"فقط للشعب اليهودي هناك حقوق وطنية في إسرائيل" بنيامين نتنياهو
"بن غوريون كان سيعارض هذا القانون" يائير لبيد
يمكن للقائمة العربية المشتركة لو بلغت هدفها، وحصلت على خمسة عشرِ مقعدٍ في كنيست قوة الاحتلال أن تعارض أي قانون يُطرح للتصويت. تعارض فقط ليس أكثر، وربما تنجح إن هي تحالفت مع أحزاب صهيونية _كما حدث في مرات سابقة_ في منع تمرير قانون أو إثنين كل عدة سنوات كما تؤكد السوابق التشريعية. يمكنها مثلاً الاعتراض على "قانون القومية" مثلما كان سيفعل بن غوريون مؤسس مستعمرة قوة الاحتلال لو كان حيًّا، ليس في الأمر ما يدعو للزهو والفخر. لكن على الأغلب، خروج عدة آلاف من الفلسطينيين في المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 إلى الشوارع للإعتراض على هذه القوانين الاستعمارية ومواجهة قوة الاحتلال سيفعل أكثر من هذا. سيعيد الأمر إلى أصله، بوصفه فعلاً جمعيًا لمقاومة الاحتلال وخلخلة شروطه.
كان قد سبق لقوة الاحتلال الإسرائيلية أن منحت سلطة أوسلو الحق في تنظيم انتخابات وتشكيل مجلس تشريعي يمثل الفلسطينين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 دون غيرهم، في مقابل الإعتراف بقوة الاحتلال وشرعنة احتلالها واستيطانها للمدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 من جهة، وحماية أمن جنودها وتجمعاتها الاستيطانية من جهة أخرى. وعلى هذا، يبدو أن قوة الاحتلال لا تعارض تقديم ما تسميه "تنازلات" مشروطةٍ في مقابل الاعتراف بشرعية احتلالها، وخلق حالة ممنهجة من القطع بين الفلسطينيين وحقوقهم الأصلية. وبالتالي لا يعتبر السماح للفلسطينيين بمشاركة هامشية في انتخابات الكنيست تنازلاً مهما مقارنة بما قُدِم لسلطة أوسلو، إن وفّرَت تلك المشاركة الفلسطينية في انتخابات الكنيست غطاءً لشرعنة قوة الاحتلال وسياساتها في فلسطين المحتلة.
يدرك قادة اليمين و"اليسار" في قوة الاحتلال هذا الأمر وأهميته، ويفاخرون به في كل مناسبة، للقول بديمقراطية "نظامهم السياسي" مقارنة بالأنظمة السلطوية السائدة في البلدان العربية المجاورة. ورغم وقاحة هذا الإدعاء وفجاجته أمام حجم الدماء الفلسطينية التي تسيل في كل فلسطين المحتلة والتي كان من أواخر ضحاياها الشابان "خير حمدان" من كفر كنا و "سامي الجعار" من مدينة رهط، يعتقد مجموعة لا بأس بها من الفلسطينيين بضرورة المشاركة في انتخابات كنيست قوة الاحتلال متجاهلين بذلك أنهم يشاركون في تحسين صورة قوة الاحتلال الإسرائيلية. بقدر ما يشاركون في شرعنة حالة القهر والاخضاع التي يعيشها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة. مبررين مشاركتهم بكونها "خيارًا عقلانيًا" يبتعد عن الشعاراتية المعتادة، وتمثل فرصة للحصول على حقوق متساوية للفلسطينيين في المدن المحتلة عام 1948. وهي في مجملها مطالبات بحقوق مدنية تتعلق بالعمل والدراسة والسكن والملكية.
