"مسيك بالخير يا سامع أغانينا، يوم نغني للوطن تهب أشواق فينا". على مسرح بئر يوسف بقلعة صلاح الدين في قلب القاهرة، كانت فرقة "الفالوجا" للفنون الشعبية الفلسطينية (1) تتراقص على أنغام الأغنية الفلسطينية، وعلى أرض القلعة المصرية وقف خلف الفرقة الشابة الجمهور الغفير يتمايل على إيقاعات الدبكة، ومن فوق رؤوسهم علم فلسطين يرفرف، ذاك الذي صار محرّماً اقتناؤه أو رفعه في مناسبات عدة في مصر، لكنّه حضر هنا ومن خلفه كانت فلسطين حاضرة بموسيقاها ورقصها، قبيل ساعاتٍ من انطلاق "مسيرة الأعلام" التي أعلنت عنها حكومة الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنون داخل حارات وشوارع القدس المحتلة وحتى المسجد الأقصى.
ويعدّ المهرجان الدوليّ للطبول والفنون التراثية، من المهرجانات الفنية الحديثة التي انطلقت من القاهرة تحت شعار "حوار الطبول من أجل السلام". ويرأس المهرجانَ الموسيقي المصري انتصار عبد الفتاح، مؤسسه وصاحب فكرته، تحت رعاية مؤسسة "حوار لفنون ثقافات الشعوب" المصرية ووزارتي الآثار والثقافة. وقد شهد المهرجان في فعاليات دورته التاسعة (التي افتتحت في 21 أيار/ مايو واختتمت في نهايته) مشاركة متميزة من 43 فرقة آتية من 18 دولة (هي تونس- إسبانيا- بنغلاديش- أذربيجان- السودان- الفلبين- فلسطين- المكسيك- الهند- جنوب السودان - اليمن – إندونيسيا - باكستان- الأردن - الكونغو برازفيل – مصر)، إضافة لمشاركة شرفية للصين وكوريا الجنوبية. وحلّت تونس ضيف شرف للمهرجان هذا العام. وقد حرص منظِّموه على تقديم العروض داخل أماكن أثرية وتراثية تحمل عبق التاريخ، فاستضافت العروض "مسرح بئر يوسف" بقلعة صلاح الدين، و"مسرح سور القاهرة الشمالي" بشارع المعز، و"ساحة مركز الهناجر للفنون" داخل دار الأوبرا المصرية، و"قبة الغوري"، و"قصر الأمير طاز"، و"مركز الطفل للحضارة والإبداع".
تاريخ المهرجان
عبّر الفنان انتصار عبد الفتاح رئيس المهرجان، عن عشقه للشعوب وتراثها، وجاءت البداية حينما استشعر روح الموسيقى ودقات الطبول في أقاليم مصرية عدة، وحاول في العام 1990 دمج إيقاعات الطبول والأشكال الموسيقية التراثية المختلفة، لتتآلف معاً تحت قيادته في فرقة جديدة سميت بـ "الطبول النوبية والآلات الشعبية المصرية"، وأطلق من خلالها برنامجاً أسماه "حوارٌ على ضفاف النيل". فالهدف الأسمى من الموسيقى - وفق رؤيته- تقريب الشعوب. وهكذا انتقلت الفرقة الوليدة حينها بين دول إفريقية مختلفة، لتقدم عروضاً فنية تراثية بمصاحبة أخرى إفريقية، وحققت نجاحاً كبيراً على مدار سنوات طويلة، حتى إنّ رئيس دولة زامبيا قدم طلباً إلى الرئاسة المصرية في العام 2011 لحضور فرقة الطبول النوبية كضيف شرف على متن الطائرة الأولى التي انطلقت من القاهرة إلى مطار "لوساكا" في عاصمة البلاد.
وكان العام 2013، فارقاً فعلى الرغم من أنّ مصر وقتئذ كانت بلداً غير مستقر داخلياً، إلا أنّه وحسب إحصاءات الدورة الأولى للمهرجان في ذلك العام فقد شاركت فرق من 27 دولة من قارات العالم المختلفة، لتحمل الدورة الأولى الرقم القياسي في المشاركة حتى الآن.
