تتراجع مدرسة "دولة الاستقلال" أو "مدرسة الجمهورية''، وهي العنوان الأبرز لتجربة التحديث التونسية المميزة في العالم العربي، وتتآكل. يتفق الجميع على أنها لم تعد مثلما كانت عليه، وقد أصاب مفاصلها خللٌ كبير. ومَواطن الخلل كثيرة. تطفو بين الحين والآخر مؤشرات تشي بأن المدرسة تنهار ويتراجع دورها في ترسيخ القيم الوطنية وتلك الأخرى الكونية، بعد أن اختزلت في إطار ما يسمى ''الإصلاحات التربوية'' إلى مجرد جهاز لصناعة وإعادة إنتاج الجهل السائد. يحدث ذلك في ظل سيرورة اللامأسسة الحالية التي أعادت تشكيل المؤسسات الاجتماعية في اتجاه أفرغها ليس فقط من دور ''المراقبة والعقاب'' ولكن أساساً من محتواها القيمي. فالمدرسة التي راهنت عليها نخبة الاستقلال لمقاومة الأمية والجهل والفقر، ضمن مشروع كبير عنوانه ''تحديث المجتمع وتحقيق التنمية"، تحولت بعد الانصياع المذل لتوصيات البنك وصندوق النقد الدوليين إلى علامة "لمرض" مزمن مسّ النظام التعليمي برمته، تؤكده التقارير الدولية مثل تقرير البرنامج التقييمي التابع لـ "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" الذي يصنف تونس في المرتبة الخامسة قبل الأخيرة من ضمن 65 دولة، فيما يتعلق بقياس كفاءة النظم التعليمية والقدرات الاستيعابية للتلاميذ في المواد العلمية. أما من ناحية المشروع المجتمعي، فنجد أن الإصلاحات المتتالية وخاصة منذ التسعينات لم تفضِ إلى صناعة ''نخب" تؤمن بالحداثة كرؤية ومثل، بل على العكس من ذلك، فالفكر العصابي المتشدد والغيبيات ومظاهر '"رثة" أخرى تجتاح المدرسة التونسية، فتزداد أعداد تلاميذ المدارس وطلاب الكليات المنخرطين في الحركات الجهادية التي تحارب في سوريا وليبيا.
من "مدرسة المجتمع" إلى "مدرسة السوق"
لا أحد اليوم في تونس يريد نزع السحر عن المؤسسة التعليمية والنظام التعليمي وتفكيك آليات اشتغاله في الوقت الذي يطالب فيه الجميع بالإصلاح، وهو ما يعني أن مسألة ''إصلاح التعليم'' لم تتجاوز بعد مرحلة الشعارات وردود الفعل الآتية بمعظمها من جيل يأخذه الحنين إلى ''مدرسة بورقيبة'' أو مدرسة الاستقلال التي كانت في الأصل عنواناً لإيديولوجيا ''دولة الرعاية الاجتماعية'' التي صنعت ''مجتمع المقروضة'' بعبارة الهادي نويرة آخر وزراء العهد البورقيبي، أو بلغة أخرى مجتمع الطبقة المتوسطة. ويعني هذا أن المدرسة قد لعبت دوراً تاريخياً في إنتاج المجتمع التونسي المعاصر بكل ما تحيل عليه كلمة المجتمع من دلالات تتعلق بالحداثة والعلاقات التعاقدية، والقضاء على "العروشية" (القبَلية). إلا أن سياسة ''جمهرة التعليم'' ستصطدم بحدودها في ثمانينات القرن الفائت، مع تراجع الدولة التدريجي عن التكفل بالمسألة الاجتماعية وبداية تآكل العقد الاجتماعي، لتجد بذلك المدرسة التونسية نفسها في قلب ''الآثار اللامتوقعة" لخيارات وسياسات متعمدة، تبدأ أولا من الانزياح بالبرنامج المؤسساتي للمدرسة القائم على ترسيخ "الشخصية التونسية" وإنتاج المعنى وضمان التماسك الاجتماعي وفق مبدأ عمومية التعليم ومجانيته، إلى برنامج ''قوى السوق"، مما حوّل المدرسة إلى جهاز لترسيخ كل أشكال اللامساواة.
