تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
"أعتقد أنكم تأتونني بأفكار من الفضاء الخارجي"، قال محافظ النبطية لوفدٍ نسائي قصده من بلدة عربصاليم في جنوب لبنان عام 1995، مرفقاً الكلام بتلك الابتسامة الهازئة نفسها التي تعرفها جيّداً نساء كثيرات في كل مكان وفي أكثر من موقف، ولا مجال للّبس فيها. قد تبدو تودّداً أو محاولة إقناع أو مواساة، ولكنّ معنى تلك الابتسامة واحدٌ دائماً: أن لا داعي للاقتراح، فالرجال لديهم ما يكفي من العمل "الجاد"، وهُم أولى به وأدرى بجدواه... أمّا تلك الفكرة الآتية من الكواكب والمجرّات البعيدة، فلم تكن سوى اقتراحاً بسيطاً بالعمل بفرز نفايات القرية من المصدر وتنظيف شوارعها التي امتلأت بالقاذورات نتيجة عدم تصدّي أيّ جهة في ذلك الوقت لجمع النفايات في القرية.
ولكن، لنترك هذا المشهدَ لبرهة قصيرة ونسافر في الزمن عشرين عاماً إلى الأمام، إلى العام 2015: يكادُ المتجوّل في المدن والبلدات اللبنانية المختلفة وصولاً إلى العاصمة بيروت ليعتقد بأن البلاد لم تغادر الحرب الأهلية بعد، وذلك بأمارة أنّ شوارعنا - في المشهدَين – غارقةٌ بالنفايات التي تزداد تكدّساً وانتشاراً كل يوم دونما علاج. ففي عزّ ما سُمّي في ذلك الحين بأزمة النفايات، حين توقّف مطمر "الناعمة" عن استقبال المزيد منها بالتزامن مع امتناع شركة "سوكلين" المتعهّدة جمع النفايات عن أداء عملها، كانت بلدة عربصاليم الجنوبية تعيش في مكان آخر، خاليةً من النفايات، "مهفهفة" كما يُقال، بل ومفعِّلة لدورة الفرز والنقل والتدوير والمعالجة، دون انتظار صفقات ومناقصات وقرارات حكومات أو شركات كبرى تأتي للجمع والمعالجة (وتلك الأخيرة في بلد كلبنان لا تعني شيئاً سوى التكديس في "جبال زبالة" أو الحرق دونما أدنى مراعاة للشروط البيئية والصحية، وهي في الحالتين كارثة تسمّم البشر والشجر والحجر).
لبنان: ولكن أين كلّ تلك الحرية والمساواة؟
14-12-2021
في ذروة تلك الأزمة، بدأ الإعلام اللبناني بالالتفات إلى تجربة تلك البلدة الوادعة التي نظّفتها نساؤها وانتقلن بها إلى مستوى آخر بعيد عن حال شوراع المدن والبلدات في البلد الذي يزداد انتكاساً، فكيف فعلنَ ذلك؟
الانطلاقة
عام 1995، كان المجلس البلدي لبلدة عربصاليم، الواقعة في إقليم التفاح في جنوب لبنان، منحلّاً، في وقت كان الاحتلال الإسرائيلي ما زال قائماً في منطقة الشريط الحدودي المحتلّ. ونتيجة الأوضاع غير المستقرة وغياب الجهة الرسمية المعنية بمسألة جمع النفايات وتنظيف الشوارع في البلدة، شهدت شوارعها تراكماً للمخلفات والنفايات الصلبة شوّه وجه المكان الأخّاذ الذي يلفّه طولاً "جبل الرّفيع" المَهيب وتخترقه جداول مائية صغيرة إلى جانب النبع الذي يسميه أهالي المنطقة "الخرخار" نسبة إلى مياهه الدفّاقة.
