قضى السودانيون شهر رمضان وعيده بين اقتتال دامٍ في غرب البلاد راح ضحيته العشرات، وقمعٍ مفرط لتظاهرات الخرطوم الرافضة للانقلاب، والتي راح ضحيتها متظاهرٌ نتيجة دهسه بعربة شرطة ليصل عدد قتلى انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 إلى 95 قتيلاً خلال ستة أشهر هي عمر الانقلاب، بينما لا يزال أكثر من 4 آلاف مصابٍ يتلقون العلاج.
اعتاد السودانيون منذ سنوات على استقبال الأعياد بقدر ضئيل من الأفراح يكاد يتلاشى تماماً في بعض مناطق السودان التي باتت تجري فيها الدماء بشكل "معتاد" حتى لم تعد تُفرِّق بين المآسي والأفراح.
ومع ذلك تترقب الساحة السياسية السودانية هذه الأيام مشروع تسوية سياسية بين الأطراف المدنية والعسكرية، ومن المتوقع أن يبدأ قبل منتصف الشهر الجاري اجتماع تحضيري بمشاركة بعض الأطراف السياسية والعسكرية بإشراف آلية ثلاثية مكونة من "بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان" ("يونتامس")، الاتحاد الأفريقي، و"إيغاد" وهي منظمة شبه إقليمية تضم دول القرن الأفريقي.
اتفاق البرهان - حمدوك: الضغط الدولي يتجاهل المجتمع السوداني
30-11-2021
السودان: نهاية مرحلة
17-03-2016
وكانت "بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان" طرحت في أعقاب الانقلاب مبادرة لتنشيط عملية سياسية بهدف استعادة المسار الانتقالي، ولما كان موقف المجتمع الدولي واضحاً في دعمه حكومة مدنية مشترطاً ذلك لاستئناف الدعم المالي المتعدد، حاول العسكريون الالتفاف على موقف "يونتامس" أو تجييره لصالحهم وذلك بفرض دور للاتحاد الأفريقي في هذه العملية السياسية. ويبدو واضحاً أنّ صراع الاتحاد الأفريقي مع بعثة الأمم المتحدة أفضى في النهاية إلى شيء من تمكّن الاتحاد الأفريقي من توجيه العملية السياسية بما يتوافق ورغبة العسكريين في الاستمرار في الحكم بالامتيازات ذاتها التي حصلوا عليها في شراكتهم المنفضّة مع المدنيين... بل وربما بأكثر منها.
تعرضت العملية السياسية المطروحة من قبل "يونتامس" لانتقادات واسعة حتى من قبل المدنيين المناهضين للانقلاب، وسط اتهامات منهم بأنها تمضي لصالح شرعنة الانقلاب، أو أنها في أفضل الحالات تتعامل مع الانقلاب كأمر واقع. بينما وبالمقابل وُجِهت للبعثة اتهامات من قبل العسكريين بأنها تدعم المدنيين بالمطلق. وتتذرع القوى العسكرية بفرية التدخل الأجنبي للبعثة وقد لوّح قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، بطردها "إذا لم تلتزم بحدودها".
تسوية تتخطى رافضي الانقلاب؟
وبين هذا وذاك، فإنّ الخلاصة النهائية لمشروع العملية السياسية المطروحة الآن هو في محصلته تسوية للوضع الراهن بجلوس كل الأطراف حول طاولة حوار وصولاً لتوافق يفضي إلى إعادة تشكيل الفترة الانتقالية. لكن بالمقابل تتبنى القوى الرافضة للانقلاب شعار اللاءات الثلاث (لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية)، وهو شعار وموقف نهائي للجان المقاومة والحزب الشيوعي، ولحقت بها أحزاب "تحالف الحرية والتغيير" حيث تبنت هذه اللاءات.
تعرضت العملية السياسية المطروحة من قبل "يونتامس" لانتقادات واسعة حتى من قبل المدنيين المناهضين للانقلاب، وسط اتهامات منهم بأنها تمضي لصالح شرعنة الانقلاب، أو أنها في أفضل الحالات تتعامل مع الانقلاب كأمر واقع. بينما وبالمقابل وُجِهت للبعثة اتهامات من قبل العسكريين بأنها تدعم المدنيين بالمطلق.
