أخيراً، وبعد قرابة خمسة أشهر على قرارات 25 تموز/ يوليو 2021 ("انقلاب" أو "حركة تصحيحية" حسب الموقف من الرئيس والموقع من السلطة)، استجاب قيس سعيّد للدعوات المتكررة في الداخل والخارج لوضع سقف زمني للمرحلة الاستثنائية التي تعيشها البلاد، ورسم خارطة طريق للعودة إلى "المسار الديمقراطي".
أعلن رئيس الجمهورية يوم 13 كانون الأول/ ديسمبر المحطات الرئيسية للمرحلة القادمة: استشارة إلكترونية ما بين الأول من كانون الثاني/ يناير، و20 آذار/ مارس2022 حول ما يجب تعديله في الدستور، يليها استفتاء شعبي في 25 تموز/ يوليو 2022 على تعديل الدستور، ثم انتخابات تشريعية في 17 كانون الأول/ ديسمبر من السنة نفسها. ولم ينسَ سعيّد أن يوضح: "يبقى المجلس البرلماني معلقاً أو مجمداً إلى تاريخ تنظيم انتخابات جديدة". باختصار، ستظل السلطتين التشريعية والتنفيذية في يدي الرئيس وحده لمدة سنة أخرى على الأقل.
خارطة (تعبيد) الطريق..
من الواضح أن الرئيس لا يريد حل البرلمان، لأن ذلك يعني بكل بساطة المرور إلى انتخابات سابقة لأوانها في غضون أسابيع، وانتخاب برلمان جديد وفق القانون الانتخابي الحالي، مما قد يعني عودة خصوم الرئيس إلى البرلمان وتوافقهم على عزله. لذا يفضل سعيّد أن يبقى البرلمان الحالي معلقاً وحاضراً بالغياب. ومن الجلي أيضاً أن إعلان الرئيس لخارطة الطريق هو قبل كل شيء لتخفيف وطأة الضغوط الخارجية (الأمريكية والأوروبية)، وسحب البساط من تحت أقدام الخصوم المحليين وكل من طالب بوضع سقف زمني للإجراءات والوضعية الاستثنائية. كما أن وضع سقف للوضع الاستثنائي يقوّي احتمالات حصول حكومة الرئيس على قروض و"هبات" خارجية ضرورية لإنعاش الخزينة العمومية التي تعاني من عجز مهول ونسبة دين عمومي مخيفة.
يُذكِّر الرئيس دائماً بمشروعه الأكبر لمقاومة الفقر: صلح مع رجال الأعمال الفاسدين الذين حصلوا على قروض مشبوهة، عبر تخييرهم بين الاستثمار في المناطق الأقل حظاً أو المحاسبة القضائية، مع اعتماد تراتبية "منطقية"، تبدأ عند الأكثر فساداً الذي عليه أن يستثمر في المعتمديات (تقسيم إداري، أصغر من المحافظة) الأكثر فقراً، وهكذا دواليك. وبنظره، فإن الفقر والبطالة والمديونية نابعةٌ عن الفساد.
سقف زمني شاهق مقارنة بوضع البلاد! فهي ليست خارجةً من حرب أهلية، أو بصدد التحضير لأول انتخابات في تاريخها حتى يتطلب الأمر كل هذا الوقت، كما أن وضعيتها الاقتصادية والاجتماعية لا تحتمل المزيد من الضبابية والعشوائية. يمنح الرئيس نفسه ما يحتاجه من وقت لتعبيد الطريق أمام برنامجه لتغيير النظام السياسي في تونس، وإبعاد القوى السياسية والمدنية عن دائرة القرار، خاصةً وأنه أصبح بإمكانه إدارة الفترة القادمة بمراسيم يصدرها دون أي "إزعاج" من قبل مجلس نواب الشعب.
تونس على حدود الشرعية الديمقراطية
11-09-2021
الاستشارة الإلكترونية التي يقترحها الرئيس، وإن كانت من حيث المبدأ مبادرةً جميلة، وتأسيساً لفكرة الديمقراطية المباشرة والمواطَنة النشيطة، فإنها في السياق الراهن تعتبر مناورةً لكسب الوقت، وتحايلاً على ضرورة التحاور مع القوى السياسية والمدنية.
حتى على المستوى التقني، تثير مبادرة الاستشارة الإلكترونية سخرية وشكوك الكثير من التونسيين الذين يعلمون مدى تخلف الثقافة "الرقمية" في مؤسسات الدولة التونسية: مواقع "ثقيلة" وغير محدّثة، ندرة الخدمات الإدارية الرقمية، غياب قواعد السلامة الإلكترونية حتى في مواقع حساسة تخزّن معطيات شخصية أو تتم عبرها معاملات مالية، خوادم غير قادرة على التعامل مع إقبال كثيف في وقت قصير (أصيب موقع تحميل الجوازات الصحية بعطب كبير لأن 13 ألف مستعمل أدخلوا حساباتهم في وقت واحد) الخ.
يمنح الرئيس نفسه ما يحتاجه من وقت لتعبيد الطريق أمام برنامجه لتغيير النظام السياسي في تونس، وإبعاد القوى السياسية والمدنية عن دائرة القرار، خاصةً وأنه أصبح بإمكانه إدارة الفترة القادمة بمراسيم يصدرها دون أي "إزعاج" من قبل مجلس نواب الشعب.
