الاستنزاف منهجيّة أساسيّة في تفشّي الاستعمار: امتصاص الحياة من الأشياء، استغلالها وإهدارها إلى أن تُنهك وتجف وتُقوّض. تُستنزف الطبيعة، ومن ضمنها يُستنزف الإنسان جسداً ونفساً ومجتمعاً. وفي إطار هذه العمليّة الشاملة، تُدمَّر علاقة أهل البلد بالطبيعة أيضاً، مصدر تكوّن الجماعة، تميّزها، وعناصر الهويّة الأوليّة التي تبقى حاضرةً في الأسس العميقة لتكويننا الإنسانيّ الذي ينمو وينطلق متغيّراً.
ليس في طبيعة فلسطين ما يضاهي البحر الميّت تميّزاً من حيث الخاصيّة البيئيّة والجماليّة والأثريّة، وليس فيها كذلك أكثر منه ما يصوّر عنف الاستعمار تجاه الطبيعة بهذا الشكل الصارخ المنفلت من تغليب الهوس الأيديولوجي الصهيوني بالسيطرة الرأسماليّة على قيمة الطبيعة وعلاقة الناس بها، إنهاكها وإنتهاكها، قتلها ومن ثم "إحيائها" اصطناعياً، لتبقى مشوهةً مموسخةً، فاقدة الجوهر ومنقطعة كلياً عن الاستمراريّة المناخيّة والجيولوجيّة والجغرافيّة للطبيعيّة. كل هذا، طبعاً، لا ينفصل عن أهوال الرأسماليّة التي تدمّر طبيعة العالم كلّه وليس في فلسطين فقط..
ملابسات الجريمة
أربعة آلاف عام تراوح خلالها مستوى البحر الميّت تحت سطح البحر. هذا ما نعرفه عن أعمق نقطة يابسةٍ على سطح الأرض: من 370 متراً تحت سطح البحر في العصر البرونزيّ، هبط مستوى سطح البحر الميّت إلى 411 متراً تحت سطح البحر في العصر الحديديّ. تغيّرات مناخيّة وجيولوجيّة حرّكت البحر وغيّرت طبيعته على مر الزمن الذي شكّل هذه الظاهرة الطبيعيّة.
ثم أتت إسرائيل: من 397 متراً تحت سطح البحر في 1968 (أي شهور قليلة بعد الهزيمة واحتلال الضفّة الغربيّة والجولان وأراضي أردنية)، تجاوز البحر هبوطه القياسيّ الذي سجّله في العصر الحديديّ، ليصل مستواه اليوم، وخلال أقل من خمسين عاماً، إلى 430 متراً تحت سطح البحر، ومن مساحة سطحٍ تترامى على 960 كيلومتراً مربّعاً، تقلّص السطح ليصل اليوم إلى 620 كيلومتراً مربّعاً. انخفض مستوى البحر المكوّن من قسمين متواصلين، شماليّ وجنوبيّ، لينزل تحت ارتفاع نتوء الأرض الفاصلة بين الشمال والجنوب، حتّى بات البحر عبارة عن حوضين منفصلين تماماً، وقد حدث ذلك في العام 1979.
