أثر الفراشة: إبراهيم النبراوي نموذجاً

لو اعتبرنا ما جرى لابراهيم النبرواوي ومعه، "كان من المفترض" أن تصبح مصر واحدةً من أكثر دول العالم إحرازاً لجودة التعليم وفعاليته وتلبيته لحاجة البلاد. لكن، تلك اللحظة المتوهجة أفلتت، ولم نستطع بعد ذلك أن نمسك بتلابيبها. واليوم، فجودة التعليم في مصر متدنية.
2022-02-17

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
لوحة لـستريكالوفسكي (1829)، وعنوانها: أول درس تشريح في مصر. اللوحة اُستخدمت كغلاف لكتاب خالد فهمي «السعي للعدالة: الشريعة والطب الجنائي في مصر الحديثة»، وهي من مقتنيات متحف تاريخ الطب، بالقصر العيني

عندما شرعت بالكتابة عن إبراهيم النبرواي، صادفتني معضلة حقيقية. ذلك أنه إذا افترضنا (نظرياً) امتداد خط التعليم على استقامته ابتداءً من تلك اللحظة التي بدأ فيها بشكل منظم ونظامي في مصر، في زمن الوالي محمد علي، فإن مصر "كان من المفترض" أن تصبح واحدةً من أكثر دول العالم إحرازاً لجودة التعليم وفعاليته وتلبيته لحاجة البلاد، باعتبار أن التعليم سارَ حينئذ بخطوات متسارعة وجادة ومدروسة نحو غاياته التي حددتها الدولة وفرضتها الضرورة وأصابت ثمارها في زمن وجيز. ولكن المفارقة المؤلمة أنه وبعد مرور ما يقارب مئتي عام، وفي عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة والثورة المعلوماتية المذهلة، فإن جودة التعليم في مصر متدنية. ويصل الأمر حداً كارثياً عندما يزفُّ رئيس جامعة القاهرة، وبلهجة احتفالية للغاية، أن تلك الجامعة العريقة - وهي أرقى جامعات مصر وأقدمها - قد استطاعت أن تقفز34 مركزاً عن العام السابق، كي تحرز المركز الـ308 بين أفضل جامعات العالم (طبقاً لتصنيف "ليدن" الهولندي)، فيما احتلت جامعات مصرية أخرى مراتبَ متدنية في التصنيف نفسه، حيث جاءت جامعة عين شمس في المرتبة 576 عالمياً، والمنصورة في المرتبة 667، والإسكندرية 700، والزقازيق 804، وأسيوط 914، وطنطا آخر الجامعات في التصنيف، حيث جاءت في المرتبة 1020 عالمياً (1). وكأن التقهقر جدير بالاحتفال!

في التعليم كطوق نجاة لمصر (وسواها!)

 بالعودة إلى زمن الوالي محمد علي، وقد كان رجلاً أمياً أجنبياً، إلا أنه أدرك بنظرة براغماتيه للغاية، لكنها ثاقبة، أنه لا بديل عن التعليم من أجل تلك النهضة التي سعى لبلوغها. وإذا تجاوزنا التنازع بين السرديات التاريخية حول طبيعة مشروع الباشا، فالمؤكد أن رؤية محمد علي لأهمية وخطورة التعليم كانت حاضرةً وضاغطة.

ومن جملة المسارات المتوازية العديدة التي عرفها التعليم في ذلك الوقت، برز التعليم الطبي ليصبح حالةً بالغة الفرادة في تلك المنظومة الضخمة.

"فعندما اتخذ محمد علي قراره المصيري في سنة 1821 بتجنيد فلاحي مصر في جيش جديد، اتضح له افتقاره إلى نظام صحي متطور يقي جنوده من الأمراض والأوبئة. ففي غياب خدمات طبية كافية للكشف على الفلاحين، انتهى الأمر بمأموري التجنيد الذين أرسلهم الباشا ومساعدوه إلى القرى والنجوع، بجمع العديد من الرجال الذين اتضح بعد ذلك عدم لياقتهم للخدمة العسكرية. وحتى هؤلاء الذين جُمعوا فعلاً، وثبت أنهم يصلحون للجندية، عصفت بهم الأوبئة في معسكرات التدريب، وسقطوا صرعى الأمراض المعدية مثل التيفوس والجرب. لذلك أدرك الباشا، وبعد أن تكبّد كثيراً من العناء والمال، ضرورة إنشاء نظام طبي يُعنى بصحة المجندين الجدد " (2).

