تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
في شباط/ فبراير 2021، كان اليمنيون يتداولون قصة العَنود وصورها: فتاةٌ في التاسعة عشرة من عمرها، تضع كفها الأيمن على فمها مخفية شفتيها المشوهتين، بينما تستريح يدها اليسرى في حضنها، كاشفةً عن "عناقيد" من الحروق. كانت الصبية تحكي قصتها بفم وشفاه لم يعودا كالسابق، تسرد كيف شوهها طليقها بصبّ الأسيد الحارق على وجهها – بينما يضحك - فأذاب جزءاً كبيراً من وجهها وأدى إلى خسارتها عينها اليسرى. فعل ذلك، لأنها تطلّقت منه عندما كانت في السادسة عشرة. ولماذا تطلقت منه؟ لأنّه تزوجها وهي في الثانية عشرة وقام باستعبادها كما وصفتْ، ضربها واعتدى عليها بينما كان يقيدها بالسلاسل. هل نجت العنود؟ لا شيء يمكنه مداواة ما مرت به، وصحيحٌ أنّ قصتها وصلت الكثيرين ولاقت من التعاطف ما لم تلقه آلاف غيرها يُزوَّجن ويُقتَلن في صمت، لكن في النهاية، لا يتعدّى ما حازت عليه أكثر من صورتها تجوب العوالم الافتراضية كرمزٍ للألم...
تزويج الطفلات يتعاظم!
وفقاً لليونيسف (1)، فإنّ أكثر من ثلثي الفتيات في اليمن يتزوجن الآن في سنّ ما قبل الثامنة عشر، مقارنةً بخمسين في المئة في مرحلة ما قبل الحرب. وحين نتحدث عن سنّ ما قبل الثامنة عشر، فنحن نشير إلى سنوات الثامنة والتاسعة والعاشرة! يُزوَّجن أو "يُبعن" لرجال في الثلاثينات والأربعينات يتوقعون من طفلاتٍ في الثامنة الاستجابة لـ "حقوقهم" الجنسية وأن يكنّ أمهات وعاملات في المنزل، أو يبدأون في تعنيفهنّ إن لم يستطعن مواكبة المتطلبات. يردّ تقرير اليونيسف كما تقارير أخرى، مبررات هذه التصرف إلى الحالة الاقتصادية التي تستدعي من الأب أو وليّ الأمر تزويج الطفلة مقابل المهر الذي سيسدّ – مؤقتاً - احتياجات العائلة، أو تزويجها بغرض الحماية من "الانحراف"، أو طمعاً في حياة أفضل لها.. هذه المبررات متداوَلة على الدوام، لكنّها لا تخبرنا كلّ شيءٍ عن حقيقة الأمر. فقبل "العَنود"، اشتهرت قصة الطفلة "هند" ذات الاثني عشر عاماً، والتي حاول أبوها "السجين" تزويجها لسجين محكوم عليه بالإعدام، كما فعل مع أختها التي تكبرها والتي زوّجها لسجين آخر. هند كانت محظوظة بأنّ أمها تعلمت الدرس من ابنتها الأولى، وكافحت لاستصدار حكم يلغي عقد القران الذي عقده والدها الذي يعيش في السجن منذ كانت في الثالثة!
لم تكن "العنود" و"هند" أولُ طفلاتٍ يَصدمن الرأي العام ويقمن بتعريته أمام نفسه. ففي نيسان/ أبريل 2008، سحّت يمنيات كثُر الدموع بينما يتطلعنَ إلى صورة طفلة في العاشرة، تبتسم بلطفٍ وحياءٍ للكاميرا وميكروفونات الصحافيين تحيط بها. تلك الطفلة تدعى "نجود" وذلك الحدث الذي لأجله احتشدت الصحافة والمراسلين كان طلاقها، والمكان كان أمام المحكمة بعد صدور الحكم. ولم تكن نجود ايضاً هي الأولى ولا الأخيرة حينها، لكنّها كانت الوحيدة التي هربت من منزل الزوج واتجهت مباشرة إلى محكمة، وانتظرت هناك حتى خَلَت القاعة وسألها القاضي مندهشاً ماذا تريدين؟ فأجابته بخبرة سنينها قليلة العدد: الطلاق.. استحقت "نجود" بعدها لقب "أشجع طفلة في العالم"، ومَنحت التغطية الإعلامية الكبيرة التي حظيت بها القضية بعداً آخر: صدىً دولياً.