فكّرت إحدى نساء البلدة حينها بأنّ ما وصلت إليه عربصاليم من حال هو أمرٌ لا يُحتمل مطلقاً، بغض النظر عن أية عناصر أو أسباب موضوعية قاهرة. كانت السيدة زينب مقلّد، المعروفة بأم ناصر، مدرّسة لغة عربية مهتمة بالشأن العام، خطر لها أنّ بإمكان سيدات القرية انتشالها من حالها بواسطة حلّ بسيط وعمَلي، غير مكلف ويمكن البدء بالعمل به على الفور، وهو فرز النفايات من المصدر. وقد عبّرت أم ناصر في إحدى المناسبات عن علّة فكرتها بوضوح، وإن كان الأمر بالأصل واجب الدولة، "فحرامٌ أن يكون بلدنا وسخاً. بالنسبة لنا، هذا الجهد ضروري بغض النظر عن وجود دولة أو عدمها، فنحن ببساطة نشعر أنّ علينا تنظيف المكان الذي نعيش فيه".
لم تُضع مقلّد الوقت، فطرحت الفكرة على معارفها وصديقاتها من نساء البلدة، وما كان منهنّ إلّا أن باشرن العمل بفريقٍ أوّلي مكوّن من 13 امرأة، اتفقن فيما بينهنّ على فرز البلاستيك، المعادن، والزجاج في بيوتهنّ و"حاكوراتهنّ" (قطعة الأرض الصغيرة أو الحديقة المحاذية لبعض البيوت) في أكياس منفصلة، بعيداً عن النفايات العضوية، وذلك بغرض تقليص كمية النفايات التي تُرمى إلى أقصى حدّ ممكن. وبالتوازي مع ذلك، بدأن بنشر الفكرة والتوعية بأهميتها بين العائلات - والنساء خصوصاً.
النفايات في لبنان: أين "الكامورا"؟
16-08-2019
تقول السيدة خديجة فرحات، وهي من أوائل النساء اللاتي تحمسن للفكرة وعملن بها: "لم نكن نعرف ما معنى النفايات العضوية وسائر تسميات المفروزات. كنا فقط نعمل على أساس فرز المواد والأوعية والقناني عما هو طعام أو سائل يثير الروائح، لنحاول الإبقاء على هذه المواد جانباً بحيث لا تكون جزءاً من المشكلة. في مرحلة لاحقة، تعلّمنا المصطلحات التقنية المتعلقة بالفرز وسبله وما يتعلق به".
شكٌّ وقبول
"نحن لسنا في باريس"، قيل للنساء اللاتي أطلقنَ على أنفسهنّ بدايةً اسم "تجمّع نساء عربصاليم"، وقيل لهنّ أيضاً أنّ أفكارهنّ "من الفضاء"، أي أنها لا تناسب دولنا ومجتمعاتنا. اليوم، وبعد مرور نحو 27 عاماً على تلك البدايات العفوية والمتواضعة، صارت المجموعة مؤلفة من 50 امرأة بدلاً من 13، وصار يشترك في الفرز من المصدر مباشرة ما يزيد عن 90 في المئة من سكان البلدة حبّاً وطوعاً، في نتائج تشي بأنّ هذا المشروع يمكن فعلاً وحقّاً أن يكون "لمجتمعاتنا". تحوّل "تجمّع نساء عربصاليم" مع الزمن إلى جمعية رسميّة مسجلة تحت اسم "نداء الأرض"، استطاعت أن تجعل من البلدة النموذج الوحيد في لبنان للفرز المستمر والجدّي والفعال منذ 1995 إلى اليوم.
في يوم ربيعي مشمش في عربصاليم، تستذكر السيدة خديجة فرحات، نائبة رئيسة جمعية "نداء الأرض"، تلك المراحل الأولى لعملهنّ الميداني. "كان بعض الأشخاص يقولون لنا أننا نساء "مسترجلات"، نحاول أخذ مكان الرجال، حتى أنّ كثيراً من الرجال اعتبروا أننا نزايد عليهم، على أساس تصدّينا للمسؤولية الاجتماعية دون انتظار إذن من أحد". في ذلك الحين، استهجن قسم من الناس على أم ناصر (السيدة زينب مقلّد رئيسة الجمعية) - وهي صاحبة مكانة اجتماعية لكونها أستاذة في المدرسة – على أن تحمل المكنسة وتنظف الشارع. لطالما سمعَت مقلّد كلاماً من نوع أنّ كونها معلمة مدرسة فبالتالي "هذا الشغل ليس لمقامها"، كما تستذكر السيدة خديجة فرحات ضاحكةً أن والدتها كانت تعتب عليها أحياناً لنزولها من بيتها إلى الشارع للعمل في حملات تنظيف البلدة. لطالما ربطت فئة من الناس العمل بجمع النفايات بالأعمال "الوضيعة" التي لا تنال تقديراً مجتمعياً، في حين أن فرحات تؤكّد بأن تلك الوظيفة هي من أسمى وأهمّ الوظائف التي لا غنى عنها لتبقى الحياة مقبولة.