وعلى الفور كلف الباشا القنصل الفرنسي "برنادينو دروفيتي" بإحضار طبيب فرنسي ماهر للقيام بتلك المهمة، فتم استجلاب الطبيب "أنطوان كلو"، والذي عرفه المصريون بعد ذلك باسم "كلوت بك". وفى المقابلة الأولى التي جمعت الباشا مع الطبيب أخبره الطبيب "أن التجارب التاريخية توضح أن عدد الجنود الذين يسقطون صرعى جرّاء الأمراض التي تفتك بهم في المعسكرات هو أكبر من عدد الجرحى في ساحات القتال". كما وافق الباشا على ضرورة أن تؤسَّس الخدمة الطبية العسكرية على أسس فرنسية، لأن فرنسا كانت من أكثر الدول الأوروبية تطوراً في الطب آنذاك، فأخبره الباشا أن في وسعه أن يستجلب أطباء فرنسيين ماهرين ليعملوا معه على حفظ صحة الجنود.

إلا أن الطبيب الفرنسي الشاب لفت نظر الباشا إلى أن استجلاب تلك الأعداد الكبيرة من الأطباء المهرة سيكلفه كثيراً، كما لفت نظره إلى الصعوبات التي ستنجم عن عدم دراية هؤلاء الأطباء الأوروبيين بلغة الجنود (العربية) والضباط (التركية)، ونصحه بأنه عوضاً عن البحث عن أطباءَ أوروبيين، فإنه ربما يكون من الأجدى أن يشرع في تدريب أطباءَ مصريين، والاستعانة بهم لتكوين نواة الخدمة الطبية الجديدة. واقترح كلوت بك على محمد علي أن يشرع في تأسيس "مدرسة للطب البشري" (عُرفت لاحقاً باسم "قصر العيني")، وأن يُعهد فيها بالتدريس إلى عدد صغير من الأطباء الأوروبيين، على أن يكون التلامذة من المصريين، كما نصحه بأن يكون التدريس باللغة العربية كي يتمكن الأطباء، عند تخرجهم، من التواصل مع مرضاهم بلغتهم" (3).

 ولكن من أين يأتي الباشا بهؤلاء الطلاب الذين سيصبحون النواة الأولى لمدرسة الطب الوليدة، في وقت افتقرت فيه البلاد إلى التعليم الإعدادي والثانوي النظامي والضروري لتأهيل هؤلاء الطلاب للدراسة؟ فجرى انتخاب عدد من طلاب الأزهر الشريف للدراسة في تلك المدرسة، وقد كان الأزهر هو المؤسسة التعليمية الوحيدة حينها التي عرفت شكلاً محدداً من أشكال التنظيم. ومن بين تلامذة الأزهر الذين تم انتخابهم بعناية كان "إبراهيم النبراوي".

قصة إبراهيم النبراوي

 نبتت قصة إبراهيم من رحم المعجزة. بدأت من لحظة بالغة الهشاشة، وانتهت إلى نتائجَ تعجز عنها كل مصفوفات المنطق وحدود التفكير. جرى في حالته ما يمكن تشبيهه بـ"أثر الفراشة "، والتي يُعرّفها الفيزيائيون بأنها "حدثٌ بسيط في حد ذاته، لكنه يُولِّد سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات المتتالية والتي يفوق حجمها بمراحل حدث البداية، وبشكل قد لا يتوقعه أحد، وفي أماكنَ أبعد ما تكون عن التوقع". ذلك الفتى ولد في قرية نبروه التي تبعد عن القاهرة 130 كيلومتراً، وكان غلاماً يافعاً عندما كان محمد على يؤسس لنهضته الكبرى. وهو نشأ في قرية فقيرة لأب مزارع يمتلك بضعة قراريط يقوم بزراعتها بالخضروات، ألحقه أبوه في البداية بكتّاب القرية، فحفظ القرآن الكريم ومبادئ القراءة والحساب. ثم لاح لأبيه أن يختصر طريق تعليم ولده، ويستعين به في رعاية تلك القراريط القليلة وتسويق ما يزرعون..