فسياسة "جمهرة التعليم"، مورست بمنطق تحويله إلى سلعة في "السوق" وأدت إلى نتيجة "محوَّرة" (أو منحرفة، أي تعاكس ما أعلن كنوايا، وتبدو غير متوقعة) وهي تعميق المنافسة الشرسة، والتسبب سنويا بدفع 120 ألف تلميذ إلى الخروج المبكر من التعليم ووضع 400 ألف خريج جامعي ضمن جيوش العاطلين عن العمل. وقد أدى هذا التآكل المنظم للمدرسة العمومية إلى ظهور استراتيجيات عديدة تتخذها الطبقات المتوسطة لضمان نجاح أبنائها وإنقاذهم ''الاصطناعي" من كل ضروب الفشل المدرسي المحتملة. فاتجهت بعض العائلات إلى الدروس الخصوصية أو دروس الدعم، وهي ظاهرة غضت وزارة التربية عنها الطرف أملاً في تحجيم التحركات المطلبية والاجتماعية المتتالية التي تقوم بها نقابات التعليم، وهي من أعنف وأقوى النقابات المنضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل. بالإضافة إلى دروس الدعم، يزدهر في تونس سوق المدارس الخصوصية التي يتجه إليها جزء من أبناء الفئات المتوسطة العليا والفئات الثرية، وقد وجدت في هذه المدارس جدارا فاصلا بينها وبين الفئات الفقيرة، وكذلك لعدم ثقتها بالمدرسة العمومية، بالإضافة إلى الرأسمال الرمزي الذي يضيفه إليها تعليم أبنائها في مدارس خاصة حتى وإن لم تتبين بعد المردودية الحقيقية للتعليم الخاص.
بفعل حيلة من ''حيل التاريخ'' إذاً، تصبح سياسة جمهرة التعليم المدعومة بإرادة تحقيق المساواة في الفرص، ضربا من ضروب تَحوّل الطلب على المدرسة إلى ''سوق" يتعامل فيه التلاميذ وعائلاتهم وفق ما تمليه ''مصالحهم"، لتصبح حينئذ العلاقة بالمدرسة علاقة أداتية تحكمها الفاعلية والنجاعة والاستثمار في المواد والشِعب المربحة. ومن هذه الزاوية يقع استبعاد العلوم الاجتماعية والمواد الأدبية من دائرة السوق، لأنها تبدو غير مربحة، بل وغير ذات جدوى، حتى صار التصور السائد إزاء شعبة الآداب أنها مستودع الفاشلين. وتقع مادة الفلسفة في آخر اهتمامات تلاميذ شعبة العلوم.
وفي الوقت ذاته الذي يدين فيه الغالبية النظام التعليمي الحالي، نجدهم يصمتون حين يتعلق الأمر بمصير أبنائهم. وهو ما يقوي من دائرة ''النفاق'' السائدة في تونس في ما يتعلق بتغيير المنظومة التعليمية التي بقيت حتى الآن منفصلة عن السياقات التي أفرزتها ثورة "14 يناير 2011"، وهي ما زالت مجرد يافطة لنرجسيات وزراء يديرون المسألة التعليمية ليس من منطلق رؤية ومشروع تربوي، بل من منطلق إدارة لليومي إلى الحد الذي يصبح فيه تفقد الوزير لمراحيض المدارس استعراضا لـ "إنجازات" وحفاظا على "مكتسبات". ويختزل الأستاذ والمعلم إلى مهني وتقني ومقاول في أحيان أخرى، بعد أن كان ''صاحب رسالة'' وفاعلاُ في نشر قيم الجمهورية والتحديث والعقلانية.
انهيار المؤسسة
لطالما آمنت فئات كثيرة في المدرسة بوصفها مصعد الترقي الاجتماعي الذي يمكّن من هم في أدنى السلم من الخروج من حالة العوز والاندراج في الطبقات الوسطى، وكذلك بوصفها فضاء مميزا لتعلم جملة من القيم المتمثلة بالعقلانية والجد والانضباط، وهي قيم ارتبطت بسردية بناء الدولة الوطنية. هذه السردية تتراجع وتتآكل، رغم الشعارات السياسية المنادية بهيبة الدولة وضرورة استلهام اللحظة التأسيسية. فخطاب الـ "ينبغيات" والروح الأبوية التي لا زالت تتعامل بها المدرسة التونسية، فقدت معناها في ظل تغير العلاقات البيداغوجية واهتزازها. فالأستاذ عليه أن يشرك ذاتية التلاميذ في العملية التعليمية وهي مهمة تبدو صعبة وشاقة بسبب عدم توفر بنية تحتية ملائمة في جل المدارس، بدءا من الجدران المتآكلة وصولا إلى انعدام مساحات الترفيه في عالمها، وهو ما أفقد العملية التربوية شرعيتها وحوّل المدرسة إلى مكان لإنتاج العنف المتبادل. المدرسة ترفض حتى الآن الإصغاء إلى صوت التلاميذ، ليس بوصفهم متعلمين ولكن بوصفهم ذواتا لها أحلام وطموحات لم تعد هي قادرة على تغذيتها بل صارت في كثير من الأحيان محبطة ومدمرة لها. حينها يصنع التلاميذ فضاءاتهم الخاصة المضادة لعالم المدرسة الصارم والمتكلس.. وكصرخة في وجه النظام وإدانة للمدرسة التي فقدت قدرتها الإدماجية وقدرتها على أن تتحول إلى فضاء حياتي ومشروع مغرٍ للذاتيات الفردية الجديدة.