته.
معركة التشريع قديمة متجددة
بحسب ورقة قُدمت في ورشةٍ لمجلس الطفولة واليونيسف ومنظمات المجتمع المدني مطلع أيار/ مايو 2022 فقد بدأت محاولات وضع التشريعات لمحاربة ختان الإناث منذ العام 1924. واستمرت المحاولات حتى وصل السودان لنظام الحكم اللامركزي الذي أقره دستور 2005 بعد اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين حكومة السودان و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" الذي يخوّل للولايات سلطة إصدار وتشريع دساتيرها وكثير من القوانين على المستوى الولائي. شجع ذلك الكثير من الولايات على سنِّ تشريعات تحت مسميات مختلفة لمنع تشويه الأعضاء التناسلية، مما سينعكس إيجاباً في دفع المستوى الوطني العام لمراجعة وإصلاح القوانين والاستفادة من التشريعات الولائية لإصدار تشريع تحت مظلة بعض مواد القانون الجنائي السوداني التي تجرم الأذى الجسيم والجراح العمد والخطأ، وهي محاولة لتكييف هذه المواد لمحاربة الختان.
أسهمت النزوحات السكانية التي شهدها السودان في فترات متفاوتة بسبب موجات الجفاف والتصحر أو الحروب، في انتشار الختان من منطقة إلى أخرى. وبشكل عام، يمكن القول أنّ ممارسة ختان الإناث تنتشر بشكل أكبر بين القبائل العربية وتقل تدريجياً بين القبائل الأفريقية دون أن يعني ذلك انعدامها تماماً وسط تلك المكونات الأخيرة.
صحيح أن الدولة تبنت استراتيجية لمحاربة الختان منذ 2008 لكنها لم تخطُ بشكل جاد لسنّ تشريعات خاصة بالممارسة، واكتفت ببسط يد المؤسسات الرسمية وجمعيات المجتمع المدني لنشر التوعية المجتمعية دون اتخاذ موقف قانوني. وقد حاولت حكومة البشير، في وقت سابق، التلاعبَ على هذه المسألة بتجريم جزئي لعملية الختان لكنّ ضغط المجتمع المدني وقتذاك أفشل الخطة.
"القانون ليس هو الهدف النهائي". عبارةٌ باتت تتردد كثيراً بين مجموعات العمل المناهضة لختان الإناث، إذ يعتقد الجميع أنّ المراحل التي تلي القانون تحتاج لعمل وجهد متصل حتى تُرى الثمار على الأرض. وأوصت ورقة خاصة (2) بالوضع بعد إجازة القانون، بالمتابعة اللصيقة بحالات التبليغ عن الختان، وتقديم الاستئنافات أو الشكاوى ضد سوء التطبيق أو الخطأ في تفسير القانون، وذلك لضمان نجاح التجربة، وكذلك تعديل المادة 34 من قانون الإجراءات الجنائية لتصبح جريمة تشويه الأعضاء التناسلية جريمة حق عام ما يسمح لوكيل النيابة والشرطة أو أي شخص فتح الدعوى الجنائية بصددها. وعلاوة على ذلك أوصت الورقة التي استُعرضت خلال اجتماع لمجلس الطفولة بأهمية وجود آليات أكثر للحماية وزيادة التحسس.
نسب متفاوتة
أظهر آخر مسح أعدّته وزارة الصحة الاتحادية عام 2018 انخفاضاً ملحوظاً في ختان الإناث حيث بلغ معدل تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية 27.18 في المئة بين الفتيات (ما دون سن ال 14). وسجلت ولاية البحر الأحمر شرق السودان أعلى معدل انتشار بنسبة 61.52 في المئة بينما سجلت ولاية غرب دارفور انتشاراً أقل بنسبة 8.15 في المئة، بينما لا تغيير يُذكر في ممارسة هذه العادة للفئة العمرية (15 - 49) سنة.