بدأت النساء كفاحهنّ ذاك في العام 2005، وتصدرته حينها "الشبكة اليمنية لمناهضة العنف ضد المرأة" (شيما) بالتعاون مع منظمات أخرى، مطلقين حملة توعوية للتعريف بمخاطر الزواج المبكر وانعكاساته الصحية والنفسية والاجتماعية.
آنذاك، أصبحت الطفلة "نجود" عنواناً لمأساة تعرفها اليمنيات خصوصاً وإنما كذلك نساء أخريات على سطح الكوكب: زواج الطفلات. بكلمات أخرى: الإتجار بالبشر أو دعارة الأطفال. وأصبحت مع محاميتها شذى ناصر - إحدى أوائل النساء اللواتي فتحنَ مكاتب محاماةٍ في العاصمة صنعاء - صورة المرأة اليمنية التي تستطيع الوقوف أمام قضية تحملها وتنتصر بها على الرغم من التخويف والتهديد واحتمالات الفشل الواردة.
الحملة كما كانت
تعجّ اليمن اليوم بـ"نجودٍ" و"عنودٍ" كثيرات. ففي هذه القضية بالذات لم تشهد البلاد تقدماً وإنما تراجعاً، حيث كانت سن الزواج محددة بعمر الـ 15 عاماً في دستور عام 1992، ثم استبدلت تلك المادة في تعديل دستوري بمادة لا تقرّ سناً للزواج، وعوضاً عن ذلك تقول المادة "متى كانت صالحة للوطء"، وهي الجملة التي لا يفهمها عقل! وبالتالي، وفي ظلّ ظروف الحرب والتمزق والانهيار الاقتصادي وغياب أيّ سلطة للقانون، كما وفي الحالة العامة من التسخيف لكل قضايا النساء، من الطبيعي أن تكون النسبة قد زادت من النصف إلى الثلثين، وربما تكون أكثر من ذلك.
كان مشهد طلاق الطفلة "نجود" في 2008 هو حلقة في سلسلة طويلة من كفاح النساء لتحديد سن آمن للزواج. فتلك معركة اضطلعت بها النساء اليمنيات منذ ما قبل "نجود". بدأت النساء كفاحهنّ ذاك في العام 2005، وتصدرته حينها "الشبكة اليمنية لمناهضة العنف ضد المرأة" (شيما) بالتعاون مع منظمات أخرى، مطلقين حملة توعوية للتعريف بمخاطر الزواج المبكر وانعكاساته الصحية والنفسية والاجتماعية (2). كما أنّ "اللجنة الوطنية للمرأة" في المرحلة نفسها كانت قد أصدرت دراسةً موسعةً حول القوانين التمييزية ضد النساء، وعملت مع منظمات أخرى وأعضاء من مجلس النواب على حملة مناصرة ضخمة تركزت على قضية زواج الصغيرات (3).
استمر العمل المدني منذ 2005 بالتصاعد. قضية مثل قضية "نجود" وطفلات أخريات من اللواتي حظين باهتمام إعلامي، كنّ نجاحاً بحد ذاته. حينها كانت هناك مساحة تتحرك فيها النساء ضمن مؤسسات المجتمع المدني وساندتهنّ الصحافة بكل قوة، وتزعمت القضايا المؤسسات النسائية مثل اتحاد نساء اليمن واللجنة الوطنية للمرأة، إضافة إلى عدد من منظمات المجتمع المدني مثل "منتدى الشقائق"، "المدرسة الديمقراطية"، "صحافيات بلا قيود"، "منتدى الإعلاميات اليمنيات"، "هود"، "سياج لحماية الأطفال"… الخ، وأغلب هذه المنظمات كانت نسائية، أو بقيادة نسائية.
تعجّ اليمن اليوم بـ"نجودٍ" و"عنودٍ" كثيرات. ففي هذه القضية بالذات لم تشهد البلاد تقدماً وإنما تراجعاً، حيث كانت سن الزواج محددة بعمر الـ 15 عاماً في دستور عام 1992، ثم استُبدِلت تلك المادة في تعديل دستوري بمادة لا تقرّ سناً للزواج، وعوضاً عن ذلك تقول المادة "متى كانت صالحة للوطء".