لكنّ نساء التجمّع استطعن تخطّي تلك الصور النمطية ومجموعة الشكوك والتثبيطات، بقناعتهنّ أوّلاً بما يقمن به، وتالياً بالدعم الغامر المقابل لتلك التشكيكات. تؤكّد فرحات أنّ دعم عدد كبير من أهالي البلدة لمشروع الفرز كان بمثل حجم الصدّ والنقد، بل أكبر منه وأعمّ، وهو ما شجّع النساء على الاستمرار. حتى أنه، بحسب قولها، فعندما بدأ العمل يأخذ أشكالاً أكثر جدّية صارت بعض النساء تلوم المجموعة الصغيرة من النساء على عدم إشراكهنّ وتكليفهنّ بمهام ضمنها، وعبّرنَ عن رغبة بالانضمام إلى المشروع. هكذا صارت الفكرة تستقطب بمجرد استمراريتها المزيد من الراغبات والراغبين بالمشاركة بعملية الفرز على كامل مساحة البلدة. "لو أن الأرضية الشعبية الحاضنة لم تكن سليمة ومتعاطفة ومتعاونة، لم نكن لنستمرّ منذ عام 1995 حتى اليوم"، تؤكد فرحات، مضيفةً أن أم ناصر تردد دائماً أنّ فكرتها لم تكن لتعني شيئاً لولا أنّ النساء حملنها على أكتافهنّ وبذلن المجهودات من أجلها، ولولا أنّ الأهالي أيضاً تبنّوها بحماس.
التوعية
ولكن، كيف يصل مجتمع صغير إلى الفرز شبه الكامل خلال سنوات قليلة، وكيف للعائلات أن تنخرط في مشروع ريادي لم يكن وارداً لديها من قبل ولم ترَ مثيلاً له في بلدات أخرى يكون لها مرجعاً تقلّده؟... إنّ مراحل تطور مشروع جمعية "نداء الأرض" مثيرة للاهتمام بحقّ، لكونها حالة نموذجية يمكن أن ندرسها لنفهم كيف يمكن لتدخّل اجتماعي على هذا المستوى أن يستمر.
كان لا بدّ أوّلاً من تعميم الفكرة والتوعية بشأنها. تذكر السيدة فرحات أن المجموعة الأولى من النساء لم يتركنَ مناسبة أو حفلاً إلّا وسعوا فيه للقاء أهل البلدة ونساءها بالذات لتقديم الموضوع: "كنا نستأذن السيدات بعد مناسبات الفرح والعزاء وغيرها من المناسبات العائلية والاجتماعية في البلدية والحسينية والجامع والبيوت. نطلب منهنّ إعطاءنا ربع ساعة مثلاً في نهاية المناسبة الاجتماعية لنقترح الفكرة ونشرح أهدافها وندعوهنّ للانخراط فيها". هكذا، ومع الوقت، صارت الفكرة حاضرة في كل بيوت البلدة وعلى كل لسان، من خلال التواصل المباشر والنقاشات الحيّة – قبل وجود وسائل التواصل الاجتماعي أو سواها.
الاستمرارية
في الأعوام الثلاثة الأولى (بين 1995 و1998)، كان "تجمّع نساء عربصاليم" يقوم بنشاطه بشكل فردي وبالاعتماد على الموارد الذاتية تماماً. نمت المجموعة خلال هذه السنوات، وعمدت مع الوقت إلى دعوة بعض الصحافيين لتغطية نشاطها، خصوصاً خلال حملات التنظيف الواسعة التي كانت تقوم بها في شوارع البلدة ومحيطها وتلالها.