على غرار حركات الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي، يطمح معسكر الفلسطينيين المؤيدين للمشاركة في انتخابات كنيست قوة الاحتلال الإسرائيلية، إلى تعزيز مشاركتهم وتمثيلهم داخل مؤسسات قوة الاحتلال رافعين شعارات لا تتجاوز في أحسن أحوالها مطالبات بحقوق متساوية مع المستوطنين في المدن الفلسطينية المحتلة. يرتكز هذا المعسكر في زعمه على ضرورة المشاركة في المنظومة السياسيّة لقوة الاحتلال على مجموعة من الخطابات المُجملة، أبرزها الإدعاء بأن النضال من أجل المساواة هو نضال وطني معادي للصهيونية، وأن هذا النضال لا يتناقض بالضرورة مع الهوية الوطنية الفلسطينية، وأن المشاركة هو حاجة اجتماعية للفلسطينيين، وأن الجمع بين القومية العربية والحالة الديمقراطية هو الخلاص الوحيد من المشروع الصهيوني من جهة. وبديلاً عن حالة عشائرية طائفية مثلما هو سائد في البلدان العربية الأخرى. ومن المفارقات، أن المتابع للحملة الانتخابية للقائمة العربية المشتركة، يدرك كم يسعى مرشحيها إلى الحصول على دعم القوى العائلية والعشائرية التقليدية في هذه الانتخابات، في محاولة لترقيع فجوة الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين مناصري مكونات القائمة المشتركة.
هذا الخطاب المؤيد للمشاركة في المؤسسة التشريعية لقوة الاحتلال يتجاهل بشكل واضح وبقصد، أن المنظومة السياسية التي يريد المشاركة بها، تؤسس لاستمرارية دولة الاستثناء، تلك القائمة في أصلها على سلب الحياة وتقرير الموت الجسدي والسياسي. فضلاً عن سلب الحقوق المدنية والسياسية لصالح جماعات المستوطنين وإخضاع المواطنين الأصليين. الاستثناء الذي يتحقق بمجرد احتوائهم داخل المنظومة التشريعية للمستعمَرة ذاتها التي تقر تشريعات اقصائهم. المشاركة في تلك المنظومة تضع الفلسطينييون على "العتبة"، في أشد مواقع سلطة الاستعمار سطوة على الحياة، إذ يُحرمون من الرجوع للقانون للإعتداد بحقوقهم، في الوقت الذي يُخضَعون فيه لكل أشكاله العقابية.
وفي الوقت الذي يبدو فيه واضحاً أن خطاب مؤيدي المشاركة في انتخابات كنيست قوة الاحتلال يكرس هوية نقيضة للهوية الفلسطينية الجامعة، يطرح مؤيدو المشاركة موقفهم، كفعلٍ نضالي وباسم الشعب الفلسطيني كله والمحافظة على حقوقه ورد العدوان عنه. لكن، حين تطرح عليهم قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وحالة الحرب الشاملة التي يعيشها الفلسطيني في أرضه، يعبرون عن موقفهم "كفعل سياسي" بديل للأحزاب الصهيوينة المشاركة في الانتخابات. يتمركزون هنا في أدنى درجات نظام المستعمرة. فهم لا يسعون بأي حال من الأحوال لقطيعة تاريخية مع الوضع السياسي القائم. بل يمكن القول، أن ما يطرحه مؤيدو المشاركة يعيد شرعنة القوة الإستعمارية مثلما كان حصولهم على مواطنتها المنقوصة شرطاً لشرعنتها في عام 1948.
يحيل المؤيدون للمشاركة في انتخابات كنيست قوة الاحتلال تأييدهم، إلى حالة "الاستثناء"، والتي تبنى من شقين أساسيين، أولهما مُجمَّل بغطاءٍ وطني ذو صيغة احتكارية، يقول أن هذه المجموعة من الفلسطينيين لم يتخلوا عن أرضهم كغيرهم وصمدوا فيها، ولا إرادة لديهم للتنازل عن حقهم هذا. ذلك القول وإن كان في مجمله صحيح، إلا أن به فرضية مضمرة، وفي أغلبها غير واعية "للغيرية" التي تؤسسها حين تقول أن "الغير" لم يتمسك بأرضه بقدر ما هم فعلوا . هذا أيضًا تقول به جزئيًا إحدى سرديات قوة الاحتلال حين تدعي أن الفلسطينيين هم من تركوا قراهم ومدنهم، دون الإشارة لعمليات التطهير المكاني الممنهج التي مارستها عصابات قوة الاحتلال قبل تأسيس مستعمرتهم وبعدها.
الشق الثاني، يفترض أن على الفلسطينيين في المدن والقرى المحتلة عام 1948 كي يعيشوا ماديًا، عليهم أن يقبلوا بالانخراط في النظام القائم مع محاولة تحسين شروط الاضطهاد والقهر. الانخراط في النظام كما يقررها النظام ذاته لهم. أي قبول قوة الاحتلال ومؤسساتها السياسية كمؤسسة وحيدة يمكن لهم من خلالها تمثيل أنفسهم. متجاهلين بذلك، أن المستعمرة منذ تأسيسها أعادت تشكيل منظومة علاقات الإنتاج والقوة، ومنحتهم المرتبة الدنيا فيها، وأن أي انخراط بها في ظل معادلات التراكم الحادثة سيقيدهم في "العتبة" إن لم يجربوا القطع مع المستعمرة ونظامها.