كانت الطريقة التي تضغط بها النساء في اتجاه تشريع يحدد سناً آمنة لزواج الفتيات فعالة وضارية: تكاتفنَ تحت راية واحدة، ولم يفوتنَ منفذاً يمكنهنّ العبور من خلاله، قدنَ حملات مناصرة بمشاركة أعضاء مجلس نواب ذكور كانوا سنداً لهنّ، نظمنَ مظاهرات دائمة تجوب العاصمة صنعاء، حشدنَ برلمان الأطفال، ومدارس الفتيات بالتعاون مع مكتب التربية، جمعنَ التواقيع من كل مكان: من الشارع والمدارس، من حفلات الأعراس، من العاصمة وصولاً للقرى للبعيدة، حشدت النساء الصحافة في صفهنّ، جلبنَ تلميذات مدارس بين الثانية عشرة والرابعة عشرة واصطحبنَهنّ إلى مجلس النواب موزعاتٍ وروداً على الأعضاء ورسائل تقول: شكراً لأنّك تحافظ على مستقبلي.
كان هديراً لا يتوقف.
قانونٌ برلمانيٌ معطلٌ
في شباط/ فبراير 2009 نجحت النساء في جعل البرلمان يتداول تعديلاً قانونياً يحدد سنّ زواج الفتاة بـ 17 عاماً (4). وعلى الرغم من أنّ المطالب كانت تسعى لتحديد سنّ الثامنة عشر كَسنٍّ أدنى للزواج وفقاً للمعايير الدولية، ولكن بسبب المعارضة الشديدة، جرى التوافق على أن يكون سبعة عشر عاماً. كان ذلك انتصاراً كبيراً للنساء وللمجتمع المدني والنساء العاملات فيه، حيث توافق أغلبية النواب على ذلك التحديد، ولكنّهم أضافوا استثناءً يسمح بزواج الفتيات دون سنّ 17 سنة إذا رأى أحد القضاة أنّ الزواج في صالح الفتاة ويعود عليها بالمنفعة! (5)
على الرغم من ذلك التوافق وعلى الرغم من الحشد، لم يجد التشريع طريقه للإقرار بسبب اعتراض عدد من النواب وتقديمهم طلباً لإعادة مناقشة القانون (6). حظي هؤلاء النواب بدعمٍ من الرموز الدينية الذين كانوا يعارضون الأمر صراحة، والذين بدورهم حشدوا النساء في الشارع للاعتراض على مجرد فكرة طرح قانون يحدد سناً آمناً للزواج، واعتبروا أنّه مخالف للشريعة الإسلامية و"حرمانٌ للشباب القادر على الزواج" (!) كما كتب الشيخ محمد الحزمي حينها (7).
كانت الطريقة التي تضغط بها النساء في اتجاه تشريع يحدد سناً آمنة لزواج الفتيات فعالة وضارية: تكاتفنَ تحت راية واحدة، ولم يفوِّتنَ منفذاً يمكنهنّ العبور من خلاله، قدنَ حملات مناصرة بمشاركة أعضاء مجلس نواب ذكور كانوا سنداً لهنّ، نظمنَ مظاهرات دائمة تجوب العاصمة صنعاء، حشدنَ برلمان الأطفال ومدارس الفتيات بالتعاون مع مكتب التربية، جمعنَ التواقيع من كل مكان...
في شباط/ فبراير 2009 نجحت النساء في جعل البرلمان يتداول تعديلاً قانونياً يحدد سنّ زواج الفتاة بـ 17 عاماً. كان ذلك انتصاراً كبيراً للنساء وللمجتمع المدني والنساء العاملات فيه. لم يجد التشريع طريقه للإقرار بسبب اعتراض عدد من النواب وتقديمهم طلباً لإعادة مناقشة القانون، بدعمٍ من الرموز الدينية الذين كانوا يعارضون الأمر صراحة، واعتبروه مخالفاً للشريعة الإسلامية.
