في نيسان/ أبريل الماضي، خلال شهر رمضان، راقب الغزيّون التحسّن في ساعات وصل التيار الكهربائي لمنازلهم عند ساعات الإفطار والسحور تحديداً. فمن شأن العتمة أن تضعهم بمواجهة مباشرة مع آثار الحصار الإسرائيلي المتمددة في كل كبيرة وصغيرة، ما يثير الإرهاق والملل وكثير من المتاعب والمآسي، منذ عايش الغزيّون فرضه في عام 2006.
أصبحت ساعات التغذية الكهربائية الواصلة لمنازل مليوني إنسان يقطنون القطاع، تتراوح ما بين ثمانيَ إلى عشر ساعات، مُوزعة على فترتين خلال اليوم بعدما كانت ساعات انقطاع التيار الكهربائي عن 270 ألف اشتراك مُسجل لدى شركة توزيع كهرباء غزة، تصل لنحو 18 - 20 ساعة يومياً، في أوقات اشتداد الأزمة.
وعلى الرغم من توضيح شركة التوزيع بغزة سبب ذلك التحسن، باعتبار انقضاء ذروة الطلب الشتويّ على الطاقة الكهربائية مع ما في ذلك من تخفيف للأحمال الكهربائية، إلا أنّ ساعات انقطاع التيار عادت بعد انتهاء شهر رمضان لسابق عهدها، حيث تتساوى ساعات الوصل اليوميّة بساعات الفصل، مع زيادة متذبذبة في الأخيرة.
رحلةٌ طويلةٌ مع الظلام
في 28 حزيران/يونيو من عام 2006، دمّرت إسرائيل في ساعات الصباح الأولى، محطة توليد الكهرباء التي تغطي جزءاً من احتياجات قطاع غزة من الطاقة الكهربائية، حين أطلقت الطائرات ستة صواريخ على المحوّلات الستة في المحطة وأوقفتها عن العمل، ليصبح سكان غزة يعيشون منذ ذلك اليوم بلا تيار كهربائي لفترات طويلة خلال اليوم، تحدث أضراراً بمختلف جوانب الحياة، ولا سيما في قطاعات الصحة والتعليم والصرف الصحي والمياه والخدمات.
بعد تدمير مصر للأنفاق وتحسن العلاقات مع حركة حماس مقابل بعض التسهيلات التي تخفف من آثار الحصار الإسرائيلي، والتنسيق الأمني لضبط الحدود مع مصر التي تشهد حرباً مع "داعش"، انحسرت تجارة " بزنس الفرصة" الرابحة واقتصرت على ما تسمح مصر وإسرائيل بإدخاله من المعابر التجارية.
وقعت تلك الضربة بتوصية من اللجنة الأمنية الإسرائيلية التي ألفتها حكومة رئيس الوزراء آنذاك إيهود أولمرت، لدراسة سبل تنفيذ اعتبار قطاع غزة "كياناً معادياً"، والتي قررت فيما بعد اتباع إجراءات إضافية في الاتجاه ذاته تشديداً للحصار، بقطع أحد خطوط الكهرباء الإسرائيلية التي تزود القطاع مقابل كل صاروخ فلسطيني يسقط في الأراضي المحتلة. وبالإضافة إلى ما سبق، تعرضت المحطة للقصف خلال العدوان الذي شنّته إسرائيل على قطاع غزة في أعوام 2008 و2012 و2014.
هل تعمل التهدئة لصالح غزة؟
22-02-2022
يبلغ الطلب على الطاقة الكهربائية في قطاع غزة نحو 550 ميغاوات، بينما لا تزيد نسبة المتوفر في القطاع منها على 222 ميغاوات، وتأتي من ثلاثة مصادر، هي: محطة غزة 80 ميغاواط، وخطوط كهرباء قادمة من إسرائيل 120 ميغاواط، وأخرى مصرية تقدّر بنحو 22 ميغاواط. كما تزيد حاجات القطاع من الطاقة الكهربائية في أيام البرد الشديد شتاءً، وفترات ذروة ارتفاع درجات الحرارة في شهري تموز/يوليو وآب/ أغسطس صيفاً لتصل لنحو 600 ميغاوات. ويضاف إلى ذلك الزيادة الحاصلة في السنوات الأخيرة في الأحمال على الشبكة، والتي تضمّنت مشاريع إسكانية ومستشفيات ومحطات ضخ للبلديات، ومدينة حمد السكنية وإنارة طريق صلاح الدين الواصل بين جنوب القطاع وشماله. وتقدر هذه الأحمال بنحو 30 ميغاوات، مع بقاء المصادر كما هي، بل وتتناقص وفقاً للأوضاع السياسية والأمنية.