وكانت نسبة الختان بحسب إحصاءات 2014 بين الفتيات (ما دون سن ال 14) 31.5 في المئة، فيما بلغت النسبة عام 2006 للفئة العمرية ذاتها 41.6 في المئة. أما النسبة الكلية للختان بين نساء السودان فبلغت نحو 87 في المئة في إحصائية العام 2014 واحتلت ولاية شمال كردفان أعلى مرتبة في الممارسة إذ بلغت نسبة الانتشار نحو 98 في المئة، وبلغت النسبة في ولاية نهر النيل 96.4 في المئة، فيما سجلت ولاية وسط دارفور أقل نسبة انتشارٍ حيث بلغت 45.4 في المئة. وتتفاوت نسب انتشار ممارسة الختان بين منطقة وأخرى بحسب معطيات تتعلق بتشكيلة العرقيات والإثنيات المتعددة في السودان وخلفياتها وثوابتها الثقافية حتى وإن اتخذت غطاءً دينياً. وليس من تفسير لهذا التفاوت إلا باعتبار العامل الثقافي الذي يشكل الدافع الرئيسي لممارسة الختان بحسب أميرة أزهري مسؤولة الحماية بالمجلس القومي للطفولة (3). وتقول السيدة أزهري أنّ مسوحات عام 2013 أظهرت أنّ بعض العرقيات بمنطقة "سنجة" في ولاية "سنار" - التي تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد - لا تمارس عادة الختان، وهي مجموعات محدودة ذات أصول أفريقية. كما تشير إلى أنّ هذه المجموعات يغلب عليها التدين. ولكنّ ذلك ليس ذا دلالة لأنّ التدين ذاته يُمكن أن يكون سبباً في انتشار هذه الممارسة لدى مكونات أخرى.
أقر دستور 2005 للولايات سلطتها في إصدار وتشريع دساتيرها. سنّت عدة ولايات تشريعات تحت مسميات مختلفة لمنع تشويه الأعضاء التناسلية، مما انعكس إيجاباً في دفع المستوى الوطني العام لمراجعة وإصلاح القوانين وإصدار تشريع تحت مظلة بعض مواد القانون الجنائي السوداني التي تجرم الأذى الجسيم والجراح العمد والخطأ، وهي محاولة لتكييف هذه المواد لمحاربة الختان.
صحيحٌ أنّ الدولة تبنت استراتيجية لمحاربة الختان منذ 2008 لكنّها لم تخطُ بشكل جاد لسنّ تشريعات خاصة بالممارسة، واكتفت ببسط يد المؤسسات الرسمية وجمعيات المجتمع المدني لنشر التوعية المجتمعية دون اتخاذ موقف قانوني. وقد حاولت حكومة البشير في وقت سابق التلاعب على هذه المسألة بتجريمٍ جزئيٍ لعملية الختان لكنّ ضغط المجتمع المدني وقتذاك أفشل الخطة.
وقد أسهمت النزوحات السكانية التي شهدها السودان في فترات متفاوتة بسبب موجات الجفاف والتصحر أو الحروب، في انتشار الختان من منطقة إلى أخرى. وبشكل عام، يُمكن القول أنّ ممارسة ختان الإناث تنتشر بشكل أكبر بين القبائل العربية وتقل تدريجياً بين القبائل الأفريقية دون أن يعني ذلك انعدامها تماماً وسط تلك المكونات الأخيرة. وعادة تُجرى الدراسات والمسوحات لختان الإناث وزواج الطفلات معاً، فيما يبدو أنّها محاولة لإيجاد رابط بين القضيتين.
أظهر مسح وزارة الصحة للعام 2018 انتكاسة كبيرة في المعركة الخاصة بتزويج الطفلات، حيث بلغ 60.19 في المئة على مستوى مجمل البلاد فيما كانت نسبته 38 في المئة في إحصائية 2014. ووفقاً لأميرة أزهري، فإنّ النسبة العالية لزواج الطفلات وتراجع نتائج المعركة التي تخص هذه القضية، لم يخضع بعد للدراسة والتحليل لمعرفة الأسباب، لكن يُرجح أن تكون العوامل الاقتصادية أحد أهم الأسباب. كما أنّه لا قانون يُجرِّم ولا حملات توعية منتظمة حول زواج الطفلات مثلما حدث مع الختان. وربما كان لتبني الدولة لاستراتيجية محاربة ختان الإناث أثرٌ واضحٌ في خفض الممارسة بينما لم تتبنَّ الدولة أي خطة أو استراتيجية لخفض أو محاربة زواج الطفلات.