كانت السجالات على أشدها. استخدم المعارضون لتحديد سنّ الزواج النغمة المعتادة: "تزوّج الرسول عائشة وهي في التاسعة" و"هذا آتٍ بتحريضٍ من الخارج لتغيير معتقداتنا وثقافتنا". وبالتالي، لم تكن النساء حينها في حرب قانونية أو صراع مع الرموز التقليدية فحسب، بل أيضاً مع الأفكار الغارقة عميقاً في العقل الجمعيّ. في إحدى سجالات الشارع، ردت إحدى أبرز الناشطات في الحملة وقتها، بلقيس اللهبي، على رجل كان يتشدق بمَثل "عائشة" وسألته: وماذا عن خديجة؟ ألا يجوز الاحتذاء بهذا كَمثلٍ أيضاً؟ بينما أتذكر أنّني في عام 2010 صرختُ في وجه رجل كان يستفزني في مظاهرة، وسألته إن كان هو شخصياً يعتقد بأنّه نبيٌّ حتى يتزوج طفلةً في التاسعة!
دور النساء العظيم
لم تتوقف النساء بعد النكسة التي حدثت في مطلع 2009، بل استمرت الحملة والحملة المضادة لها. آنذاك، كان العمل المدني والصحافي في أوجه في اليمن، وكانت النساء هنّ الوجه الأكثر حضوراً. اضطلعت النساء تقريباً بكل القضايا الوطنية حينها، وليس فقط فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالمرأة. تصدت النساء لأبرز قضايا تلك المرحلة وأشدها حساسية واشتعالاً، من حرب صعدة إلى قضية الجعاشن (8)، ومن المخفيين قسرياً إلى تعديل الدستور، ومن الحريات السياسية والحقوقية إلى مكافحة الفساد. ملأت وجوه النسوة الصحف والتلفزيون، وأكثر بكثير: ملأنَ الشارع.
الثورة
في مطلع 2010 كان لا يزال الحراك قائماً والنسوة المطالِبات بتحديد سن الزواج ما زلن في الشارع. استمر الضغط ليُعاد فتح الملف مرة أخرى في البرلمان، فمثلاً في آذار/ مارس من ذلك العام تظاهرت النساء مرتين أمام البرلمان، وكان القلق ليس فقط من زواج الطفلات محلياً، بل من أنّ اليمن حينها تحوّل إلى بؤرة لما يسمى بالزواج السياحي، حيث يأتي السياح، أغلبهم من السعودية، ويتزوجون شرعياً بطفلات قاصرات، ثم يتركونهنّ بعد ذلك دون اكتراث بمصيرهنّ الذي لا محالة سيكون مروعاً. كان واضحاً أن لا قضية نجود وصداها الإعلامي ولا قصص طفلات في العاشرة والثانية عشر قضين نحبهنّ بصورة بشعة إما جراء الاغتصاب "الشرعي" أو جراء عدم تحمل أجسادهنّ الصغيرة للحمل والولادة، استطاعت ردع "أولياء أمور" كثيرين، بل استمرت الأرقام في التصاعد.
الانتكاس
بسبب الضغط أُعيد فتح الملف مرة أخرى في البرلمان في 2010، وطُرِح مشروع القانون للنقاش، كان الفريق الذي عارض سابقاً سنّ الثامنة عشر والذي توافق على سن السابعة عشر قد تنصل تماماً من التوافق السابق ورفض بشكل كامل تحديد أيّ سن للزواج. وبالتالي جرت إحالة القانون إلى لجنة التشريع في مجلس النواب اليمني والتي أصدرت بدورها وثيقة تتكون من 14 صفحة رفضت فيها تحديد سن أدنى للزواج معتبرة أنّ ذلك يتعارض مع القرآن والسنة والدستور ومصلحة الأطفال (!)" (9).
لم تكن النساء حينها في حرب قانونية أو صراع مع الرموز التقليدية فحسب، بل أيضاً مع الأفكار الغارقة عميقاً في العقل الجمعيّ. في إحدى سجالات الشارع، ردت إحدى أبرز الناشطات في الحملة وقتها، بلقيس اللهبي، على رجل كان يتشدق بمَثل "عائشة" وسألته: وماذا عن خديجة؟ ألا يجوز الاحتذاء بهذا كَمثلٍ أيضاً؟
وبالمقابل، صعّدت النساء احتجاجاتهنّ. في أيار/ مايو 2010 خرجت النساء بعشرات الآلاف في صنعاء، رافعاتٍ اللافتات ومشارِكاتٍ قصص الطفلات ضحايا الزواج المبكر، تتقدمهنّ رئيسة اتحاد نساء اليمن التي صرحت بأنّها تحمل عريضةً بمليون توقيعٍ تمثل كافة أطياف الشعب اليمني (10). وكان المعارضون أيضاً في الشارع. ففي واحدة من الاحتجاجات، التي شاركتْ فيها تلميذات مدارس، حشد الإسلاميون نقابة المعلمين التابعة لهم، وحضروا بهم إلى المظاهرة النسائية ذاتها وكانوا رجالاً فقط، وهناك بدأوا في مضايقة الفتيات والنسوة لفظياً وجسدياً (11).