موقف اللاءات الثلاث ينطوي على قطيعة بائنة لأي درجة من الشراكة مع العسكريين. ومن المهم الإشارة إلى أنّ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر أدى إلى رفع سقف المطالب عالياً، فقد جرى على مضض قبول الشراكة مع العسكريين بعد مجزرة فض الاعتصام في حزيران/ يونيو 2019، أما وقد انقلب الجيش على الشراكة - على علاّتها – فقد اعتبرت قوى الثورة أنها في غنى عنها تماماً، كما تنتظر "لجان المقاومة" - التي لا تزال تحكم سيطرتها على الحراك الجماهيري المناهض للانقلاب - معركة طويلة إذا ما اكتملت التسوية بقبول أحزاب "الحرية والتغيير" كلها أو بعضها بها.
ومع الحراك الدولي والإقليمي الهادف للضغط على كل الأطراف، فإنّ موقف بعض أحزاب تحالف "الحرية والتغيير" من اللاءات الثلاث ربما يتغير أو يلين قليلاً، في ظل تشتت قوى الثورة وصعوبة توحيدها، وهي النقطة الجوهرية التي تحسب في صالح العسكريين، وكثيراً ما ردد قائد الجيش أنه مستعد لتسليم السلطة إذا توافقت القوى المدنية.
وعلى الرغم من النداءات المتكررة من قوى الثورة نفسها لتشكيل جسم موحد إلا أنّ التشتت لا يزال مسيطراً على القوى المدنية، وهو بلا شك سوف يضاعف من تكلفة التغيير الجذري الذي تتمسك به لجان المقاومة والقليل جداً من الأحزاب، وسوف يدفع بالبقية نحو تسوية هشة.
ويبدو أنّ بعض أحزاب "الحرية والتغيير" الرئيسية سوف تتنازل عن موقف اللاءات الثلاث، وهذا ما عبر عنه مؤخراً المتحدث باسم مجلسها المركزي في تصريح رسمي، حيث أشار لحالة انقسام داخل التحالف تجاه التسوية السياسية، وهو ليس انقساماً مبدئياً، بل يدور حول شروط الدخول في حوار التسوية. فبينما ترى الغالبية ضرورة تهيئة المناخ بقرارات جادة وحقيقية قبل الدخول في الحوار، تتعجل بعض الأحزاب التسوية كيفما اتفق. وهذه المواقف تؤكد بالمجمل قبول جميع أحزاب "الحرية والتغيير، بالحوار وأنّ الخلاف بينها يتعلق فقط في اشتراطاته، وهو متناقض مع الموقف المعلن المتبني للاءات الثلاث.
ملامح التسوية تمنح الجيش سلطات أوسع
حتى الآن، لم تظهر ملامح مكتملة لمشروع التسوية، إلا أنّ أساسها جلوس كافة الأطراف معاً، بما فيها الأحزاب التي كانت تتقاسم الحكم مع حزب البشير حتى ليلة سقوطه، وهي في غالبيتها تشكل حاضنة للعسكريين منذ سقوط البشير. واللقاء بهذه القوى السياسية كان ولا يزال مرفوضاً من كثير من قوى الثورة لأنها في نظرهم لا فرق بينها وبين "حزب المؤتمر الوطني" المحلول. ومن المتوقع أن تدفع كل الأطراف برؤاها حول الفترة الانتقالية، وللجيش مشروع اتفاق مدعوم من حلفائه في بعض الحركات المسلحة الموقِّعة على اتفاق سلام جوبا 2020. وبحسب ما أوردت "رويترز من ملامح هذا المشروع الرئيسية، فهو يكرس حكم الجيش ويمنحه نفوذاً أكبر. ومما تسرب أيضاً للإعلام، مبادرة لتجمع الحركات المسلحة الموقِّعة على اتفاق سلام جوبا - وهي داعمة للانقلاب – وقد شملت نصوص مشروع اتفاق الجيش. ويعني ذلك أنّ كل المبادرات والرؤى المطروحة إنما تدعم وجود الجيش في السلطة الانتقالية عبر تشكيل مجلس أعلى للأمن والدفاع يضم العسكريين، على أن تُخلى مؤسسات الحكم التنفيذية من العناصر العسكرية. لكنّ مشروع الاتفاق منح المجلس الأعلى للأمن والدفاع سلطات واسعة في الملفات الأمنية والعسكرية والعلاقات الخارجية.
