حيرة العراقي بعد اثني عشر عاماً من الإطاحة بنظام صدام حسين كبيرة. أسئلة وجودية تتقاذفه من دون أن يجد لها أجوبة. والخيارات كلها مرّة، بين فاتورة الديموقراطية واستحقاقات الاستقرار والانسداد السياسي الذي يلفّ البلاد.
ولكن الإحباط الذي يعيشه العراقيون منذ 2003، لم يكن كتلة جليد على ما يبدو، فقد تكشّفت سخونة تموز، تاريخ انطلاق أول شرارة للاحتجاج من البصرة، وحرارة آب اللهّاب، عن كرة نار انفجرت لتقول كل ما تم تأجيله وكتمانه خلال الاعوام الماضية.
كان متوقعاً أن تنطلق الاحتجاجات في كل موسم صيف، مع تصاعد درجات الحرارة وانكشاف زيف وعود الحكومات بتحسين ملف الكهرباء، رغم إنفاق 40 مليار دولار عليه خلال العقد الماضي. وعادة ما تستبق البصرة الجميع بإطلاق موجة الاحتجاجات الصيفية، وهي تتكئ على تاريخها الوطني في مقاومة الانجليز العام 1915 وصولاً إلى قيادتها لانتفاضة آذار 1991 المعروفة بـ "الانتفاضة الشعبانية". هذا العام، أثار سقوط الفتى منتظر الحلفي في تظاهرات البصرة شرارة احتجاج بدأ خدمياً وانتهى بمطالب سياسية تعكس المزاج العراقي واستياءه من التشكيلة المشوّهة للنظام السياسي القائم.
ما يميز احتجاجات صيف 2015 هو تبلور الوعي بالأسباب الحقيقية للفشل، والتي تحول دون تمتع بلد نفطي، بموازنات مليارية، بخيراته. لأول مرة يرفع المتظاهرون من سقف مطالباتهم لتطال محركات النظام السياسي ولتضعها أمام مواجهة مع إرادة غاضبة من تمادي الإخفاق والفشل.
هذه المرّة، فرضت هذه الإرادة على الطبقة السياسية الخضوع للاحتجاجات المختلفة، فاختار بعضها الانحناء المؤقت ريثما تمر العاصفة، بينما اختار آخرون الهرب إلى الأمام وركوب موجة الإصلاحات عبر المطالبة بمكافحة الفساد في حكومة يحظى هو بحصة الأسد من مناصبها وامتيازاتها.
من أين بدأت الحكاية؟
لا يمكن مقاربة الاحتجاجات الشعبية الراهنة بعيداً عن مناخ الانسداد السياسي الذي عاشه العراق في الأعوام الأخيرة، والذي بلغ ذروته في صراع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي مع معارضيه بشأن "الولاية الثالثة".
مر العراق بمنعطف خطير ومفصلي في الفترة الممتدة من 30 نيسان وحتى 9 حزيران، أي ما بين تاريخ إجراء الانتخابات البرلمانية وحتى سقوط الموصل بيد داعش، وكانت البلاد تشهد فراغاً سياسياً بسبب احتدام الخلاف حول التجديد للمالكي، وفراغاً امنياً بعد سقوط ثاني أكبر محافظات العراق.
وقتها بدت كل السيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، ابتداء من تزوير نتائج الانتخابات لمصلحة رئيس الحكومة القائمة، وانتهاء باحتمال فرض حالة الطوارئ وإعلان الاحكام العرفية. تمسك المالكي بحقه في تشكيل الحكومة الجديدة بعد أن حل ائتلافه الانتخابي في المرتبة الأولى، زاد من حدة التوتر والاستقطاب بين الكتل الشيعية ذاتها، ما أنذر بانهيارات جديدة مع وصول داعش الى مسافة 30 كلم عن العاصمة بغداد.
هنا تدخلت المرجعية الدينية، ممثلة بالمرجع الأعلى علي السيستاني، الذي طلب من الأحزاب الشيعية "عدم تجربة المجرب"، ووجه حزب الدعوة الذي يتزعمه المالكي الى البحث عن مرشح بديل لرئاسة الحكومة يحظى بقبول الاطراف الاخرى.
وهكذا قامت الأطراف الشيعية، فضلاً عن السنية والكردية بإزاحة المالكي واستبداله بحيدر العبادي. استثمرت الكتل المناوئة للمالكي موقف المرجعية منه والانشغال الشعبي بالانهيارات الأمنية في أربع محافظات لتشكيل "كابينة" وزارية مترهلة عادت فمنحت مجرَّبين فاشلين حقائب وزارية.
اكتفت الكتل السياسية بإجراء تغيير شكلي طال رأس الهرم فقط، لكنها تمسكت في الوقت نفسه بالمحاصصة ذاتها التي تشكلت في ظلها جميع حكومات ما بعد 2003. وبعكس المتوقع من التغيير، فقد أعادت الكتل السياسية تشكيل حكومة العبادي على مقاساتها، فلم تلتزم بتعهداتها في تشكيل "كابينة" تكنوقراط رشيقة، وأخلفت بوعودها في عدم استحداث مناصب على حساب المال العام.
استخدمت الكتل السياسية مواقف النجف كجسر لإزالة خصم لدود فرض هيمنته على مفاصل الدولة ما مكّنه من الحصول على 92 مقعداً في برلمان 2014. التغيير انشغل بتقاسم السلطة وإبرام صفقات سياسية على حساب الأزمة المالية التي بدأ يعاني منها الاقتصاد العراقي بفعل تراجع أسعار النفط والنفقات العسكرية المتصاعدة. استخدمت إذاً الكتل السياسية دعوة التغيير لتكريس معادلة المحاصصة وصيانتها، بما يعزز من تغلغلها في مفاصل الدولة وتقاسم عائداتها.