المعركة بدأت للتو
مع اعتماد قانون تجريم الختان، تتطلع السلطات المختصة ومنظمات المجتمع المدني للوصول إلى سودان خالٍ من ختان الإناث للطفلات في الفئة العمرية 0 - 14 سنة بحلول عام 2031. وتخطط السلطات بحسب "خطة العمل القومية لإنهاء بتر/ تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى 2021 – 2031" إلى خفض انتشاره بنحو 15 في المئة بين النساء اللاتي سبق لهنّ الزواج في الفئة العمرية 15 - 49 سنة، بحلول عام 2026.
تتفاوت نسب انتشار ممارسة الختان بين منطقة وأخرى بحسب العرقيات والإثنيات المتعددة في السودان وموروثاتها الثقافية حتى وإن اتخذت غطاءً دينياً. وهناك صلة بين الختان وتزويج الطفلات، وقد أظهر مسح وزارة الصحة للعام 2018 انتكاسة كبيرة في المعركة الخاصة بتزويج الطفلات، حيث بلغ 60.19 في المئة على مستوى مجمل البلاد فيما كانت نسبته 38 في المئة في إحصائية 2014.
يقاتل المناهضات والمناهضون للختان، بمن فيهم السلطات المختصة، على جبهتين فيما يتعلق بختان الإناث، إذ يوجد ما يُعرف شعبياً ب "العَدَل" أي إعادة الختان بعد الإنجاب. إعادة الختان ("العَدَل") غير منتشرة بمقدار انتشار الختان نفسه، ولكنّها بحسب دراسة لليونيسف تُجرى لواحدة من كل أربع نساء سبق لهنّ الإنجاب. وهي عملية تتكرر بعد كل إنجاب وتقوم على إعادة خياطة الأجزاء التناسلية. ويمكن للعملية أن تمارس لأسباب تجميلية لجعل الفرج ضيقاً حتى بدون إنجاب، كما أنّها ملجأ لمن فقدن عذريتهنّ خارج إطار الزواج.
وتشير الدراسة (4) التي أجريت عام 2016 إلى أنّ إعادة الختان تنتشر على نطاق واسع في كسلا، شرق السودان، بنسبة 62.5 في المئة بينما تقل تماماً في جنوب دارفور حيث تصل النسبة إلى 16.9 في المئة والاعتبارات التي تفسر الاختلاف هنا ليست بعيدةً عن تلك المتعلقة بالختان.
إنعام محمد الطيب تقود مع أخريات منظمة "إعلاميون من أجل الأطفال"، وهي واحدة من أذرع مدنية داعمة للمؤسسات الرسمية والمنظمات العاملة في قضايا الطفولة. والسيدة صحافية تخصصت في التحقيقات وأظهرت من خلال نشاطها الصحافي اهتماماً كبيراً بقضايا الطفولة منذ العام 2002، ما أدخلها في خضم المعارك في قضايا مثل ختان الإناث، زواج الطفلات وغيرها من القضايا المرتبطة باعتبارات دينية وثقافية وعرفية.
تقول إنعام (5) أنّ التحدي الكبير الآن بعد إجازة القانون هو تنزيل المادة 141 في الواقع. فبعد صدور القانون دوّنت مراصدهم حدوث نحو 16 حالة ختان في وسط السودان وفي أطراف الخرطوم، وأنّ بعض الحالات تمت على يد واحدةٍ من القابلات اللاتي تلقينَ دورات تدريبية مكثفة في التوعية بمخاطر ختان الإناث! وبلا شك، تؤكد هذه الحادثة أهمية وجود قانون رادع يستهدف الكوادر الطبية والصحية، لكنّ وجود القانون نفسه ربما يجعل القائمات أو القائمون بعملية الختان أكثر حذراً من قبل ويدفعهم الى إجراء هذه العمليات بسرية وتكتم تامَّيْن، مما يلقي بمزيد من الأعباء على كاهل الحركة المناهضة للختان لرصدها وادانتها.
وبعد إجازة القانون، تعاظم نشاط "مجلس الطفولة القومي" وشركائه في المؤسسات الحكومية الأخرى، والمجموعات المدنية والمنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة للطفولة ("اليونيسف"). ويبدو أنّ المعركة بدأت الآن، حيث تتضح بعد إجازة القانون الحاجة الشديدة للتدريب عليه، وقبل ذلك للتعريف به.
