في بداية أيلول/ سبتمبر 2012، جرت مقابلة بين منتخبي ليبيا والجزائر في الدار البيضاء بالمغرب. لعب الليبيون بخشونة. هذا ما تعلموه من القذافي. وحين خسروا اعتبروا ذلك إهانة. فما ان توقفوا عن ركل الكرة حتى شرعوا في ركل الجزائريين، وهذا ما تكرر في لقاء الإياب بالجزائر. في مصر، قُتل 74 شخصا في ملعب بور سعيد، وقد سُمّوا شهداء الكرة قياسا على شهداء الثورة. واضح أن العنف في ليبيا ومصر لم يرحل مع القذافي ومبارك.
في المغرب، تنشأ ساحة حرب في الملعب قبل المباراة وخلالها. يتبادل أنصار الفريقين السبّ والشتم. بعد صفارة الحكَم تجري حرب حقيقية في الشوارع. جمهور من مراهقين، أعمارهم بين 14 و18 سنة، قدموا من أحياء فقيرة، يجتاحون وسط المدينة. تلك فرصتهم للتواجد في الواجهة. ليسوا على صلة بأي شكل تنظيمي. يتبادلون القصف بالحجارة. في شباط/ فبراير 2012 بمدينة أغادير، ألقي القبض على أكثر من 55 شخصا من بينهم 38 قاصرا. وهناك من يقتل دهسا أثناء معارك الكر والفر في الملاعب وفي الشوارع. تحولت الرياضة من وسيلة ترفيهية إلى أداة قتل.
وحين يكسر الجمهور الكراسي ويخرب المدرجات، يفتخر الكاسرون بالإنجاز لأنهم سببوا خسائر للدولة. لم يخطر ببالهم أن الدولة والمقاعد ملْك لهم.
في مباريات حساسة طائفياً في لبنان، يُمنع ببساطة حضور الجمهور! ومع ذلك تتوالى أعمال العنف والشغب داخل الملاعب. تبدأ بالتحريض على الحقد والكراهية، وبعدها يتم اقتحام أرضية الملعب مع حمل أدوات ومواد تيسر ارتكاب العنف، ومع وجود سكر أو تحشيش. يقع هذا مرارا، ولن يعْدم السبب: شخص ما استفز القطيع، رجل أمن أو حكَم أو لاعب.
لوقف هذا شرعت الدولة في المغرب في بناء ملاعب في الضواحي البعيدة. في مدن عديدة من المنطقة برمتها تندلع حرب داحس والغبراء أسبوعيا بين ناديين متنافسين. صارت المقابلات ميزاناً لقياس مزاج الشعب عمليا، مزاج يتجسد في سلوك متفرج يعرَف نفسه باسم ناديه، يعرف نفسه بهويّة تتجسد في التماهي مع فريق كرة. هوية حادة صلبة كدبوس تدمي كل من يقترب منها.
وهذا وجه آخر لانقسامات مجتمع ما قبل الدولة، حيث تمارس الرياضة بمنطق القبيلة الذي لا يقبل الهزيمة. المطلوب أن تنتصر القبيلتان معا أو تتعادلا، ليسود منطق لا غالب لا مغلوب، وهذا ليس مضمونا في كرة القدم. وحتى هذا لا يرضي أيا من أنصار الفريقين، فلا بد من غلَبة.
يجري التخفيف من أثر عنف الملاعب بدعوى أنه من فعل المراهقين. لكن للكبار أيضا عنفهم، وهو يغذي الأول. فعلى الشاشة التي أمامك عنف من نوع آخر، سواء كان الأمر يتعلق بمنبر إعلامي محترف أو بصفحات مواقع التواصل الاجتماعي. سيعتبر المعلقون الليبيون على مقال يتناول ليبيا نشرته «السفير العربي» أن السطر الأول غير صحيح، أو الصورة المختارة التي تمثل ليبيين فقراء وسود البشرة غير لائقة ولا تشبههم. تأخذهم العزة بالإثم. تقسو التعليقات إذا كان المنبر يتجاوز حدود البلد الوحد. في هذه الحالة يظن القارئ العربي أن الكتابة عن بلده حكر على كتَّاب البلد، وحكر على منبر البلد نفسه. فمثلا وحدها الصحف السعودية يحق لها الحديث عن السعودية. بل وحده الكاتب الجزائري المقيم في البلد يحق له الحديث عن الجزائر. لكن ما ان يكتب باحث عن بلده في منبر أجنبي ويجد بعض القراء ما لا يعجبهم، يشتمونه لأنه قدَّم صورة غير مشرِّفة للبلد، يتأسفون لأن ابن البلد وشى بنا، إذاً فهو خائن.