كميّة المياه التي تنقص من البحر الميّت نتيجة التبخّر والاستهلاك الصناعيّ تبلغ 1404 مليون مترٍ مكعّب سنوياً. بالمقابل، فكميّة المياه التي تجري إلى البحر تساوي 696 مليون مترٍ مكعّب فقط
عشر سنوات من الخراب الإسرائيلي تساوي ألف عام من تحوّلات الطبيعة: مصانع تسطو على خيرات البحر، معادنه وأملاحه. ورغم كارثيّة أثر المصانع، إلا أنّها تبقى السبب الثاني لانخفاض مستوى البحر، أما الأوّل فهو الإضعاف الحاد لتدفّق مياه نهر الأردن. بدأ ذلك قبل العام 1967 بكثير، نتيجة السدود التي شيّدها الصهاينة منذ الثلاثينيّات، أي قبل النكبة، جنوبيّ طبريّا لخدمة مستوطناتها. بعد ذلك حولت إسرائيل مياه نهر الأردن لما يُسمّى "مشروع المياه القطري"، لينخفض بهذا معدّل تدفّق النهر الذي يصبّ في البحر الميّت من 1250 مليون مترٍ مكعّب في 1950، إلى 260 مليون مترٍ مكعّب في 2010. المشروع أقامته إسرائيل لضخّ المياه من بحيرة طبريّا إلى عمق الأراضي المحتلّة عام 1948، وصادرت لصالحه آلاف الدونمات من أراضي الفلسطينيين في منطقة الجليل خاصةً، خدمة لحُلم بن غوريون: تهويد النقب. على إِثر هذه المخططات الإسرائيليّة، بما يشمله ذلك من ردود فعلٍ عربيّة (مثل إنشاء قناة الغور الشرقيّة 1963 وغيرها)، انخفض تدفّق نهر الأردنّ بنسبة تزيد عن 80 بالمئة من تدفّقه قبل هذه المشاريع. هذه كلّها أسباب الكارثة التي تعيشها اليوم طبيعة فلسطين والأردن والبحر الميّت تحديداً: دمار بيئيّ من حيث المنظر العام بسبب تقلّص مساحة سطح الماء، وانتشار هائل للحفر الانهداميّة بسبب انخفاض مستوى سطح البحر في المناطق المحيطة، بما يعنيه ذلك من انهيارات وتدمير للبنى التحتيّة في المنطقة، وفي الجانب الأردنيّ خاصةً. ومن ضمن هذا الدمار الفظيع، جفّ الحوض الجنوبي حتّى كاد، حرفياً، يختفي.
لماذا البحر الميّت تحديداً؟
تحتوي مياه البحر الميّت على 343 غرام من الأملاح للّيتر الواحد، أكثر بعشر مرّات من البحر الأبيض المتوسّط مثلاً، مما يجعلها مكمن أطماعٍ صناعيّة هائلة. فهي مياه غنيّة بعناصر كيميائيّة منها عنصر البروم الذي يُصدّر لمختلف الصناعات التكنولوجيّة، والمغنيزيوم ومنه تُنتج الفلزّات الخفيفة المستخدمة لصناعة السيّارات والطائرات (شركة "فولكسفاغن" الألمانيّة شريكة في المصنع المختص بإنتاج المغنيزيوم)، والصوديوم ويُنتج منه ملح الطعام، والبوتاسيوم وتُنتج منه الأسمدة الكيماويّة بالأساس، إذ توفّر إسرائيل 9 بالمئة من البوتاسيوم في العالم، ما يضعها في المرتبة السادسة عالمياً في تصديره.
بعد أن جفّ الحوض الجنوبيّ للبحر الميّت، انتهزت المصانع الإسرائيليّة الفرصةً لترفع وتيرة إنتاجها. وتحت غطاء "إنقاذ الحوض الجنوبيّ" صعّدت في بناء البرك الاصطناعيّة فيه، ليُضخّ إليها ما يقارب 600 مليون متر مكعّب من ماء الحوض الشمالي لإتمام عمليّة التبخير التي تجفّ بواسطتها المياه فتترسّب الأملاح وتكون جاهزة للجرف. ويتركّز بهذا محلول يجري شفطه للبدء بعمليّة فرزه بحسب العناصر الكيميائيّة المُستخرجة، ومن ثم نقله للمصانع لتصنيعه وتصديره.