هنا تكمن خطورة خطاب وسردية المشاركة وضرورتها، في أنها تستعين بنفس الأدوات والجهاز المفاهيمي لقوة الاحتلال لا تتورع عن الإقصاء مثلما يفعل الاحتلال، تحاصر الحركة الوطنية بخطابها وبفعلها، تحيل الأمر إلى قضية صراع مدني على الحريات والحقوق المدنية وسقفها وحجم المشاركة، تنزع الأمر من سياقة كقضية تحرر وطني واستعادة للسيادة. خطاب يقبل بالشروط التي يقررها الإستعمار للمستعمَر، و بالحدود التي لا تمس سلطته ومشروعه.
على الجانب الأخر، يطرح معسكر الداعين لمقاطعة انتخابات كنيست قوة الاحتلال موقفهم كبديل ثوري من خارج النظام، ليس كبديل سياسي يتنافس على السلطة بل على السيادة بوصفها للشعب الفلسطيني. يعلنون دون مواربة طرحهم في قطيعة سياسية وتاريخية مع منظومة قوة الاحتلال بمجملها، هذا هو شرطهم الأساسي والسياسي الذي بنى عليه خطابهم. ويعاب عليهم في العادة قبولهم الاشتغال مع القطاع العام والخاص العامل في مدنهم المحتلة. بكلمات أخرى يعيب عليهم مؤيدو المشاركة أنهم يرفعون شعاراتهم عاليًا دون أن يعلنوا عصيانًا مدنيًا ضد قوة الاحتلال ومؤسساتها. هنا تكمن مفارقة مركزية، أن من يدفع بكل قوته ليشارك في المنظومة التشريعية والعقابية لقوة الاحتلال والاخضاع، يدين من أُخضع لتلك القوة القاهرة.
لا يمكن إنكار حالة القهر والتمييز التي يعيشها الفلسطيني في المدن المحتلة عام 1948، ويمكن إدراك أن قوة الاحتلال بوصفها "دولة استثناء" لا تمارس القهر والإخضاع عليهم بموجب السيادة على الأرض فقط، بل على الحياة أيضًا، إذ تعري حيواتهم، تجعلهم ذاتًا خاضعةً للقهر بكل الطرق الممأسسة وغيرها. تستعين في ذلك بخطاب مشوش، خطاب يقصيهم أينما كانت مواقعهم، خارج المنظومة الإستعمارية أم داخلها. ذلك الخطاب الذي يشكك بانتمائهم لمستعمرة قوة الاحتلال بوصفهم عرباً أقل شأناً حيناً، وينكر عليهم انتمائهم العربي والفلسطيني حيناً أخر.
"أنتم تعيشون في دولة ديمقراطية مقارنة بجيرانكم من العرب، عليكم شكرنا والاعتراف لنا بالفضل في مقابل ذلك". هذا ما يررده قادة قوة الاحتلال للفسطينيين في المدن المحتلة عام 1948، وفي مقاربة مشابهة، يردد قادة القائمة العربية المشتركة قائلين، نحن توحدنا في قائمة مشتركة، لسنا مقسمين للمرة الأولى ولسنا مثل العرب في سوريا واليمن والفلسطينيين في غزة والضفة، عليكم دعمنا والتصويت لنا والتجند للعمل لصالحنا، والاعتراف لنا بالفضل في مقابل ذلك. تحمل مؤيديها معروفًا بأنها تمثلهم، وكأن الأمر ليس واجبّا عليهم في حال قبلوا بشروط المشاركة التي تفرضها قوة الإحتلال. وإن رفع أحدهم إعتراضًا في وجه القائمة العربية المشتركة متسائلاً: ماذا حققتكم لنا طوال سنوات مشاركتكم في انتخابات كنيست الاحتلال؟ أجابوا: إسألوا الحكومة، لا أحد في دول العالم الديمقراطية يسأل المعارضة. لكن هذه الإجابة مخادعة كخداع إجابات قوة الاحتلال ذاتها، كل الناخبين في دول العالم الديمقراطية يسائلون ممثليهم سواء كانوا في الحكومة أو خارجها، ويعاقبونها على تقصيرها بوعودها بالتصويت لغيرهم أو الامتناع عن التصويت بالكامل. فضلاً إلى أن هذه "المعارضة" تُمثَل في عدة لجان داخل كنيست قوة الاحتلال وتشارك في اجتماعاتها إلى جوار كل القوى الصهيونية الأخرى.