جاءت 2011، كحدث حتمي يُتوَّج به كل النشاط المدني الذي كان فاعلاً في السنوات التي سبقت، وكنّ النساء صانعاته "وكاسحات ألغامه" كما وصفتهنّ "بلقيس اللهبي". بالنسبة للآخرين، كان مدهشاً نزول النساء اليمنيات للشارع بتلك الكثافة والشجاعة، ومثيراً للغرابة أكثر كونهنّ قائدات. لكن بالنسبة للنساء أنفسهنّ وبالنسبة للشارع، لم يكن هذا حدثاً استثنائياً: هؤلاء هنّ هنا منذ البداية! وما حدث فقط هو أن شاشة التلفاز أخيراً قد صورتهنّ كما هنّ. قدنَ المظاهرات في الشوارع، حشدنَ الحشود، خطبنَ في الساحات، وناشدنَ القبائل الانضمامَ للثورة سلميين تاركين أسلحتهم في منازلهم، قائلات: "الفزعة! فإنّ أبناءكم اليوم يُقتَلون في الشوارع!". وحين أطل صالح مهدِّداً الشباب بالصوملة، ردت عليه "بلقيس اللهبي" بأنّهم يهددونه بالتونسة. وكانت تلك الجملة أحد رموز 2011.
هل يُبدَّد المكتسب؟
حملت النساء ومناصريهنّ قضية زواج الصغيرات معهنّ خلال 2011 وما تلاها. وفي "مؤتمر الحوار الوطني" في 2013 حيث كان تمثيل النساء 30 في المئة من المشاركين، تمّ إقرار البند الذي يحدد سن الزواج بـ 18 عاماً كحدٍّ أدنى، بعدما توافقت عليه القوى الرئيسية المشاركة فيه، وكان يُتوقع أن تقرّه الحكومة والبرلمان بعدها، وأن يثبّت في دستور الدولة الجديدة. لكن، بدأت الحرب الأهلية مباشرةً ووُضع الموضوع - مثل حال البلد كلها - جانباً حتى إشعار آخر.
لقد حققت النساء هدفهنّ من التشريع الذي يحدد سناً آمنة لزواج الفتيات وإن لم تحالفهنّ الظروف بتطبيقه على الأرض. ولن يُسلب هذا المكتسب عند أي توافق سلمي لأطراف النزاع ونشوء الدولة، لكنّه يحتاج منهنّ الحضور والتواجد في مواقع صنع القرار وفي المواقع التي تسمح لهنّ بممارسة الضغط كما فعلنَ سابقاً. وهذا ما تفعله نسوة اليوم، يحاربنَ على أكثر من جبهة، ويقاومنَ أكثر من عدو، مع محاولاتٍ مستميتةٍ للحفاظ على المكتسبات السابقة في ظل سلطات "راديكالية" تقليدية ورجعية تمارس البطريركية في أسوأ صورها بدون حسيب ولا رقيب.
كان العمل المدني والصحافي في أوجه في اليمن، وكانت النساء هنّ الوجه الأكثر حضوراً. اضطلعت النساء تقريباً بكل القضايا الوطنية حينها، وليس فقط فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالمرأة. بالنسبة للآخرين، كان مدهشاً نزول النساء اليمنيات للشارع بتلك الكثافة والشجاعة، ومثيراً للغرابة أكثر كونهنّ قائدات. لكن بالنسبة للنساء أنفسهنّ وبالنسبة للشارع، لم يكن هذا حدثاً استثنائياً: هؤلاء هنّ منذ البداية!