وفي العام 2021، وفي ظل جائحة كورونا، استحالت مشاركة فرق من خارج مصر فبرزت وقتئذٍ فكرة الاستعانة بالجاليات الأجنبية داخل مصر كفرق مشاركة بالمهرجان إلى جانب الفرق المصرية الرسمية والمستقلة. فكانت دورة ناجحة للغاية وساهمت في نشر البهجة والسرور في قلوب من شاركوا في ذلك الوقت العصيب. وكانت اللوحة الختامية للمهرجان هي الأكثر مشاهدة، حيث قدم "عبد الفتاح" تشكيلات غنائية واستعراضية من نساء مشاركات من دول إفريقية وأخرى عربية.
كيف يجري المهرجان؟
يبدأ حفل الافتتاح على مسرح بئر يوسف بالقلعة، مطلقاً معزوفة بمشاركة جميع الفرق، ثم أعقبه في اليوم الثاني مسيرة كرنفالية على امتداد شارع المعز الأثري بمنطقة الحسين في قلب القاهرة التاريخية، حيث تمر كل الفرق المشاركة في المنتصف وهي ترتدي أزياءها الوطنية، بينما آلاف من الناس تصطفّ على جانبي الطريق تصفق وترقص، متفاعلة مع كل دقات الطبول التي تمرّ أمامها. لكنّ المشهد الذي تكرر لأكثر من دورة من المهرجان يختلف بمجرد مرور فرقة الفالوجا الفلسطينية، فترتفع ساعتها صيحات الجموع الغفيرة التي ترقص على أنغام الدبكة، مرددة شعارات حماسية معبرة عن حجم التأييد الشعبي للقضية الفلسطينية. وتعلو دقات الطبول حتى منتصف الليل لتعلن عن بدء المهرجان بصورة فعلية، حيث تنطلق الفعاليات والعروض المختلفة في مناطق أثرية في القاهرة.
وقد استمر المهرجان لمدة 7 أيام كاملة في حفلات مسائية، ولعل من أبرز الفرق التي لاقت تفاعلاً كبيراً هذا العام، فرقة الرقص الفولكلوري المكسيكي التي قدمت رقصات لاتينية نابضة بالحياة والألوان ومستوحاة من التراث الشعبي المكسيكي، في حين قدمت فرقة الفنون الشعبية الأقدم والأشهر في مصر، "رضا"، تابلوهات راقصة مرتبطة بوجدان منطقتنا ومنها: "حلاوة شمسنا"، و"الأقصر بلدنا"، و"غزل في الريف"، و"موشح غريب الدار"، و"الحجالة"، و"العصاية"، و"الفلاحين"، و"الإسكندراني"، و"النوبة.. أما الفرقة القومية للموسيقى الشعبية فقد قدمت في حفل الافتتاح مقطوعات موسيقية وعزف منفرد لآلات الكولة والمزمار والربابة، إلى جانب استعراض "التنور والتحطيب الصعيدي".
وقد كرّم المهرجان في حفله الختاميّ هذا العام عدداً من الفنانين الذين لعبوا دوراً بارزاً في الحفاظ على تراث بلادهم الموسيقي، منهم المطرب وعازف الربابة الأردني الراحل عبده موسى صالح، والموسيقي الإسباني الراحل باكو دي لوسيا، وعازف الطبلة الهندي ذاكر حسين، إضافة إلى تكريم جامعة كوريا الوطنية للتراث الثقافي بكوريا الجنوبية لدورها المتميز في المحافظة على التراث وتخريج كوادر أكاديمية مؤهلة للتعامل مع التراث الثقافي للإنسانية، وجمعية أصدقاء فنان الشعب سيد درويش من مصر لدورها في حفظ تراثه الثري وبالغ الاهمية لجهة التجديد.
ويأتي المهرجان هذا العام مع استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، ليؤصّل لفكرة محاربة البارود بالفن، ولتقف كل الفرق المشاركة من 18 دولة فتعلن: "نحن الشعوب لا نريد حرباً.. نريد فناً وسلاماً".
1- تأسست فرقة الفالوجا في العام 1983 من مجموعة من طلبة معهد التمريض التابع للهلال الأحمر الفلسطيني بالقاهرة، وتهدف إلى إبراز الهوية الفلسطينية من خلال تقديم عروض فلكلورية، كما تمثل الفرقة فلسطين في مهرجانات دولية كثيرة.