في تلك السنة زرع الأب البطيخ، وعندما نضجت ثماره، اقترح إبراهيم على أبيه أن يقوموا ببيع المحصول في القاهرة بدلاً من طنطا (المدينة القريبة) لأنه من البديهي أنهم يستطيعون الحصول على ربح أكثر في العاصمة بدلاً من المدينة الصغيرة حينئذ. لم ترق الفكرة للأب، وأخبر ولده أن الرحلة إلى القاهرة سوف تكون شاقةً وعسيرة على ظهور الجمال، وأن البطيخ قد يفسد نظراً لحرارة الجو، ولكن إبراهيم طمأن والده، وأخذ الأمر بالكامل على مسؤوليته، ثم سافر إلى القاهرة بحمولته على ظهر جمل وحيد .

وهناك تحققت كل مخاوف الأب، ولم يجد إبراهيم شيئاً مما كان يأمله من ربح. فاضطر إلى بيع المحصول كله جملةً واحدة بخسارة فادحة خشية فساده، ثم أعطى ما معه من نقود قليلة لصاحب الجمل، وأخبره أن يعتذر لأبيه، ويخبره أنه لن يستطيع العودة إلى القرية وهو يتعثر في ذلك الفشل (4)..

الصدفة وحدها هي التي جعلت حي الجمالية حذف مسرحَ تلك الأحداث. وهي التي قادت إبراهيم إلى الجلوس بجوار باب الجامع الأزهر. وهناك شاهد الطلاب في صحبة أساتذتهم يدخلون في جماعات متتابعة إلى الجامع، فدخل معهم . ثم بدأ يستمع إلى شرح الأساتذة، ولا يجد أدنى صعوبة في فهمه واستيعابه واختيار أسئلة ذكية للمناقشة، مما لفت أنظار الأساتذة إليه، وجعل واحداً من هؤلاء يسأله عن ظروفه التي أوجدته في ذلك المكان. وعندما قص عليه ما جرى له في مغامرته الخائبة، وتخبطه بلا مأوًى أو هدف في طرقات القاهرة، ساعده الأستاذ بالالتحاق رسمياً بالأزهر الشريف، خاصةً أنه كان يحفظ القرآن الكريم.

كان ذلك بالتحديد هو الوقت الذي كان كلوت بك يبحث عن تلاميذ نجباء ليصنع منهم النواة الأولى لمدرسة الطب المصرية، وذلك بالتحديد هو الوقت الذي أرسل الوالي محمد علي إلى مشايخ الأزهر يطلب منهم ترشيح بعض طلابهم الذين يتوسمون فيهم النبوغ للدراسة في تلك المدرسة. والمثير للدهشة أن إبراهيم النبرواي كان على رأس ترشيحات هؤلاء المشايخ!

انتقل إبراهيم إذن من الأزهر إلى مدرسة الطب، وهناك كانت الدراسة تعتمد على ترجمة الدروس من الفرنسية إلى العربية، ثم تلقينها للطلاب ليسجلوها في دفاترهم (5). ولكن سرعان ما ظهرت عيوب هذه الطريقة في تحصيل الطلاب، فرأى كلوت بك تشجيع الطلاب على تعلم اللغة الفرنسية، وأنشأ مدرسةً لتعليمها وألحقها بمدرسة الطب، وهي التي عمل فيها الشيخ رفاعة الطهطاوي مدرساً للترجمة لعشرين تلميذاً بعد عودته من فرنسا.

تعلم إبراهيم النبرواي الفرنسية في تسعة أشهر! وانتظم مع زملائه في تعلم الطب بلغته الأصلية، وتفوق عليهم جميعاً كأنه كان منذوراً لهذه المهمة منذ ولادته! وبعد خمس سنوات من الدراسة اختار كلوت بك أثني عشر تلميذاً من أوائل الخريجين ونوابغهم، كان إبراهيم على رأسهم، وسعى حتى يرسلوهم في أول بعثة طبية إلى فرنسا عام 1832.