لم يعرف الغزيّون أنّ استخدام الأدوات والمصادر البديلة من أجل الحصول على إنارة لمساكنهم، أو تشغيل مروحة تخفّف قيظ الصيف أو مدفأة شتاءً، سيكلّفهم خسائرَ مادية وبشرية، حيث وقعت مآسٍ شغلت الرأي العام في غزة، فقد رصد "مركز الميزان لحقوق الإنسان"، وفاة 32 مواطناً، بينهم 25 طفلاً وسيدة واحدة، خلال الفترة الممتدة من مطلع العام 2010، وحتى نهاية أيلول/ سبتمبر من عام 2018 نتيجة اشتعال الحرائق في المباني السكنية بسبب استعمال الشموع، أو الانفجارات الناتجة عن احتراق المولدات الكهربائية الصغيرة.
تنامت الحاجة لحلول أكثر استقراراً بعد فشل عشرات اللجان والخطط الموضوعة لحل الأزمة، حيث اتجه المسؤولون عن إدارة شؤون القطاع إلى التخلص من الأزمة الخانقة عبر خصخصتها، وترك زمام الأمور فيها لشركات القطاع الخاص التي تنتج الكهرباء عبر مولدات ضخمة يملكها رجال أعمال جُدد، نشؤوا في خضم إعادة التشكيل الاقتصادي والاجتماعي بالقطاع بعد الانقسام الفلسطيني.
كانت إسرائيل ولا زالت، توظّف العقوبة الجماعية كأحد أبرز الأدوات التي استخدمتها في إحكام قبضة حصارها لقطاع غزة وفرض مزيدٍ من القيود والتضييق على أهاليه، حيث أنّ تدمير المحطة الوحيدة في القطاع تسبب بعجزٍ حاد في إنتاج الطاقة الكهربائية. وكانت تلك وسيلة للضغط على الحاضنة الشعبية لفصائل المقاومة الفلسطينية، ولا سيما حركة حماس، في أعقاب فوزها بانتخابات المجلس التشريعي عام 2006 وتفردها بالحكم في العام التالي بعد أحداث الانقسام الفلسطيني في حزيران / يونيو من العام ذاته.
بزنس الفرصة
ساهمت الحاجة لتوفير المصادر البديلة في إحياء نوعٍ من "بزنس الفرصة" الذي حضر بأشكال متعددة داخل القطاع، خلال مراحل مختلفة من سنوات الحصار الطويلة. وهو نوع من الاستثمار ينْشط أثناء وجود الأزمات. بدأ هذا الاستثمار بعد اتساع التبادل التجاري بين غزة وسيناء، إبّان الكسر الجزئي للحصار، من خلال أنفاق التهريب الممتدة بين رفح الفلسطينية ونظيرتها المصرية. ووفّر التكسب السريع بفعل زيادة الطلب على معدات وأدوات توليد الكهرباء والإنارة البديلة، كالشمع وبطاريات السيارات ومولدات الكهرباء الصينية الصغيرة ومعدات تمديد الشبكات الكهربائية المستخدمة فيها.
"غزّة المعلّقة": بين التمكين أو التراجع!
13-12-2017
وبعد تدمير مصر للأنفاق وتحسن العلاقات مع حركة حماس مقابل بعض التسهيلات التي تخفف من آثار الحصار الإسرائيلي، والتنسيق الأمني لضبط الحدود مع مصر التي تشهد حرباً مع "داعش"، انحسرت تلك التجارة الرابحة واقتصرت على ما تسمح مصر وإسرائيل بإدخاله من المعابر التجارية.
فيما بعد، تنامت الحاجة لحلول أكثر استقراراً بعد فشل عشرات اللجان والخطط الموضوعة لحل الأزمة، حيث اتجه المسؤولون عن إدارة شؤون القطاع إلى التخلص من الأزمة الخانقة، عبر خصخصتها، وترك زمام الأمور فيها لشركات القطاع الخاص التي تنتج الكهرباء عبر مولدات ضخمة يملكها رجال أعمال جُدد، نشؤوا في خضم إعادة التشكيل الاقتصادي والاجتماعي بالقطاع بعد الانقسام الفلسطيني.