جرى على مضض قبول الشراكة مع العسكريين بعد مجزرة فض الاعتصام في حزيران/ يونيو 2019، أما وقد انقلب الجيش على الشراكة - على علاّتها – فقد اعتبرت قوى الثورة أنها في غنى عنها تماماً، كما تنتظر "لجان المقاومة" - التي لا تزال تحكم سيطرتها على الحراك الجماهيري المناهض للانقلاب - معركة طويلة إذا ما اكتملت التسوية بقبول أحزاب "الحرية والتغيير" كلها أو بعضها بها.
على الرغم من النداءات المتكررة من قوى الثورة نفسها لتشكيل جسم موحد إلا أنّ التشتت لا يزال مسيطراً على القوى المدنية، وهو بلا شك سوف يضاعف من تكلفة التغيير الجذري الذي تتمسك به لجان المقاومة والقليل جداً من الأحزاب، وسوف يدفع بالبقية نحو تسوية هشة، بل أشد هشاشة من تلك التي انفضّت بعد الانقلاب.
في الجانب الآخر، فإنّ القوى المناهضة للانقلاب لم تتمكن حتى اللحظة من إحداث الاختراق السياسي الذي يمكّنها من فرض واقع جديد. صحيح أنّها استطاعت تعطيل وشلّ الانقلاب الذي لم يستطع تشكيل حكومته حتى بعد مضي ستة أشهر عليه، وصحيح كذلك أنّ القوى المناهضة للانقلاب لا تزال ممسكة بخيوط الحراك الجماهيري، لكنّ الحاجة شديدة لتشكيل كيان سياسي متماسك وهذا مفقود حتى الآن.
وفي ظل هذا التشتت سوف تمضي العملية السياسية وصولاً لتسوية معزولة عن القوى الحية. والمؤكد أنها تسوية أكثر هشاشة من الشراكة التي انفضّت بعد الانقلاب، ولا تبين حتى الآن أي مكاسب للقوى المدنية الحاملة لمطالب "ثورة ديسمبر". وبذا، وبدلاً أن تكون التسوية السياسية مبشِّرة كما يفترض في ظل أي أزمة سياسية خانقة، بل هي سوف تقود الوضع إلى حافة الانفجار. فأي إعادة إنتاج لوجود المؤسسة العسكرية في سدة الحكم هو أمر مرفوض عامة، فقد حصدت المؤسسة العسكرية نصيباً كبيراً من الرفض الشعبي، وعلى وجه الخصوص بسبب الانتهاكات والفظاعات التي ارتُكِبت خلال أشهر الانقلاب.
كل المبادرات والرؤى المطروحة إنما تدعم وجود الجيش في السلطة الانتقالية عبر تشكيل مجلس أعلى للأمن والدفاع يضم العسكريين، على أن تُخلى مؤسسات الحكم التنفيذية من العناصر العسكرية. لكنّ مشروع الاتفاق منح المجلس الأعلى للأمن والدفاع سلطات واسعة في الملفات الأمنية والعسكرية والعلاقات الخارجية.
التسوية بشكلها الحالي لن تكتفي فقط بتفجير غضب الشارع الغاضب أصلاً، بل سوف تلحق المزيد من الانقسامات بين القوى المدنية. وإن كان انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر قد قسّم تحالف "الحرية والتغيير" إلى كتلتين، فإنّ مشروع التسوية الحالي سوف يقسّم ما تبقى. وهذه المرة لن تتوقف الانقسامات داخل التحالف الواحد بل ستمتد إلى داخل الأحزاب التي يُظهر بعضها الآن مواقف متناقضة.