التفتت أم ناصر مع الوقت إلى ضرورة حمل صفة رسمية وتسجيل الجمعية لتسهيل حصولها على تمويل، وبالتالي لتيسير استمرارية عملها، خصوصاً مع بروز العائق المادي عندما كبر المشروع وصار لازماً تأمين حدّ أدنى من المواد المتعلقة بالفرز والتوضيب لنفايات البلدة بأكملها. وهكذا كان، فقد حصلت الجمعية على ترخيص رسمي تحت اسم "جمعية نداء الأرض"، بعلم وخبر رقم 123/ 1000 د في العام 1998، لتبدأ مسيرة أكثر مأسسة وعملانية.
بعد تسجيلها، تمكّنت "نداء الأرض" من الحصول على أوّل تمويل لها من الأمم المتحدة بقيمة 28 ألف دولار. في الموازاة، قام المحافظ الجديد – المعجب هذه المرة بجهود السيدات - بمنح الجمعية قطعة أرض صغيرة داخل بلدة عربصاليم من المشاع لغرض استخدامها كمركز لفرز النفايات وتوضيبها وترحيلها، بعد أن كانت نساء المجموعة يضعن المفروزات في أرضهن الخاصة جنب بيوتهنّ إلى حين تصريفها أو بيعها للمعامل. كانت تلك لحظة مفصلية للجمعية في مسيرة تطوير عملها.
تشير السيدة خديجة فرحات إلى مكان الفرز المذكور، ثمّ إلى قطعة أرضٍ صخرية وعرة ملاصقة لها. "هذه المساحة كانت شبيهة تماماً بهذا الوعر. لقد قمنا بتمسيدها وتهيئتها بأنفسنا لتصير بهذا الشكل"، ويزداد فخرها بالمكان حين تسألني فور دخول معمل الفرز: "هل تشمّين رائحة ما؟"، وهي تعلم يقيناً بأن لا روائح مزعجة نهائياً في المكان. تقول فرحات بأن السبب يعود لنجاح عملية الفرز من المصدر في البلدة وفي إخلاص النساء فعلاً لهذه العملية، فهنّ يعلمنَ أنه ينبغي رمي البلاستيك والمعادن والزجاجيات بعد تنضيفها من بقايا الطعام والشراب العضوية ويعملن بأمانة متناهية تجعل أكوام النفايات مجرد مواد مجموعة نظيفة وغير مؤذية، جاهزة للكبس والنقل. ثمّة ماكينة لكبس البلاستيك وتكديسه ليسهل توضيبه ونقله، وهناك آلة أخرى لضغط الورق، تمّ التبرع بهما للجمعية، ويشغِّلهما عامل في المركز، يعمل مع الجمعية منذ سنوات طويلة ويحافظ على حسن سير العمل.
يقع معمل الفرز على مقربة من مدرسة عربصاليم الرسمية، في بقعة هادئة على بعد دقائق قليلة من ساحة البلدة. هو بمثابة "هنغار" كبير تنتهي إليه كل المفروزات ليتم تقسيمها وضغطها ومن ثم توضيبها لإرسالها إلى معامل التدوير. وُضع سياج لـ"البورة" (بؤرة الفرز) بعد تمسيد الأرض، وبقيت المساحة مكشوفة، إلى أن توفر للجمعية ما يكفي من المال لبناء المستودع. تقول السيدة فرحات: "قبل أن تتوفر لنا أي إمكانيات، كنت أنا وصديقة لي نقود سياراتنا الخاصة لنمرّ على بيوت الضيعة ونأخذ الفرز منها إلى "البورة". كنا نحن العاملات اليدويات في تلك السنوات، إلى أن استطعنا بعد الحصول على تمويل الاتفاق مع سائق بشكل مياوم. في تلك الفترة، كنتُ أنا أو نساء أخريات ندورُ معه على البيوت، لأننا كنا نعلم أن بعض البيوت لن تقبل بدخول رجلٍ غريب إليها، فكنا في تلك الفترة ندخل لأستلام الفرز من بعض البيوت، ليقوم السائق بعدها بتحميله في الشاحنة الصغيرة وتوصيله" .