في اجتماع موسع للفاعلين في محاربة ختان الإناث في أيار/ مايو 2022، سردت إحدى المناهضات تجربتها مع فكرة التبليغ لدى الشرطة، حيث ذكرت أنّها حينما وصلت لقسم الشرطة لتبليغهم بحالة شروعٍ في الختان، سخر منها المسؤول الشرطي هناك وتساءل باستغراب "ما المشكلة في أن تُخْتن"؟ وعلى الرغم من صدمة هذه المناهِضة من رد فعل من تقع على عاتقه مسؤولية تطبيق القانون، فقد اتضح أنّ هذا الشرطي ليس لديه علمٌ من الأساس بوجود قانون يُجَرِم المسألة، فهو هنا تعامل وفقاً للعرف والثقافة. أظهرت الحادثة الحاجة الملحة لتوسيع دائرة التوعية والتدريب لتشمل القائمين المباشرين على أمر تطبيق القانون أو إنزاله في الواقع. والمقصود هنا المحققون في أقسام الشرطة وهم الذين يباشرون إجراءات تدوين البلاغات، لأنّ التدريب النوعي المنتظم منذ ثلاث سنوات مستهدفاً المنظومة العدلية، شمل حتى الآن العشرات من القضاة، ووكلاء النيابات والمستشارين، وفقاً لتقرير مسؤولة في معهد التدريب القضائي استعرضته داخل الاجتماع.
التدريب..الهم الشاغل
انخرطت المؤسسات الرسمية مع أذرعها في منظمات المجتمع المدني وداعميها في المنظمات الأممية والدولية العاملة في مجالات قضايا الطفولة والمرأة في اجتماعات دورية منذ إجازة القانون وإضافة المادة 141، حيث تضع نصب أعينها مسألة التدريب. وتقول مسؤولة في منظمة الأمم المتحدة للطفولة ("اليونيسف") إنّ الخطة مع الشركاء المحليين هي التدريب على محورين: رسمي ومجتمعي، حيث بدأ فعلياً في ثلاث ولايات وهم الآن بصدد انطلاق التدريب في عشر ولايات كمرحلة ثانية. وتضيف مسؤولة المنظمة الأممية (6) أنّه تقرر إضافة المحققين في الشرطة كفئة يشملها التدريب. كما أنّ الخطط تتسع لتدريب الكوادر الصحية ذات الصلة وذلك بتنسيقٍ بين وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية.
وأبعد من ذلك، تقدمت مجموعة المنظمات المدنية النشطة في هذا المجال بمبادرة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة تهدف لتضمين حقوق الطفل في المناهج التعليمية، وتمت الموافقة عليها بشكل مبدئي.
مع اعتماد قانون تجريم الختان، الخطة هي الوصول إلى سودان خالٍ من ختان الإناث للطفلات في الفئة العمرية 0 - 14 سنة بحلول عام 2031. وتهدف "خطة العمل القومية لإنهاء بتر/ تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى 2021 – 2031" إلى خفض انتشاره بنحو 15 في المئة بين النساء اللاتي سبق لهنّ الزواج في الفئة العمرية 15 - 49 سنة، بحلول عام 2026.
ويبدو في الواقع أنّ حملات التوعية التي انتظمت طوال السنوات الماضية أتت بنتائج واضحة ووجدت دعماً مجتمعياً على الرغم من الحرب التي شنتها عليها التيارات السلفية من داخل الحكومة وقتذاك. وبات معروفاً اجتماعياً أنّ ختان الإناث لا بد أن يندثر خاصة في المدن التي يرتفع فيها حجم النشاط التوعوي بعكس الأرياف البعيدة، وحملة "سليمة" التي أطلقها مجلس الطفولة مع "اليونيسف" بالتزامن مع تبني الدولة لاستراتيجية مناهضة الختان، دخلت كل البيوت عبر الإعلام بمختلف أنماطه وكان أثرها ظاهراً حيث أنّ الانخفاض المتتالي للممارسة في 2006 – 2014 - 2018 حدث قبل إجازة القانون، وهذا ما يؤكد فاعلية حملات التوعية المباشرة في مثل هذه القضايا.