وخلافاً للوعود التي قطعتها الكتل السياسية في حملاتها الانتخابية، والتي أكدت تشكيل حكومة "الفريق المنسجم" القائم على "التوافق" و "المقبولية"، كشفت كابينة العبادي التي قدمها الى البرلمان عن عكس ذلك. فقد حظي الكبار بالوزارات "الدسمة"، واكتفى الصغار بفتات المناصب.
إصلاح الإصلاح!
لم تصمد صفقة حكومة العبادي سوى أشهر معدودة ثم بدأ الفشل يتسرب إليها بفعل ضغط عجز الموازنة، الذي تجاوز 40 في المئة، وعدم التزام إقليم كردستان بالاتفاق النفطي الذي أبرمه مع بغداد بتصدير 550 الف برميل نفط يومياً.
وبعد أقل من سنة على التغيير السياسي الذي رعته مرجعية النجف، انطلقت شرارة التظاهرات الشعبية من البصرة وامتدت بسرعة هائلة الى بغداد احتجاجاً على تردي الكهرباء، وعلى بدء الحكومة بفرض سلسلة إجراءات ضريبية أخذ العراقيون يتلمّسون أثرها على واقعهم المعيشي. وما يثير الانتباه أن الاحتجاجات بدأت مطلبية/ خدمية، لكنها سرعان ما تحوّلت الى احتجاجات سياسية ترفع مطالبات بحل البرلمان ومحاسبة الفاسدين وإنهاء المناصب التي استحدثت لإرضاء الكتل المشاركة في الحكومة أصلاً.
بعد تصاعد موجة الاحتجاجات، دخلت مرجعية النجف مجدداً على الخط، في خطبة الجمعة يوم 7 آب/اغسطس، لفرض خطة "إصلاح الإصلاح" على رئيس الوزراء حيدر العبادي، ومطالبته بأن يكون أكثر جرأة في مكافحة الفساد ويسمّي من يعرقل مسيرة الإصلاح. دفع الاستياء والسخط الشعبيين المرجعية إلى النزول بقوة تأييداً لمطالب الشارع ودعماً لها، بهدف تصحيح الخلل الذي تغاضت عنه الكتل السياسية بعد الإطاحة بالمالكي، حيث أعادت الطبقة السياسية تشكيل نفسها بالوجوه ذاتها التي كانت رمزاً للأزمة والفساد، بل كافأت حتى من فشلوا في كسب ثقة المواطن في الانتخابات، إذ تم استحداث مناصب لترضية هؤلاء. ولأول مرة تستخدم خطب النجف مصطلح "أحزاب السلطة"، في مؤشر لسحب الغطاء عن تيارات لطالما تعكزت على القرب منها، والتلويح بامتلاكها صكاً "نجفياً" يشرعن مشاريعها السياسية.
فلعل المرجعية أدركت حجم استغلال بعض الجهات السياسية، والشيعية تحديداً، لاسمها لتكريس نظام المحاصصة والفساد، والمشاريع الاثنو/ طائفية، بما شوّه موقعها هو نفسه، وعلاقتها بالدولة والمجتمع. ولعل السيستاني اتخذ هنا موقفاً لا يقل أهمية عن فتوى "الجهاد الكفائي" الذي أصدره لمواجهة تهديد "داعش"، ولا يقل أهمية عن المساعي لإخراج العراق من مأزق صراع المالكي وخصومه.
مأزق نظام المحاصصة
موجة الاحتجاجات، وسقف المطالبات التي حملتها، تقارع الصيغة الأميركية التي أريد لها أن تحكم عراق ما بعد صدام حسين. لم يعد المتظاهرون يرضون بإصلاحات شكلية ترمم نظام المحاصصة وتكتفي بمداورة رموزه في المناصب مع تخصيص امتيازات فلكية لهم من موارد الدولة.
لكن رئيس الوزراء لم يجرؤ حتى اللحظة على الاقتراب من رموز "نظام المحاصصة". فلم يشمل الترشيق الوزاري الحقائب التي تدور حولها شبهات الفساد وتوجه لها اصابع الاتهام بالفشل كالنفط والكهرباء والمالية والتجارة، والتي أصبحت محتكَرة لجهات سياسية.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن إغفال حجم الضغوط السياسية والشعبية التي تعرّض لها العبادي خلال الاسابيع الاخيرة. فهو بين مطرقة الشارع الذي بات يطالب بإصلاحات عالية، وبين مخططات كتل سياسية تتلقى ضربات موجعة عبر تقويض دائرة نفوذها في مؤسسات الدولة، وتخشى من أن يعزز العبادي من سلطاته ويعيد إنتاج سيطرة حزب الدعوة على المناصب المهمة، كما حدث في عهد المالكي.
ويدرك العبادي حساسية وضعه، ويسعى للإمساك بالعصا من منتصفها، فقد أطلق حزمة إصلاحات تضعف نظام المحاصصة ورموزه، لكنها لا تقضي عليه بـ "اليد الحديد" التي طالبته النجف باستخدامها في مواجهة معارضي الإصلاحات.
الجولة الأولى هذه تدور أساساً داخل الساحة الشيعية، المحلية والإقليمية، بانتظار جولة جديدة تعيد تعريف شكل الدولة العراقية، وتحدّد مسارات المشاركة السياسية لكل المكونات على أسس وطنية، وبعيداً عن الوصايات.