رغم حصولها على بعض الدعم، فما زال نحو 70 في المئة من عمل الجمعية غير مدعوم سوى من الجهود التطوعية والبذل الذاتي. لا تجد النساء حرجاً في ذلك، على الرغم من أهمية وجود التمويل للاستمرارية، بل على العكس من ذلك تتكلّمن بفخرٍ عن العمل بمواردهن الذاتية. "نحن نعرف جيداً أن هناك بلديات وجمعيات من المستحيل أن تفعل ما نفعله نحن بدون ميزانيات كبرى، وعلى مدى 27 عاماً بلا توقف. وإذا نظرنا لواقعنا، فحتّى الدولة اللبنانية نفسها لم تقدر على حل أزمة النفايات في أكثر من محطّة طارئة وفي حالات الرخاء والشدة على السواء"، تقول خديجة فرحات.
في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي
من المهمّ أن نتذكّر بأن مبادرة نساء عربصاليم للفرز جاءت في وقتٍ كان الاحتلال الإسرائيلي ما زال قائماً على مناطق واسعة من جنوب لبنان. فما تُسمّى بـ"الحارة التحتا" في عربصاليم كانت ترزح تحت الاحتلال عام 1995، بحيث صارت البلدة تنزح صعوداً نحو قرية جرجوع المجاورة، حتى صار حوالي نصف أهالي عربصاليم يسكنون جرجوع. وبحكم هذا الاختلاط، دخلت قرية جرجوع كذلك في مبادرة فرز النفايات الصلبة من المصدر مع عربصاليم بتنظيم من النساء، وبقيت كذلك حتى العام 2000 – تاريخ تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. ومع عودة البلديات إلى القرى والبلدات الجنوبية، طلبت بلدية جرجوع أن تتولى بنفسها الفرز ضمن نطاقها البلَدي، لكن وعلى الرغم من ذلك، بقي نحو نصف أهالي جرجوع يتعاملون في فرزهم مع جمعية "نداء الأرض".
تستعيد المتطوعات في الجمعية إحدى حملات تنظيف شوارع البلدة في التسعينات الفائتة، حيث بدأ القصف الإسرائيلي على البلدة، وصودف مرور أحد الصحافيين من جريدة النهار اللبنانية، فلفته منظر النساء المنهمكات بلملمة عدة التنظيف والمفروزات، وكتب في أثنائها مقالاً بعنوان "نساء عربصاليم ينظّفن قريتهن تحت القصف"، أدّى لأن يذيع صيتهنّ في البلد أكثر من ذي قبل. كما يتذكرن أنّ مرحلة تهيئة مركز الفرز في العام 1998 كانت تشهد قصفاً وتهديداً من الموقع الإسرائيلي في العدّوسية، الذي كان يقع على تلّة مشرفة على البؤرة. "كنا نعمل غير آبهات بهم، فالإسرائيليون كانوا دائمي التهديد، يصوبون ناحيتنا لكي نفزع وننكفئ".
النتائج
شجّعت التجربة قرى عديدة حول عربصاليم. كانت تأتي إلى الجمعية بعض المجموعات من حُومين وكفررمّان وغيرها من القرى والبلدات لتعلّم طرق الفرز. كما أنّ هناك أشخاص من مناطق مختلفة يأتون بالمفروزات من قراهم بشكل فردي إلى الجمعية. تتعاون الجمعية كذلك مع المدارس المجاورة لبلدة عربصاليم في كل من عين قانا وكفرجوز والنبطية، فصارت هذه المدارس تأتي بفرزها لمركز "نداء الأرض"، كما أن مركز الفرز صار يتضمّن قاعة محاضرات مجهّزة تستضيف وفوداً من القرى الأخرى والمدارس لإعطاء محاضرات عن الفرز والتدوير. "أمّا لماذا يأتون إلينا، فباعتقادنا أن غياب أي آليات رسمية لإدارة هذا الموضوع وتبنّيه بشكل جدّي يضعنا مجدداً في صدارة المشهد شبه منفردين في المنطقة"، تقول فرحات.