وهناك سار الطلاب بخطوات ثابته كما ساروا في مصر، وأحرزوا العلامات الكاملة فيما يشبه المعجزة، ونشر كلوت بك في كتابه "لمحة عامة" تفاصيل الامتحان الذي تم في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1832 للأثني عشر تلميذاً المتخرجين، وسرد فيه بالتفصيل جميع الأسئلة التي وجهت إليهم، وكيف أنهم نالوا رضا وإعجاب لجنة الامتحان، والحضور الكثيف الذي كان يشمل العلماء والنبلاء، وبعض الأسئلة التي وجهت إليهم كانت تعجيزيةً، ولكنهم تمكنوا من الإجابة على كل ما وجه إليهم، وتفوّق الطلاب على نظرائهم الفرنسيين، وتم بعدها "الثناء عليهم وعلى مصر وحضارتها"(6).

عندما عادت تلك البعثة إلى مصر. كانت منظومة الطب قد استكملت أدواتها بالتخطيط والصبر والمثابرة، وتحول هؤلاء النوابغ إلى تروس لامعة تمّ إعدادها بعناية لتندمج على الفور في تفعيل تلك المنظومة، واستطاع إبراهيم النبرواي علاوةً على تفوقه اللافت في تلك البعثة أن يترجم ثلاثة كتب لأستاذه "كلوت بك"، هي: " نبذة في الفلسفة الطبيعية" و"نبذة في التشريح العام" و"نبذة في التشريح المرضي"، طبعتها مطبعة بولاق في مجلد واحد سنة 1837، وفي 1838 طبعت له مطبعة بولاق ترجمة كتاب "الأربطة الجراحية". وله فصل مترجم من الفرنسية في قاموس طبي أحضره كلوت بك من فرنسا، وهو من ثمانية أجزاء، ويشتمل على جميع الاصطلاحات العلمية والفنية في الطب والنبات والحيوان والعلوم الأخرى المتصلة بالعلوم الطبية.

أصبح إبراهيم بعد عودته أول وكيل مصري لمدرسة الطب. وعنه يقول علي مبارك في "الخطط التوفيقية" إنه: "أنجبُ من اشتهر في الجراحة، وأنه ذو إقدام على ما لم يقدم عليه غيره، وأنه كان يجرى العمليات الجراحية المنتجة للصحة ولم يسبقه في ذلك غيره. وذاع صيته، وبلغت أخباره عزيز مصر محمد علي فاختاره طبيباً خاصاً له".

لماذا تبدو حالة إبراهيم النبراوي هنا لافتة ودالة؟ ربما لأنها عبّرت بجلاء عن مفهوم "البلانك" (blank ) أي الصفحة الخاوية على بياض كامل . فإبراهيم لم يمتلك في تلك اللحظة السحرية التي تم اختياره فيها لدراسة الطب إلا ذلك الذكاء الفطري والرغبة العارمة في التعلم فقط، وقد اجتمع الذكاء الفطري والتخطيط الجيد والحاجة المجتمعية الماسة والأدوات الصحيحة، فكان طبيعياً أن يأتي النجاح في النهاية متوجاً لكل ذلك. ولماذا تبدو أيضاً الحالة العامة والمحصلة النهائية لتلك التجربة الفريدة في مسار التعليم الطبي لافتة وموحية؟ ربما لأنها تشبه أيضاً حالة إبراهيم النبرواي تماماً. بدأت من الصفر ثم لامست أطراف السحاب في زمن وجيز.

 فلماذا أفلتت تلك اللحظة المتوهجة، ولم نستطع بعد ذلك أن نمسك بتلابيبها، محتفظين بتلك المكانة في التعليم الجيد والتقدم المضطرد؟

______________

1- موقع اليوم السابع/ 16 تموز/ يوليو 2020 https://bit.ly/3vdBNwD
2- خالد فهمي: من رعايا إلى أرقام - تأسيس نظام الصحة العامة في مصر. مؤسسة الدراسات الفلسطينية العدد 123/ 2020
3- المرجع السابق
4- بحسب جمال بدوي في محمد علي وأولاده بناة مصر الحديثة، مكتبة الأسرة، القاهرة 1999
5- جمال الشيال تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي - دار الفكر العربي - مصر 1951 
6- مصطفى جودة، جريدة الأهرام، 4 أيلول/ سبتمبر 2020

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...