أنت كما الإسفنجة تمتص الحانات ولا تسكر...
قنعت بأن يكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير... ولكن سبحانك، حتى الطيور لها أوطان وتعود إليها... وأنا ما زلت أطير.
("قصيدة في الحانة القديمة" لمظفر النوَّاب)
يردد "غرغور" هذه الأبيات تحسراً على عمر أمضاه مكتوياً بنار الشوق والفراق، يختنق صوته، يدير وجهه باتجاه البحر لئلا تفضحه عيناه، يلجأ إلى لغة الجسد كي يُخفي تأثّره، يتلفت يمنة ويسرة، يرسل نظرة فاحصة حذرة على طول الكورنيش، وحين يهدأ خاطره ويطمئن قلبه لما تيسّر له من حرية لحظية، يستلّ "الربعية" من جيب جاكيته، يرفعها بطريقة مسرحية، ويقول "أبصحتكم"، ثم يعبّ ما فيها من "عرق" بشراهة. يهب عن كرسيه بحركة بهلوانية بعدما يلسعه طعمها، يحرّك يده فوق صدره نزولاً وصعوداً، يتجشأ، يرفع "الربعية" مجدداً، ينظر إليها بزهوٍ، يبتسم، ثم يعاود الشرب، يلعق القطرات العالقة حول عنقها، ويلاحق ما تبقى منها إلى أن يتأكد أن قاع الزجاجة قد جفّ، فترتسم على فمه ابتسامة المنتصر، وتلين تقاسيم وجهه الحادة، يقف، يدور حول نفسه، يدندن، يتمايل بخفة ورشاقة على إيقاع أمواج شط العرب.
في جعبة "غرغور" سيل لا ينضب من الحكايا والمفارقات، ذاكرته موسوعة تاريخية عن عمارات البصرة وحاراتها وسكانها وأسواقها وشوارعها وساحاتها ودرابينها. أولى الحكايا التي يفتتح بها صداقة جديدة هي معنى لقبه "غرغور"، فيشرح: "غرغور" هو "بريعصي" (أي "أبو بريص")، شخصية كارتونية اشتهرت لدى أبناء جيلي من الأطفال العراقيين، لقدرتها على ابتداع الحلول لكل الأزمات مهما عظمت! إلتصق اللقب بي منذ نعومة أظافري، ليس لقدرتي على حل الأزمات، إنما لصبري على تحملها، ولولا هذه "القوطية"، رافعاً زجاجة العرق، لما تمكنت من ذلك.
يتباهى "غرغور" بتعاطيه الكحول، ويفخر بمعرفته تفاصيل وخبايا معجم السكارى العراقي. العرق أولاً، وهو المفضّل لدى العراقيين، ويسمّى "حليب السباع" لأن لونه الشفاف يتحوّل إلى الأبيض الحليبي بعد أن يُكسر بالماء، وهنا توجد كناية شعبية، فالعرق الأصلي يتقبّل المياه بسلاسة ويندمج معها، أما المغشوش فـ"يكطِّع" (يتكتل)، وقد عرف عن شاربي العرق ميلهم إلى افتعال المشاكل وعدم الخوف من عواقبها. والعرق صنفان: "المستكي" أي المقطر مع المستكة، ومنه العرق البغدادي ("العصرية")، و "الزحلاوي" نسبة لمدينة زحلة اللبنانية، الذي يقطر مع اليانسون. يردف أن "المستكي" هو شراب الأغنياء والمترفين لثمنه المرتفع، أما "الزحلاوي" فهو شراب المدقعين والفقراء.
أما العرق الأكثر شهرة بين العراقيين، فهو عرق بَعْشيقة الذي يُصنع هو الآخر من التمر، ويضاف إليه بعد تخميره مادة الرزنايج (الحبّة الحلوة). ولعرق بعشيقة أهمية وطنية، عدا أهميته الاقتصادية، فالتمر يستورد من جنوب العراق (ذي الغالبية المسلمة) ويصنع في بيوت مدينة بعشيقة المصلاوية (الأيزيدية والمسيحية)، ليعود ويصدر إلى الخارج كمفخرة للصناعة الوطنية "التعايشية".
أما البيرة، فلها حكاية أخرى. فبعد إقفال معمل بيرة "فريدة" الكردي، لجأ العراقيون إلى استيراد البيرة الأجنبية، وصاروا يطلقون عليها أسماء وألقاباً تبعاً لحجم الزجاجة وشكلها، فلقبت زجاجة البيرة الضخمة (مام جلال) نسبة إلى الرئيس العراقي السابق جلال طالباني وإشارة إلى بدانته، وأحلا ما في ألقاب وأسماء أنواع البيرة في العراق أنها أغلبها يحمل أسماء إناث. فإضافة إلى بيرة "فريدة"، هناك بيرة "لؤلؤة" و "شهرزاد" و "سنابل"، ذلك لأن البيرة مشروب اللقاء والتعارف والوناسة، حسب زعم "غرغور". يضيف "غرغور" إلى معجم السكارى، أنواعاً من الويسكي، فمنها البيجي (بلاك جاك) ولويس والمجنزرة، وأخرى ذات نوعية رديئة مضرة بالصحة، فاختير لها لقب "الداعشية"، بالإضافة لمشروب الجن المعروف بأبو الجسر.
تنتهي الحصة الأولى من معجم السكارى عند هذا الحدّ، و "غرغور" يهمّ بفتح سدادة "الربعية" الثالثة، أحاول نهيه، فلا يأبه. كمية الكحول التي عبّها، بدأ مفعولها بالظهور، يجاهد أن يبدو متماسكاً، لكن تثاقل لسانه وشرود عينيه يفضحانه. يطرق قليلاً، يبسط ذراعيه في الهواء كأنه يتهيأ للطيران، يعدل جلسته على الكرسي الخشبي ويدير رأسه نحوي، يتسلل اسم "نجوى" على غفلة من وعيه، يعاتبها على فراقها له، ويغني لها "حن وأنا أحن" (غناها ياس خضر، قصيدة زرازير البراري لمظفر النواب)، يرفع سبابته المهتزة ويقول لي شاكياً، باكياً متحسراً: أعرفت الآن ما سبب اهتمامي بالخمور.. إنها "نجوى"، "نجوى" التي لم يعد لي من ذكراها سوى بعض المواويل، ألجأ إلى هذه الزجاجات الباردة، القاسية لأنسى دفء وجودها، كنا حبيبين وكان العراق ثالثنا، سقى الله تلك الأيام، ذهبت "نجوى" إلى الغربة، العراق الذي جمعنا صار غريباً أيضاً، وأنا هنا، عند هذا الرصيف أشرب وأنتظر، أشرب لأنسى أني أنتظر، فلا رجعت "نجوى" ولا رجع العراق.
يفتح جسر التنومة ("الشهيد كنعان التميمي") أضلاعه ليحتضن سفن شحن البضائع العابرة، يمارس "غرغور "انتظاره" و "شربه" غير عابئ بالأقدار والأعمار، مصراً على أن "نجوى" ستعود إلى حضنه على متن إحدى هذه السفن، يهذي بحسرة وشوق يدندن "نوحي على ال عافوكِ يا روحي نوحي" (يوسف عمر).