المشروع الذي تتكّل إسرائيل عليه في "إنقاذ البحر الميّت" قد يرفع سطح البحر (وهذا أيضاً ليس محل إجماعٍ)، إلا أنّه لن يُنقذ البحر الميّت كظاهرةٍ طبيعيّة بيئيّة نادرة في العالم، إذ سيُغيّر تدفّق المياه المالحة من البحر الأحمر نوعيّة المياه في البحر الميّت كلياً
هذه العمليّة التي "تُنعش" الحوض الجنوبيّ من البحر، تؤدّي عملياً إلى خفض أسرع لمستوى البحر في الحوض الشماليّ. بحسب المعطيات، فإن كميّة المياه التي تنقص من البحر الميّت (إجمالي التدفّق الصادر) هي 1404 مليون مترٍ مكعّب سنوياً، وهي تنقص نتيجة التبخّر والاستهلاك الصناعيّ. بالمقابل، فإنّ كميّة المياه التي تجري إلى البحر (إجمالي التدفّق الوارد) تساوي 696 مليون مترٍ مكعّب فقط، وهي من مياه الأودية ونهر الأردن التي تصب في البحر، إضافةً إلى عوائد المياه المستخدمة في المصانع. الفرق بين التدفّق الصادر والتدفّق الوارد هو ما يخسره البحر سنوياً، ما يُقدّر بـ708 مليون مترٍ مكعّب. بحسب التوقّعات، فإن استمرار هذا الوضع من شأنه أن يؤدّي إلى أن يتقلص البحر بسرعة ليتحوّل بحيرة مائيّة صغيرة وأن يصبح ارتفاع سطحه 543 متراً تحت سطح البحر.
إنقاذ البحر: الوصفة لتدميره كلياً
والآن، حان وقت تذكّر الطبيعة والحفاظ عليها. ومع التقاء المصالح الأردنيّة بالإسرائيليّة، بدأ مشروع "قناة البحرين" (والاسم الإسرائيلي هو "قناة السلام") يتحقق على الأرض: قناة تربط بين البحر الأحمر جنوباً والبحر الميّت، تستغل فارق ارتفاع المنسوب بين البحرين (نحو 400 متراً) وبالتالي قوّة الجريان لتوليد الطاقة المائيّة التي ستُستخدم لتشغيل محطّات لتحلية ما يقارب 850 مليون متر مكعب سنوياً من مياه البحر الأحمر وتحويلها مياه صالحة للشرب، فيما تُضخ المياه شديدة الملوحة التي تخلّفها عمليّة التحلية للبحر الميّت (1200 مليون مترٍ مكعب بالسنة تقريباً) من أجل استقرار مستوى سطح البحر: هذه هي الخطّة الفذّة لتبرئة إسرائيل.
تشترك في مشروع "قناة السلام" إسرائيل والحكومة الأردنيّة والسلطة الفلسطينيّة، وبتمويلٍ من البنك الدوليّ. بحسب الادعاءات الأردنيّة. الدافع الأهم من وراء المشروع (ذي الأصول التاريخيّة الإستعماريّة منذ القرن التاسع عشر على الأقل) هو أزمة المياه المتفاقمة في الأردن: 200 متر مكعّب للفرد سنوياً معدّل استهلاك المياه في الأردن (بأفضل التقديرات)، بينما خطّ الفقر المائيّ يعادل 1000 متر مكعّب سنوياً بحسب منظمة الصحّة العالميّة. وسيُقام المشروع كلّه، بموجب الاتفاقيّة، على الأراضي الأردنيّة، بحيث يتحمّل الأردنيون غالبيّة تكاليف إنتاج المياه والطاقة. كذلك، بات من الواضح أن الشركات الإسرائيليّة العاملة في مجال تكنولوجيا الماء (نحو 300 شركة إسرائيليّة) ستسيطر على معظم مناقصات المشروع الذي "يرمز للتعاون والسلام في الشرق الأوسط".