يقدّر عدد المولدات الكهربائية التجارية العاملة في قطاع غزة بـ 200 مولداً، حيث يوزع المولد الواحد لعدد يتراوح ما بين 150 – 300 مشترك. تباع الكهرباء لنحو 50 ألف مشترك، فيما تقدّر الطاقة الإنتاجية لهذه المولدات مجتمعة، بحوالي 100 ميغاوات.
وتبيع تلك الشركات الكيلووات من الطاقة الكهربائية بسعر مضاعف ثماني مرات، أي أنّه يرتفع من 0.6 شيكل سعر التعرفة لدى شركة التوزيع، إلى 3.6 شيكل (1.1 دولار) لكل كيلووات لدى الشركات الخاصة، ليضيف عبئاً ثقيلاً على أرباب الأسر الغزيين، المشغولين بقائمة طويلة من الالتزامات، والمحاصرين في الوقت ذاته بندرة فرص العمل والتدني الشديد في الأجور.
اتضح نفوذ مُلاّك تلك الشركات لدى المُشرّع في حكومة الظل بغزة، عندما امتنعت عن الالتزام بتسعيرة بيع الكهرباء المُخفض ثمنها بنحو الثلث التي قررتها سلطة الطاقة بغزة. ارتفاع التسعيرة والصبغة الاحتكارية لهذا النوع من الاستثمار يتطلبان رأس مال كبير وسلطة لحمايته. مع أنه استثمار عام يصبح من الصعب ترك مهمة تنظيمه لرواد التجارة والاقتصاد الاستهلاكي في غزة.
لم تتمكن اللجنة الحكومية في غزة من فرض التسعيرة التي بادرت بشأنها لجان شعبية محلية، وذلك بعد أخذٍ وردٍ مع رابطة أصحاب المولدات التجارية، فشلت في تخفيض ثمن التعرفة مراعاةً للظروف التي يمر بها القطاع، واستمرار الحاجة المُلحة لدى السكان لمصدر تغذية مستقر للطاقة الكهربائية.
غزة سيئة الحظ
نهاية شباط/ فبراير الماضي، أعلنت "اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة" عن توقيع اتفاقات ثنائية مع كلٍّ من السلطة الفلسطينية من جهة وشركة توزيع كهرباء غزة من جهة أخرى، وتتبنى تلك الاتفاقات مشروع خطوط نقل الغاز لحل أزمة كهرباء غزة، بتمويل قطري - أوروبي.
تبيع الشركات المالكة للمولدات الكبيرة الكيلووات من الطاقة الكهربائية بسعر مضاعف ثماني مرات، وقد اتضح نفوذ مُلاّك تلك الشركات لدى المُشرّع في حكومة غزة، عندما امتنعت عن الالتزام بتسعيرة بيع الكهرباء المُخفض ثمنها بنحو الثلث التي قررتها سلطة الطاقة بغزة.
تنص الاتفاقات على تشغيل محطة توليد الكهرباء في غزة عبر استيراد الغاز من شركات إسرائيلية بتمويل قطري، بعد تحويل نظام محولات التوليد بالمحطة للعمل بالغاز من الوقود الصناعي، بالإضافة لتوسيع المحطة ليتناسب ما تنتجه من الطاقة الكهربائية مع احتياجات القطاع المتزايدة، وذلك كجزءٍ من "تفاهمات التهدئة" التي تُنسقّها قطر بين حركة حماس وإسرائيل.
كما هو معلن، تتكفل قطر بدفع نحو 60 مليون دولار لتمويل إنشاء خط لنقل الغاز بطول 40 كم من مدينة عسقلان على الساحل الفلسطيني المحتل، وتوريده لمحطة التوليد القابعة وسط القطاع، بدعمٍ إضافي بنحو 5 ملايين دولار من الاتحاد الأوروبي.
