كنت صغيرة وأترك في البيت لرعاية أخويّ ليالي زيارة أبي وأمي لبيوت الأصدقاء للاستمتاع بغناء الشيخ إمام المحظور في القنوات الرسمية حتى اليوم – شكرا للذاكرة الجماعية وتسجيلات الكاسيت والساوند كلاود. فكلماته ما زالت تحمل غضبنا وأحلامنا..
قبلت الفرصة المتاحة لي لأكمل دراستي العليا في الولايات المتحدة الأمريكية. كانت أول رحلة لي أغادر فيها أرض الوطن وأبقى بعيداً عنه لمدة طويلة. غياب قد يطول لسنة كاملة قبل استطاعتي العودة في زيارة أولى.
أحاسيس قوية ومتشابكة لفراق الأهل، البيت، والبيت الأكبر. اختلطت مشاعر الرهبة من المجهول، الشوق، الحزن للفراق، ومن تغير الأشياء في غيابي. هالني ما يمكن فقده في غيابي. أحسست بأني أريد وداع من كوّنوا رموز شبابي ووعيي. أردت زيارة الشيخ إمام.
طلبت مساعدة صديقتي عزة لصداقة والدتها محسنة توفيق مع الشيخ ومعرفتها لمكان إقامته. انطلقنا بعد ظهر يوم إلى حوش قدم. سألنا عن الشيخ في الحارة، عرفه الكل، ودلونا إلى دكان البقال الذي كان يجلس دوماً أمامه. حين علم الشيخ بمقصدنا قام واستضافنا في المقهى أمام منزله. جلسنا ثلاثتنا نحتسي الكوكاكولا. لم أكتف بذلك. طلبت منه زيارة بيته. كان محرجاً للغاية من غرفته المتواضعة ولكنه وافق بعد إصراري.
صعدنا السلالم القديمة. بيته مكوّنٌ غرفتين صغيرتين ليس بهما من الأثاث سوى سرير عريض وبعض الكراسي الخشبية. ملابسه كلها معلقة على ماسورة خشبية بعرض الحائط - بجانبها علق العود. وشباك صغير.
مرت لحظات من الصمت العميق. استجمعت شجاعتي وسألته إن كان يريد أن أصف له المنظر من الشباك. وصف لنا هو المئذنة العثمانية التي تجاوره وأضاف أنه أذّن للصلاة منها في شبابه ومن جامع آخر بنفس الحي.
أفشت عزة بسري. قالت له أنني بدأت تعلم العزف على العود فأصر على إنزال عوده المعلق وطالبني بالعزف. تصاعدت الدماء إلى وجهي وأذني. لم يرهم الشيخ وإن كنت متأكدة أنه أحس بتوتري. لم أكن سوى تلميذة مبتدئة. دس بالعود بين ذراعي وبدأ في توجيه النصح في مسك الريشة. جاملني بقوله أنني بقليل من التمرين سأصبح عازفة ماهرة.
لحظات من صمت أحاطت بنا للمرة الثانية. كنت أتمنى أن يعزف هو لي. لي وحدي- أنا - أزور الشيخ إمام في بيته - أنا أودع الشيخ - أنا مسافرة وحدي. فجأة تحقق الحلم. سألني عن أغنيتي المفضلة. بتلهف طلبت أن أسمع "حلوا المراكب" وغناها لي الشيخ. بعدها غنى لي أغنيته هو المفضلة.. أغنية عشق مصفاة: "عشق الصبايا"! كان مبتسماً وهو يقول "شوف الحكاية يا وله، شوف الحكاية.. عشق الصبايا يا وله طول معايا".
بعد أن انتهى وقفنا ثلاثتنا. وقفة الوداع. حدث ما لم أكن أتخيله. استند الشيخ على كتفينا أنا وعزة. ارتعش وارتعشنا. بكى وقال "أوعوا تنسوني.. أوعوا تنسوني". كانت لحظة مرعبة. لجمالها. أجبت أنا "إحنا ما نقدرش ننساك انت اللي ما تنساناش، حتوحشنا".
نزلت السلالم وقدميّ تصطك ببعضهما. سافرت بعدها بيومين.
حين عدت بعد سنتين حاصلة على شهادتي، كانت أمي رحلت عن دنيانا في حادث سيارة. صرت مسؤولة عن بيت كبير وأخوين. لم أعد أستطيع أن أكمل دروس العود كما أوصاني الشيخ.
بعدها بسنوات كثيرة رحل عنا الشيخ.