ما الختان وما دوافعه
يُعرّف ختان الإناث بأنّه عملية إزالة جزئية أو كلية لأعضاء تناسلية خارجية للأنثى، وتُعرِفه منظمة الصحة العالمية بأنّه أي إجراءٍ يجرح أعضاء الأنثى التناسلية لأسباب غير طبية. وقضية ختان الإناث في السودان شائكة ومعقدة لتداخلها ما بين الاجتماعي والثقافي والديني، وليست بعيدة كذلك عن معتركات السياسة التي اختلطت أدواتها بالمسار الحقوقي. وخلال السنوات الأخيرة التي بدأ فيها صوت الحقوق يعلو في كل العالم، كانت الحركة المناهضة لختان الإناث وأصحاب الصوت العالي في هذه المعركة من الذين ينتمون للمعسكر المعارض لحكومة الإسلاميين، والقريبين من الأفكار الليبرالية. لذا لم تكن القضية خارج مرمى نيران السياسة بأي حال من الأحوال، وكثيراً ما لجأت التيارات المؤيدة لختان الإناث داخل منظومة الحكم الإسلامية خلال الثلاثين عاماً الماضية لرمي المناهضين بتهم العمالة وتنفيذ الأجندات الخارجية، بل بالسعي لتفكيك المجتمعات المحافظة، باعتبار أنّ النظرة الاجتماعية لختان الإناث تتعلق بـ "العفة" وتقييد السلوك الجنسي للمرأة الذي يقي المجتمعات التفكك بحسب منظورهم.
ويلجأ السودانيون لنوعين من الختان: الأكثر "جذرية" وهو ما يُطلق عليه "الختان الفرعوني" حيث تتم عملية الاستئصال والخياطة لكل الأعضاء التناسلية، أما النوع الأقل حدّة فيٌطلق عليه "ختان السُنّة"، وهي محاولة لمنح العادة غطاءً دينياً. وتتم عملية الختان بواسطة قابلاتٍ مدرَّبات ومعترف بهنّ، وفي بعض المناطق بواسطة "الخاتنات" التقليديات.
تمارس غالبية المجتمع الختانَ بدوافع ثقافية متوارثة ولسان حالها يقول "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، وهناك من يتبع هذه العادة بدواعي الطهارة والنظافة، ومنه جاء التوصيف الشعبي بأنّه "طهور". وتذخر الثقافة الشعبية بصورة تحقيرية للمرأة غير المختونة، حيث يُوصَف أحدهم على سبيل الإساءة والتحقير بـ "ابن الغلفاء" أو تُسبّ إحداهنّ بـ "بنت الغلفاء، والغلفاء تعني المرأة غير المختونة. ويلعب عامل "الأم المختونة" دوراً مؤثراً في انتقال الممارسة من جيل إلى جيل، وبحسب دراسة "اليونيسف" سالفة الذكر (7)، فإنّ احتمال تعرض الفتاة للختان أعلى 24 مرة إذا كانت أمها مختونةً مما إذا كانت الأم غير مختونة.
بات معروفاً اجتماعياً أنّ ختان الإناث سيندثر خاصة في المدن التي يرتفع فيها حجم النشاط التوعوي بعكس الأرياف البعيدة، وحملة "سليمة" التي أطلقها مجلس الطفولة مع "اليونيسف" بالتزامن مع تبني الدولة لاستراتيجية مناهضة الختان، دخلت كل البيوت عبر الإعلام وكان أثرها ظاهر حيث أنّ الانخفاض المتتالي للممارسة في 2006 - 2014 - 2018 حدث قبل إجازة القانون.
كانت عملية الختان في السابق تُجرى وسط أجواء احتفالية وولائم توزع لها رقاع الدعوات وتخضّب أيدي وأقدام الفتيات بنقوش الحناء، وتُقدم لهنّ الملابس الجديدة والحلي الذهبية... ربما في محاولة لرشوتهنّ لتحمل آلام العملية شديدة القسوة والتي لا تزال ذاكرة كل مختونةٍ محتفظة بها. تدريجياً، ومع علو الصوت المناهض لها، باتت هذه العادة تمارس دون صخب، حتى وصلت ممارستها اليوم إلى اتباع درجة من السرية. وعلى الرغم من أنّ معركة المجتمع المدني مستمرة ومعها لا تزال ممارسة الختان موجودة، إلا أنّ هناك بعض المناطق التي أعلنت التزامها التام بالتخلي عن ختان الإناث مثل جزيرة توتي بالخرطوم وقرية النصر الواقعة في أطراف جنوب الخرطوم... وقد تمّ التوصل لهذه النتائج بفضل الجهود الشعبية والحوار المجتمعي المباشر.