شهادة وتجربة من غزة: مسعفٌ في كل بيت
23-01-2022
فهل سينجح هذا المشروع الناشئ في حل أزمة نقص الطاقة الكهربائية المزمنة في قطاع غزة؟ الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب، يؤكد في تعقيبه على توقيع تلك الاتفاقيات، أنّ ما يجري الحديث عنه باعتباره الحلّ الخلاصيّ للأزمة سيكون غير فعالٍ في حصر تداعياتها وعاجزٍ عن حلها، ذلك أنّ شبكات نقل الكهرباء ونقاط توزيع الأحمال الكهربائية في المناطق السكانية بحاجة إلى التطوير والتحديث وإضافة المزيد من التمديدات، بتكاليف إضافية تقدّر بمليار دولار، ولا تستطيع إدارة غزة الحالية تحملها.
فإلى جانب ما تسبب به العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة من تدمير لخزانات الوقود في محطة توليد الكهرباء وقصف المخازن الرئيسية لشركة توزيع الكهرباء، فقد تضررت شبكات توزيع الكهرباء داخل القطاع نفسه جرّاء القصف الإسرائيلي وتدمير البنى التحتية لمناطق واسعة منه.
الأشياء ليست كما تبدو
سنوات من فشل لجنة متابعة العمل الحكومي (تديرها حماس)، في إيجاد حلول لأزمة الكهرباء، نتيجة لسوء إدارة قطاع الكهرباء في غزة والضرائب المفروضة على وقود تشغيل محطة التوليد، وعجز اللجنة عن مواجهة تحديات الأزمة ليس بسبب البطالة والعوز وحسب وانما بسبب الأضرار الصحيّة والنفسيّة الناتجة عن الضوضاء البصرية لإنارة المصادر البديلة، وفقد الوقت والجهد والمال والضحايا. فالظلام يسود في مبانٍ سكنية متلاصقة بلا تهوية ملائمة، ولا ضوء شمس يصل جدرانها، وهي الممتدة في شوارع وأزقة مخيمات ومدن قطاع غزة.
تنص الاتفاقات الثنائية مع كلٍّ من السلطة الفلسطينية من جهة وشركة توزيع كهرباء غزة من جهة ثانية على تشغيل محطة توليد الكهرباء في غزة عبر استيراد الغاز من شركات إسرائيلية بتمويل قطري، بعد تحويل نظام محولات التوليد بالمحطة للعمل بالغاز وذلك كجزءٍ من "تفاهمات التهدئة" التي تُنسقّها قطر بين حركة حماس وإسرائيل.
تنعت هذه الاتفاقات بالحلّ الخلاصيّ للأزمة ولكنها ستكون غير فعالة في حصر تداعياتها وعاجزةٍ عن حلها، ذلك أنّ شبكات نقل الكهرباء ونقاط توزيع الأحمال الكهربائية في المناطق السكانية بحاجة إلى التطوير والتحديث وإضافة المزيد من التمديدات، بتكاليف تقدّر بمليار دولار، ولا تستطيع إدارة غزة الحالية تحملها.
خرج الغزيّون إلى الشوارع للمطالبة بجملة من الحقوق الأساسية من بينها الكهرباء في حراكاتٍ دعت إليها عبر منصات التواصل مجموعات شبابية محليّة، كان أولها حراك إنهاء الانقسام بين حركتي فتح وحماس في آذار/ مارس 2011، الذي مثّل في حينه الاحتجاج على تأثير ما هو سياسي على ما هو معيشي وحقوقي، إضافة إلى عشرات الوقفات والتظاهرات الاحتجاجية التي تثور فتُخمدها الأجهزة الأمنية، أبرزها حراك "29 نيسان/أبريل" 2016، وحراك "بدنا كهربا" في كانون الثاني/ يناير 2017، وحراك "بدنا نعيش" في آذار/ مارس 2019، الذي ضاع صوته وسط الحرب الإعلامية والمناكفات السياسية بين طرفي الانقسام.
جرى تفريق المتظاهرين بإطلاق الرصاص في الهواء وباستخدام الهراوات، مرة بعد مرة، بذرائع عدم الحصول على ترخيص، أو وجود توتر أمني مع الاحتلال. وبعد ملاحقة ومحاكمة عدد من الداعين لتلك التحركات والمشاركين فيها، بدا الهم الجماعي الذي ينطلق من الشارع وكأنه يخبو أمام حاجات الأفراد اليومية وصراعهم لتأمينها. وهو ما يتسبب بفقدان الأمل، وموجات هجرة شرعية وغير شرعية، وانقسامات اجتماعية يقمع فيها الكبير الصغير، وابن الحي أقرانه...