قُمْرَة

زجاج استديو التصوير الذي ثبتناه بعرق أربع سنوات، يشبه تماماً زجاج المنزل الذي رفض أن يستقر أو يتفتت، فبقي متشققاً كأرواح المحتمين به التي لم يخترها الموت ونسيتها الحياة، لتبقى عالقة في برزخ يبدو أن موعد انقضائه لا يزال بعيداً. في رابع أيام الحرب وجدتُ "بأسي" في الفن الذي اختاره قسم من أبناء وبنات اليمن عوضاً عن السلاح. وهذا تركته قبائلهم لاثني عشر شهراً إبان انتفاضة 2011، لكنه عاد
2015-09-03

سارة جمال

كاتبة من اليمن


شارك

زجاج استديو التصوير الذي ثبتناه بعرق أربع سنوات، يشبه تماماً زجاج المنزل الذي رفض أن يستقر أو يتفتت، فبقي متشققاً كأرواح المحتمين به التي لم يخترها الموت ونسيتها الحياة، لتبقى عالقة في برزخ يبدو أن موعد انقضائه لا يزال بعيداً. في رابع أيام الحرب وجدتُ "بأسي" في الفن الذي اختاره قسم من أبناء وبنات اليمن عوضاً عن السلاح. وهذا تركته قبائلهم لاثني عشر شهراً إبان انتفاضة 2011، لكنه عاد يَدكّ كل ليلة وأقيس بأسه بمدى تأرجح السرير العتيق، يفك قليلاً مدى الصواريخ مساميره كل ليلة.
تماماً كما اتصل بنا عبد الرحمن حسين إبان نشوب النزاع المسلح في أيلول/سبتمبر 2011 لنصور أول فيديو قصير لما أصبح لاحقاً تعاونية "سند اليمن" التي تصارع يومياً لبقائها مساحة للفن بمواجهة الحرب منذ أربع سنوات، عاود عبد الرحمن الاتصال بنا في يوليو/تموز 2015 ليحدثنا بشغف بالغ عن الحجرة المظلمة ذات الثقب الصغير بداخل العين التي درسها ابن الهيثم قبل قرون وأسماها "قمرة". شرح، متجاهلاً صوت المضادات الأرضية أن العين البشرية بحجرتها ذات الثقب العاكس للضوء هي ما ألهمت صناعة الصور والكاميرا لاحقاً.
في فترة قياسية، بذل كل جهده فريق "سند اليمن"، تلك التعاونية الإعلامية التي تأسست عام 2011 في ظل النزاع المسلح، وبقيت واقفة من دون أي دعم حتى أصبحت قادرة على خلق شراكة متكافئة مع من يؤمن برسالتها. جهد تصميم مخيم "قمرة" لتدريب شبان وشابات يمنيات على صناعة الأفلام الوثائقية في فترات الحروب والنزاعات. واقترح المركز الثقافي البريطاني المشاركة بمساندة الفكرة بالدعم اللوجيستي.
بدت الطريق إلى الاستوديو أقصر كل يوم، بوجود عبد الرحمن وسارة إسحاق. وعلى الرغم من صداقتنا التي كبرت مع تعاظم الإقصاء والتهميش، فلا زلت أستقطع الوقت لمشاهدتهما يقودان تفاصيل العمل بذهول طفلة ترى قوس قزح للمرة الأولى، وتتساءل كيف استطاعا إيصال اليمن إلى ترشيحات الأوسكار بفيلم "ليس للكرامة جدران" بعدما أفرغ بلدهما من دور السينما قبل أكثر من عقدين.
قمرة أصبحت ثقب الضوء الصغير الذي اتسع ليحتوي حنان المحويتية ومحمد التعزي وشهدي العدني، يعملون جنباً إلى جنب في تدريب من قصدونا حاملين الكاميراً عوضاً عن السلاح. قمرة لم تجبرنا على تبرير تعلق العدنيات اللاتي ولدن في صنعاء على حب مدينتين اجتهدت الحرب على أن لا يجتمع حبهما في قلب، فكنت أنا ورويدا ويسرا بمأمن عن التخيير القسري البليد بين أزقة كريتر عدن وأسوار صنعاء القديمة، التي كأنها احتمت من الدمار في ذلك الاستوديو الصغير الأوسع من المدن والقرى الموقفة وظيفتها كوطن حتى إشعار آخر. كانت اليمن التي ننشد. أربعة عشر يوماً عمل فيها الفريق لأكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً، جعلت من صوت الانفجارات وظلمة الطرق مجرد حدث عرَضي. لا تفشل أغنية أو فيلم في ترميم الفجوات التي يحدثها في قلوب غضة لا زالت قادرة على أن تقرأ بين الأسطر وتروي قصة الحرب عبر قصص من يقاومن ويقاومون هذا الموت العبثي، جامعين من اللاشيء فرصاً للبقاء.