بعد العام 2000 وإثر عودة البلديات، كان مشروع الجمعية قد تمكّن بنجاح من استقطاب مشاركة ما يزيد عن 90 في المئة من أهل البلدة بفرز النفايات من المصدر. تفتقد البلدة اليوم – من جديد – إلى وجود مجلس بلديّ فيها. فالمجلس المنتخب عام 2016 بحكم المنحلّ نتيجة خلافات انتخابية بين أعضائه المنتمين إلى حزبي أمل وحزب الله، وتعود في تسيير أمورها بالتالي إلى المحافظ والمعنيين بالشأن العام من الأهالي والجمعيات. وبحسب إحصاءات البلدية السابقة، فإن تعداد السكان في البلدة البالغة مساحتها نحو 8 كيلومتر مربّع هو نحو 12 ألف شخص، حوالي 7000 منهم سكان ثابتون. تنتج البلدة نفايات بمقدار 6 طن سنوياً، نحو 80 في المئة منها عضوي، والباقي (نحو 1.2 طن) هي نفايات صلبة، تقوم جمعية "نداء الأرض" بفرز نحو 70 إلى 80 في المئة منها بشكل كامل.
أمّا الجهات التي من الممكن نقل أو بيع المفروزات إليها في لبنان فمحدودة للغاية، فمعامل التدوير شبه غائبة، وأكثر من معمل بلاستيك مثلاً يصرّون على أنّ كلفة شراء المواد الأولية في هذه الحالة أقلّ عليهم من كلفة معالجة وتدوير البلاستيك. لهذا السبب، يتمّ بيع معظم الفرز خارج لبنان، كما وجدت الجمعية حلولاً للتصريف من نوع أكثر بساطة، كتشجيع إعادة الاستخدام عدة مرات وإتاحة المفروزات لتجار الخردة الفرديين. فتجربة النساء هنا تلخّصها خديجة فرحات بمبدأين أساسيَين: الإصرار على إيجاد الحلول بأقل الموارد المادية، والتأكيد على الفرز من المصدر مباشرة عوضاً عن تجميع النفايات وفرزها لاحقاً – وهي تجربة أثبتت فشلها في البلدات التي حاولت ممارستها نتيجة التعقيدات المتعلّقة بها وكمية العمل الإضافي التي تتطلّبها.
"نساعد أنفسنا"
"إذا لم نساعد أنفسنا، فلن يساعدنا أحد"، تعلن إحدى منشورات جمعية "نداء الأرض" على صفحتها على فيسبوك. تتكلّم النساء عن أم ناصر بخير وحبّ. هي اليوم سيدة ثمانينية، لا تزال تمارس نشاطها الاجتماعي وتتحمس لنشر الفكرة، وهنّ بتنَ يعرفن أنّ باستطاعتهنّ لا أن يصغن الأفكار فقط، بل أن يضعنها موضع التنفيذ بشكل موسّع. يدفعهنّ جميعاً في ذلك محبتهنّ البيّنة - في حديثهنّ وعملهنّ - لبلدتهن وطبيعتها ناسها.
صانعات الحياة في العراق
19-04-2022
يمنيّات يخلقن واقعاً موازياً في ظلّ الحرب
31-03-2022
الآن، في أيّام الشدة، وبالتزامن مع الأزمة الاقتصادية العنيفة التي يعيشها لبنان، تبرز تجربة هؤلاء النساء كواحدة من الحالات القليلة المضيئة التي تثير التأمّل من نواحٍ عدة: أولاً، لناحية تعلقها بالعمل المحلّي ضمن إطار منطقة طرفية ومهمّشة. ثانياً، لكونها مبادرة عضوية وشعبية نابعة فقط من رغبة السكان بإيجاد حلولٍ لمشكلة تواجههم. وثالثاً، وبنفس الأهمية، لكونها مبادرة نسائية بالكامل، فكرةً وتنفيذاً، تعكس نفوذ ودور سكان البلدة النساء في ميدان العمل الاجتماعي والبيئي وقدرتهنّ على إدارة الشأن العام.
محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.