تحظى القائمة العربية المشتركة بدعم أطراف فلسطينية وعربية عدة، جميعها منخرطة بشكل أو بآخر في مشروع التسوية مع قوة الاحتلال الإسرائيلية. وجميعها تؤيد حل الدولتين دون سواه مثلما تؤيده كل القوى الممثَلة في القائمة المشتركة. إذ بادرت جامعة الدول العربية لتأييد القائمة المشتركة مطالبة الفلسطينيين بالتصويت لها، تبع ذلك إعلان سلطة أوسلو قولاً وفعلاً دعمها للقائمة، واقتصرت مطالبة رئيس السلطة للقائمة بحثهم على الدفاع عن حقوقهم وأن يكونوا كتلة واحدة ترفع شعار السلام، مؤكدًا مرارًا وتكرارًا أنه لا يريد التدخل في "الشأن الداخلي الإسرائيلي". متمنيًا نجاح انتخابات كنيست قوة الاحتلال. وفي الحين الذي منعت فيه سلطة أوسلو نشاطات تناقش ضرورة مقاطعة انتخابات الكنيست، سهلت لحزبها الحاكم "حركة فتح" تنظيم نشاطات لبحث سبل دعم القائمة المشتركة وحث الفلسطينيين في المدن المحتلة عام 1984 على التصويت لها. كذلك فعل اللبناني وليد جنبلاط، الذي حث الدروز الفلسطينيين على التصويت للقائمة المشتركة كمدخل هام لانتزاع حقوقهم المهدورة بالمساواة في المواطنة.
على كل حال، مجمل الداعمين للقائمة المشتركة من خارج المدن والقرى الفلسطينية المحتلة عام 1948، يعبرون عن هذا الدعم صراحة أو ضمناً، لكنهم يؤكدون في كل فرصة، أنهم لا يرغبون في التدخل فيما يعتبرونه "شأنًا إسرائيليًا داخليًا".على النقيض من هذا، وفي قطيعة حقيقية مع الشروط الإستعمارية التي تفرضها قوة الاحتلال بغرض تفتيت الهوية، تمكن معسكر الرافضين للمشاركة في الانتخابات، من إدخال متغير هام في خطابهم، إذ لم تنحصر دعوات المقاطعة على الفلسطينيين في حيفا ويافا وعكا وغيرها. لاجئون فلسطينيون، من كل الأراضي الفلسطينية وخارجها، من مخيمات غزة والضفة ولبنان وسوريا يدعون للمقاطعة. ويرون أن الأمر ليس شأناً إسرائيلياً بل شأناً استعمارياً يمسهم أينما كانوا، يمارسون حقهم بالدعوة لمقاطعة انتخابات تشرعن احتلال بلادهم، يدعون لذلك بوصفهم أصحاب الشأن والسيادة.
لا يكتفي أنصار المشاركة بالتهليل لمواقفهم ومواقف الداعمين لهم كخيار وطني، بل يؤسسون في كل خطاباتهم _ ومنذ مشاركتهم الأولى حتى الأخيرة _ لسردية قاتلة، تنزع القضية عن أصلها، تقبل ب "الولاء للدولة/ للمستعمَرة"، تحيل فعلهم لحركة احتجاج مدنية، تكتفي بتثبيت أقدامهم على رصيف المستعمَرة للتعبير عن مطالبهم. تمنع غيرهم من خلق نقيض صافٍ لقوة الاحتلال وسياساتها، كلما خونتهم أو اتهمتهم بالشعاراتية، تُقيم وتمكن بنية عشائرية تقليدية مستكينة لنظام المستعمَرة. تُعيد شرعنة قوة الاحتلال مع كل مشاركة لها في انتخابات الكنيست، مع كل تحالف تقيمه مع قوى صهيونية تستوطن مدنهم وتخنق أرواحهم وتقرر لهم سياسات الموت.
*باحث فلسطيني