قضايا النساء قصراً على النساء؟
ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ القضايا الحقوقية وعلى رأسها قضايا النساء لا تجد أي دعم أو مساندة من الأحزاب السياسية، سواء كانت تقليدية أو حديثة، ولم يُرصد لأي حزب أي موقف أو سياسة تجاه القضايا الحيوية التي تهم المجتمع المدني لا في السابق ولا في الراهن، وعادة ما تدخل الأحزاب السياسية معتركات قضايا الحقوق لتحقيق مكاسب سياسية لحظية تنتهي بانتهاء الجدل حول قضية ما. بل من النادر جداً أن نجد في مثل هذه الميادين النسوية رجالاً مدافعين. إسماعيل المرضي، ناشط مهتم بقضايا الأطفال ومناهض لختان الإناث، روى (8) تجربته مع مجموعة مع الشباب قادوا حوارات مجتمعية في بعض المناطق الطرفيّة.
يقول إسماعيل أنّ تقبّل المجتمع لرجل ينشط في قضايا نسوية فيه صعوبة شديدة في المراحل الأولى، وبالذات في قضية شائكة مثل قضية الختان ترتبط بتقييد السلوك الجنسي للنساء. لكنّه يشعر بالرضا بما يقوم به بسبب ما لمسه من نتائج واضحة بحسب قوله. إسماعيل يستند في نشر التوعية على الحوار المجتمعي الذي يجعله قادراً على تقييم المداخل لكل مجتمع. وذلك لأنّ الدوافع تختلف من مجتمعٍ لآخر وإن كانت جميعها تهدف لتقييد السلوك الجنسي للمرأة، وفقاً لصورة موجودة في تصورات المجتمعات عن العفة والشرف. إلا أنّ حدة الدوافع نفسها مختلفة كما درجة التمسك بها أيضاً، ويبدو بوضوح أنّ الحركة المناهضة لختان الإناث في السودان ركّزت على المخاطر الصحية لهذه العادة للخروج من مأزق "حرية الجسد" الذي تتطلع إلى إرساء مفاهيمها بعض المنظمات العاملة في هذا الصدد، باعتبار أنّ لكل فتاة الحق في التصرف بجسدها وأنّ جسدها يخصها هي. وقد أشارت مسؤولة من "اليونيسف" إلى هذا الأمر في اجتماع (9) ضم عدداً من الفاعلين من منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية، لأنّ المفاهيم المشابهة لهذه يصعب طرحها بالطبع في مجتمعات شديدة المحافظة، في حين أنّ العمل على إسقاط الصبغة الدينية عن عادة الختان مثلاً ودحض قناعات المجتمع بهذا الصدد يعتبر أكثر سهولة وسلاسة.
وعلى أية حال، ستُظهر المعركة في السودان بعد إجازة القانون جديّةَ مؤسسات الدولة وخاصة المنظومة العدلية، كما ستُظهر مدى امتلاك منظمات المجتمع المدني النشطة في محاربة ختان الإناث للنفس الطويل الذي لا غنى عنه.
محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
1- مقابلة هاتفية اجرتها الباحثة في نيسان/إبريل 2022
2- قُدِّمت الورقة الخاصة خلال اجتماع لمجلس الطفولة في أيار/مايو 2022
3- مقابلة هاتفية أجرتها الباحثة مع الاستاذة أزهري في حزيران/ يونيو 2022
4- "ختان الإناث وزواج الأطفال في السودان، هل هناك أي تقدم يُذكر؟؟؟ تحليل مُعمّق باستخدام المسوحات العنقودية متعددة المؤشرات والمسوحات الأسرية الصحية للسودان"
https://uni.cf/3aULaJ9
5- مقابلة أجرتها الباحثة في أيار/ مايو 2022
6- مقابلة هاتفية أجرتها الباحثة في نيسان/ أبريل 2022
7- "ختان الإناث وزواج الأطفال في السودان" المصدر السابق نفسه .
8- مقابلة أجرتها الباحثة في نيسان/أبريل 2022.
9- حضرته الباحثة.