بين صفوف تاريخ الفن والحرب، ودروس الإعداد التصوير والإخراج، اتسعت قمرة لفلسطين وسوريا ولبنان بفنانيها الذين يعملون تحت نيران الحرب وقبلوا الحديث عن "تجارب التصوير والمسرح التفاعلي في مناطق النزاع" مع متدربي ومتدربات قمرة. وهو الحديث الذي تحول في أحيان كثيرة إلى فضفضة تروي الوجع والرغبة في الاستمرار، بين من جمعهم اتصال على شاشة الكمبيوتر ولكن ألفتهم الخيارات التي بدا لهم جميعاً أن مرارتها هي ما جعلت الحديث مع أصحاب تجربة الفن مقابل الاقتتال حميمياً وشغوفاً للحد الذي ملأنا جميعاً بمخزون من الحب سيكفينا أكثر من مخزون الغذاء الذي بدأ ينضب في بيوتنا.
ثمرة قمرة كانت أربعة أفلام قصيرة تم تصويرها وإخراجها في ثمانٍ وأربعين ساعة، وعرضت في المقهى المجاور للاستديو، في ليلة أضاءتها النيران الصاعدة إلى السماء، إلا أنها أصبحت غير مرئية وسط دموع وقهقهات الحاضرين الذين لبوا الدعوة في تعطش لتسطيرٍ مختلف ليومياتهم عن ذلك الراصد لعدد البوارج والصواريخ في كل نشرة أخبار.
ثمرة قمرة الأهم كانت توحد المتدربين والمتدربات الروحي بالرواية الإنسانية للحياة والعدالة الاجتماعية في وجه الدمار والقهر. كانوا يشعرون بأنهم ليسوا وحيدين وأن روايتهم المختلفة ليوميات الحرب، عبر قصة الإنسان لا الأرقام، أصبحت أقل اغتراباً لدى سماعهم صوت نينا سيمون وهي تغني ضد الفصل العنصري في الولايات المتحدة قبل نصف قرن.. شعروا بأن صوت فيروز جعل الحرب اللبنانية أقل صقيعاً، تماماً كما اقتربوا من العراقي الذي يشبه جاراً يحاول فتح دكانه كل صباح في أحد أزقة باب موسى في تعز رغم الحصار والقصف وهم يشاهدون وثائقياً عراقياً يشبه ذلك الوثائقي الفلسطيني الذي يقاوم الجبروت اليومي بمسرحٍ يحرس شغف أطفال جنين للحياة. كانت حركة أعينهم المتعبة وهي تلاحق المشاهد والألوان على الشاشة في فترة عرض وثائقيات الحروب من مناطق شتى على البسيطة، تشبه دوران ناسك صوفي تجرّدَ من كل مقومات التشتيت. التحموا مع الصوت والصورة التي تحكي قصة ناجٍ من الإبادة الجماعية في رواندا، في مشهد بصري متقن كلوحة وثقت مكمن الثورة الفرنسية في امرأة نصبت العلم فوق الركام، مروراً بأشعار غزال المقدشية، ثائرة القرن التاسع عشر ضد نظام الإقطاع في قريتها الجبلية اليمنية، التي تمكنوا من ربط تعابيرها تلقائياً مع قصائد هنودٍ حمر أُحْرقت خيامهم وبقيت قصائدهم تذكّر الوديان بسكانها الأصليين، وانتهاءً بصورة التُقِطَت لفريق طبي من الأفارقة الأميركيين وهم ينقذون حياة رجل يرتدي ثياب الكو كلس كلان في القرن الماضي.
أفلام قمرة الأربعة والوثائقي القصير الذي سجل التجربة، أصبحت قمرتي الخاصة التي كلما حدقت بي الوحشة القادمة من أخبار المعركة التالية، احتميت بها مذكِّرة نفسي بما رواه لي أحد المتدربين الذي انقسم أقرباؤه للقتال مع كِلا الطرفين، مخلفين الشك في جوف شاب بقي يعبث بكاميرته الصغيرة، لتقضي قمرة على بذور الشك وتعيد إحياء ما أسماه الرغبة في البقاء على قيد الحياة ليروي القصة ـ قصتنا ـ بما يضمن لنا البقاء حتى يتعب الرحيل وتتسع بقعة الضوء لتنير كل الحجرة المظلمة.
برزخنا وإن طال، هو قمرة بها فتحة تتسع لإدخال الضوء الذي لولا العتمة بداخل أعيننا لما كان مجرداً بما يكفي لتعكسه. كل يوم أرى فيه ما أراه أصبح بالنسبة لي مادة لخزن الصور في عيني البشرية التي ألهمت صناعة الكاميرا والتي لا يزال متدربو ومتدربات قمرة يحملونها بعد شهرين من انقضاء المخيم الذي خلّف تركة ستكون قوت الأمل، حتى ينتهي برزخ اليمن الذي باتت أكبر التحديات المصاحبة له هو حراسة الروح من عواصف الحقد والحقد المضاد.. وحتى يصمت ضجيج ذخيرة المعسكرات المتقاتلة.

Comra | قمرة from SupportYemen on Vimeo.

للكاتب نفسه

نزيف

سارة جمال 2016-06-27

"تقصم الظهر"، أكثر تعبير كانت تستعمله أمي لتصف حقيبتي منذ الدراسة الابتدائية.. أمي حاولت بشتّى الوسائل أن ترفق بي من الحقائب التي كانت تكبر عاماً بعد عام حتى أصبحت مشاويري...