الحلّ الحقيقيّ والوحيد لهذه الكارثة المستمرّة والمتفاقمة، يكمن بعودة المياه إلى مجاريها.. حرفياً: من نهر الأردن إلى البحر الميت
المشروع الذي تتكّل إسرائيل عليه في "إنقاذ البحر الميّت" قد يرفع سطح البحر (وهذا أيضاً ليس محل إجماعٍ)، إلا أنّه لن يُنقذ البحر الميّت كظاهرةٍ طبيعيّة بيئيّة نادرة في العالم، إذ سيُغيّر تدفّق المياه المالحة من البحر الأحمر نوعيّة المياه في البحر الميّت كلياً، ويستبدل التدفّق الطبيعيّ بتدفّق لمياه شديدة الملوحة تنتج عن عمليّة تحلية المياه، ومعنى ذلك فقدان مياه البحر الميّت لخصوصيّة مركّباتها الكيميائيّة، وبالتالي تدمير بيئيّ هائل وتغيير مطلق للمنظر الطبيعيّ العام. وقد شدّدت الدراسات التي حاولت استشراف التدمير البيئيّ الذي سينجم عن المشروع ــ من ضمن مصائب كثيرة أخرى ــ على تغيّر لون البحر بامتزاج مياه البحرين، وذلك نتيجة تراكم المادة الجبسيّة (بسبب امتزاج كبريتات البحر الأحمر بكالسيوم البحر الميّت) وتحوّل لون البحر أبيضاً خفيفاً. وبتقديرات أخرى، أن تطفو بلورات الجبس على سطح الماء على هيئة مسحوق أبيض وتغيّر، عملياً، منظر البحر ولونه كما غيّرت تركيبة مائه.
أين مصلحة إسرائيل؟
لا نعرف تحديداً ما مصلحة إسرائيل من وراء قبولها إطلاق مشروع القناة الذي تستفيد من مائه الأردن بالأساس. لن تخسر شيئاً بالطبع، فالأرض أردنيّة والمال دوليّ وأردنيّ. استفادة الشركات الإسرائيليّة (وستكون ضخمةً) وكميّة المياه الإضافيّة التي تُرصد لإسرائيل ليست كافية وحدها لفهم المصلحة الإسرائيليّة، التي يُمكنها أن تكون جزءاً من اتفاقيّات سريّة أو مخطّطات جيوسياسيّة استراتيجيّة. فالتحليلات العربيّة لمخاطر المشروع هذه لا تتعدّى حتّى الآن التوقّعات، وغالباً ما تذهب في مخيالات سينمائيّة أكثر منها معرفة علميّة. وهو موضوع يحتاج دراسات جديّة وعميقة وتحقيقات استقصائيّة ثاقبة. لكنّ الأكيد من كلّ ذلك أنّ التفات إسرائيل والبنك الدوليّ لأزمة المياه الأردنيّة يرفض أن يحدّق بالغبن التاريخيّ الهائل الذي ترك الأردن مأزومةً عطشى، ويسعى إلى حرف النظر عن مسبّب الأزمة الجوهريّ: السيطرة الإسرائيليّة على روافد نهريّ الأردن واليرموك، واتفاقيّة وادي عربة المجحفة التي تُعطي إسرائيل حق الاستمرار بضخ المياه من الآبار التي حفرتها في المناطق الأردنيّة التي احتلتها عام 1967. حقّ الأردن، كما حقّ الفلسطينيين، بالماء تسلبه إسرائيل لتؤمّن لنفسها ثلاثة أضعاف كمية المياه التي تنصح بها منظمة الصحّة العالميّة للفرد يومياً، وهذه هي المسألة الحرجة التي يصل العالم بين بحرين ليطمرها.
قتلت إسرائيل البحر الميّت، بجشعها المرعب وبهوس الاستيطان والتهويد منذ بداية المشروع الصهيونيّ. وليس في مشروع "السلام" هذا إلا إبقاء على جثّة البحر بعد موته: تدمير عظمته الجماليّة والبيئيّة والتاريخيّة. هكذا، بضخّ مياه البحر الأحمر إليه، سيطفو الجبس الأبيض على سطحه كفناً شاهداً على الجريمة. أما الحلّ الحقيقيّ والوحيد لهذه الكارثة المستمرّة والمتفاقمة، فيكمن بعودة المياه إلى مجاريها، حرفياً: من نهر الأردن إلى البحر الميت.
هكذا هي الحلول العادلة لكل مسألة تتعلّق بالاستعمار: تبدأ دائماً بكلمة "عودة".
نشر هذا النص على موقع السفير العربي بتاريخ 2017/02/24