أما إذا كتب باحث أو صحافي أجنبي عن البلد، حتى لو كان ما ذكره صحيحا موثقا، فذلك يثير الغضب ويسمى تطفلا، ولا يمكن أن يكون دافعه إلا الحسد، إن كان البلد المكتوب عنه غنيا. والشماتة إذا كان البلد موضوع المقال فقيرا. فكل كاتب غير سعودي تحدث عن السعودية حسود. وكل من تحدث عن تفكك العراق شامت. وكل من سخر من تقسيم فلسطين بين فتح وحماس عميل. أما إذا كتب صحافي مهاجر عن بلد الاستقبال فيقال له: لمَ لمْ تبق في بلدك؟ وحين يوصف كاتب بأنه علماني فالمقصود أنه كافر. إذا كان الموضوع مكتوبا من طرف امرأة، يتراجع التصنيف السياسي لمصلحة الأوصاف الجنسية، وتغدو فريسة لذيذة لذئاب «النت»...وإن كانت مسيحية، فهي مأجورة للغرب، وإن كانت شيعية تصبح رافضية «ممارسة للمتعة» تستحق الرجم حتى الموت.
في كل هذه الحالات من العنف، يتأمل المعلقون صورة كاتب المقال ويستنبطون شتائم تمس لونه وشكل وجهه وصلعته وحزبه أو طائفته.
عادة يُشتم الكتاب كلما خالف المكتوب الصورة المتخيلة عن النفس لدى المعلق. يُحقر الكاتب ويصغر للحد من تأثير كتاباته.هذه التعليقات هي قمع شعبي يولد رقابة قسرية تردع الكتَّاب. والنتيجة أن المقالات تصير إنشائية والموضوعات تتسطح لأن الكاتب يخشى على قول ما في فكره، ويمرر الأفكار مغلفة بألف احتياط.
ثم نكتشف كل يوم «الجيوش الإلكترونية» المجندة للدفاع عن أنظمتها على «النت». ويبدو أن الجيشين السعودي والسوري في مقدمة الجبهة العنكبوتية، ولكن الجيش الجزائري فعال أيضاً. جيوش مسلحة هي الأخرى بعنف لفظي، طائفي وجنسي، لا يختلف عن ذاك الذي يستخدمه جمهور الكرة. لذا يبدو عنف أفراد هذه الجيوش مألوفاً معتاداً، لا يثير الريبة. فالجامع بين حالات العنف تلك كلها هو المساس بالآخر، كرامته، لونه، وطائفته. ويتم ذلك مع نفي الصفة الجرمية عن الفعلة، وهي التي تنطبق على أنوع العنف الأخرى مثل السرقة والقتل والاغتصاب. ففي مقابلة بين فريقين محليين تستعر المناطقية البغيضة. وفي المقابلات بين البلدان (العربية!) تستعر وطنية جوفاء مريضة. أما من كان آخراً مذهبياً أو طائفياً، فالويل له. العنف جزء من الهوية، فالثقافة الشعبية تكره الضعف، تؤنثه وتحتقره. لذا ينزع الأفراد لإظهار قوتهم بإنتاج العنف اللفظي والبدني، في الملعب وعلى «النت». وهذا يمتِّع الوعي الجمعي. الدليل؟ لا تحظى الصفحات التي تنقصها الشتائم بـ«لايكات» كثيرة وبمتابعة كثيفة على مواقع التواصل الاجتماعي. كما تحظى المقالات التي تخص بلداناً يستعر فيها صراع ذو ملامح طائفية بأعلى نسبة قراءة على الاطلاق.
وهكذا يصبح أي شيء، مقالة أو مباراة رياضية، بدلاً عن ضائع للتوترات المعبِّرة عن عصبيات. ربما كانت هذه الممارسة دفاعية رغم مظهرها الهجومي المجنون، وربما كانت تتستر على مقدار هائل من الإحباط وعدم الرضا عن النفس.
لكن، كيف والحال تلك ننتج معرفة؟ بل حتى تسليات (على سبيل المثال) تعزز الصفة المجتمعية لأي جماعة تتقاسم السكن والعيش في مكان واحد، بكل ما يعني ذلك من تفاصيل. كيف نؤسس للتمدن؟
سؤال قديم نعود إليه اليوم! وننتظر آراءكم وتعليقاتكم وتجاربكم في المجال.
إعداد "السفير العربي"
اكتبوا لنا على
arabi@assafir.com