إحدى صور هذه الممارسات، الصعوبات التي تلْقاها اليمنية لاستخراج جواز سفر، إذ لا يمكن لها استصداره بدون وليّ أمرٍ ذكر، رغم أنّ هذا الشرط ليس مذكوراً في القانون. انتشرت قصص اليمنيات اللواتي خسرنَ منحهنّ الدراسية أو لم يستطعنَ السفر للعلاج أو غيره لأنّ موظف الجوازات رفض استصدار الوثيقة بدون ولي أمر. وقد يكون ولي الأمر هذا غائباً، ميتاً، مريضاً يحتضر، غير موجود بالمرة، في مدينة أخرى... لكنّ هذا لا يقنع رجال مصلحة الجوازات، الذين اتخذوا عرفاً تقليدياً بمثابة قانون طبّقوه على النساء، خوفاً عليهنّ من "الهرب". لذا، وفي مواجهة هذا، بدأت حملة "جوازي بلا وصاية" التي اكتسحت عالم الإنترنت بين آب/ أغسطس 2021 وآذار/ مارس 2022، تشاركت فيها النّساء قصصهنّ ومطالبهنّ، وخرجنَ في مظاهرات في مدينة تعز وسط البلاد التي انطلقت منها الحملة.
تضافرت جهود النساء وداعميهنّ، وأتت الحملة أُكُلها بعد يوم المرأة العالمي في 9 آذار/ مارس 2022، حين أصدرت وزارة الداخلية في الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً توجيهاتها إلى مصلحة الجوازات، بأن تمنح المرأة اليمنية حق الحصول على وثيقة جواز سفر "دون أيّ اشتراطات"، ووفقاً للقانون.
يمنيّات يخلقن واقعاً موازياً في ظلّ الحرب
31-03-2022
كانت هذه خطوة بسيطة في طريقٍ من ألف ميلٍ وميلٍ تقطعه وستقطعه النساء اليمنيات. لكنّه لن يكون بالمستحيل بالنسبة لهنّ: فاللواتي صنعنَ 2011 وما قبله، قادراتٌ على صنع تاريخٍ آخر، واللواتي كبرنَ في ظل كل هذا الدمار والقمع وكنّ قادرات على خلق الجمال والسلام وتحمل مسؤولياتهنّ ومسؤوليات مجتمعاتهنّ، لا محالة قادرات على مواصلة الكفاح. وإن كانت نجود أشجع طفلة في العالم في 2008، فكل اليمنيات هنّ أشجع نساء في العالم في هذا العقد كله!
محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
1- After Years of Civil War, Child Marriage Is on the Rise in Yemen
https://bit.ly/39aqpc8
2- طفلة يمنية مطلقة في العاشرة من عمرها وفي الصف الثالث الابتدائي: حياتي لم تكن طبيعية https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2009/03/06/135672.html
3- مقابلة هاتفية مع بلقيس اللهبي، أيار/ مايو 2022
4- تحديد السن القانونية لزواج الفتاة يثير ارتياحا باليمن https://bit.ly/3mb7LUb
5- اليمن.. صغيرات في قفص الزوجية وجدال تشريعي ينتهي بوأد مشروع قانون يحدد سن الزواج http://www.althawranews.net/archives/116889
6- وفاة فتاة يمنيّة بسبب العنف الجنسي بعد أيام من تزويجها
https://bit.ly/3Ml8Kfg
7- الفضائية اليمنية والحيادية المشلولة https://marebpress.org/articles.php?id=6749
8- الجعاشن منطقة يمنية تقع جنوب غرب محافظة إب الجنوبية، ومشكلتها من أطول القضايا الحقوقية اليمنية وتعود لسبعينات القرن الماضي. عانى أبناء المنطقة من بطش شيخ المنطقة، عضو مجلس الشورى، ويدعى الشيخ محمد أحمد منصور، وكان يمتلك سجوناً خاصة به بمعرفة الدولة وينهب ممتلكات السكان وبيوتهم وأراضيهم ويهجِّرهم منها. لاقت قضيتهم صدى إعلامياً حين تبنتها منظمات المجتمع المدني لكنه لم يمْكن مقاضاة الشيخ بسبب الحماية التي يتمتع بها من الدولة.
9- اليمن.. صغيرات في قفص الزوجية وجدال تشريعي ينتهي بوأد مشروع قانون يحدد سن الزواج http://www.althawranews.net/archives/116889
10- زواج القاصرات باليمن يثير جدلا فقهيا.. وعلماء يحرّمون تحديد سن الزواج، 04 حزيران/ يونيو 2010 https://bit.ly/3tdrsPm
11- مقابلة هاتفية مع بلقيس اللهبي، أيار/ مايو 2022