أما الاستفتاء الشعبي على تعديل الدستور فيبدو أن الرئيس يريد منه أن يكون إعلان مبايعة وتفويضاً شعبياً رسمياً يمكّنه من دسترة رؤاه السياسية، والسعي إلى تنزيلها في أرض الواقع دون أن يُتهم بالانقلاب على الدستور والديمقراطية.
ماذا تبقى إذاً؟ الانتخابات التشريعية التي ستقام بعد تعديل الدستور والقانون الانتخابي، فتأتي بمجلس نواب منزوع الأنياب غير قادر على محاصرة الرئيس وعزله، حتى وإن حاز معارضوه على أغلبية المقاعد، دون أن ننسى فرضية أن يكون للرئيس "حزبٌ" (قوائم مستقلة وائتلافات شبايية) غير رسمي يمثله بشكل غير معلن في الانتخابات.
مونولوج..
في الأيام الأولى التي تلت إعلان 25 تموز/ يوليو 2021، نظّم الرئيس ماراثوناً من اللقاءات مع المنظمات النقابية والحقوقية والشخصيات الوطنية وبعض الأحزاب والسفراء وممثلي تجمعات إقليمية ودولية.. بهدف شرح دوافع القرارات التي اتخذها، وتقديم تطمينات حول الحريات والمسار الديمقراطي ووعود بالتشاور والحوار. لكن لم تطل تلك الفترة كثيراً، وبدأت تقل حركة أبواب قصر قرطاج، فلا تفتح إلا أمام الأجانب، أو فئة قليلة من "المحليين" المحظوظين في مناسبات متفرقة، ليس للحوار والتشاور بل ليسمع فيها الرئيس نفسه أولاً وأخيراً. يرفض الرئيس التحدث إلى الصحافة، خاصةً المحلية، ويكتفي بخطابات مسجلة أو مباشرة تبثها صفحته الرسمية على فيسبوك و/أو القنوات التلفزية. ولا يستشير إلا نفسه أو دائرة صغيرة جداً من المقربين الموالين تماماً، حتى عندما يتعلق الأمر بقرارات هامة ومؤثرة على مستقبل البلاد.
تطغى على خطابات قيس سعيّد الضبابية والشعاراتية والانفعال. يتحدث في كل خطاب تقريباً عن أعداء الوطن والشعب الذين يتآمرون ويحيكون المكائد، ولكن لا يسمّيهم. يتوعد الفاسدين والمحتكرين والناهبين للمال العمومي ومستعملي المال السياسي، لكن لا يسمّيهم أيضاً ولا يوضح آليات المحاسبة. يتحدث عن ضرورة إصلاح القضاء الذي يقف عائقاً أمام المحاسبة، لكنه لا يضع تصورات واضحة تمكّن من ذلك دون المساس باستقلالية السلطة القضائية. وكثيراً ما يستعمل معجماً مثقلاً بمعاني الاستئصال عند الحديث عن أعداء(ه) الوطن: "جراثيم"، "فيروسات"، "جوائح"، "تنقية"، "تطهير"، الخ.
كما تبدو معارف وأفكار الرجل الاقتصادية محدودةً إلى درجة تُقارب السذاجة و"الطرافة" أحياناً. لن نتوقف كثيراً عند ضعف إلمامه بالأسعار وآليات وديناميات السوق، ولا خلطه بين الملايين والمليارات وعدم تثبته من منطقية الأرقام التي يوردها في تصريحاته. تتناهى إلى مسامع الرئيس أصداءُ سخط الناس على غلاء أسعار المواد الغذائية مثل لحوم الدواجن والزيوت النباتية والغلال/ الخضراوات، واختفاء بعضها بحكم الاحتكار، وغضبهم من ممارسات مافيات الحديد ومواد البناء.. يسمع بكل ذلك فيستشيط غيضاً ويخرج من قصر قرطاج مصحوباً بقوى الأمن ليقتحم مخزناً للفواكه أو الحديد غاضباً ومتوعداً المحتكرين والفاسدين. تحدث ضجة إعلامية كبيرة وتتوارد أنباء عن حملة اعتقالات، لكن لا شيء يتغير وتبقى الأسعار على حالها.
أمر قيس سعيِّد بتغيير تاريخ عيد الثورة ليصبح يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر، يوم أحرق البوعزيزي نفسه، بدلاً من 14 كانون الثاني/ يناير يوم هرب بن علي ناجياً بنفسه، لأنه يعتقد أن التاريخ الثاني يمثل لحظة سرقة الثورة من قبل النخب والأحزاب، وأنه يجب أن يعود الفضل إلى أصحابه، منتصراً هكذا للثوار ومعبراً عن انتمائه لهم.
لا يفوّت الرئيس أي فرصة للتذكير بمشروعه الأكبر لمقاومة الفقر: صلح مع رجال الأعمال الفاسدين الذين حصلوا على قروض مشبوهة، عبر تخييرهم بين الاستثمار في المناطق الأقل حظاً أو المحاسبة القضائية، مع اعتماد تراتبية "منطقية"، تبدأ عند الأكثر فساداً الذي عليه أن يستثمر في المعتمديات (تقسيم إداري، أصغر من المحافظة) الأكثر فقراً، وهكذا دواليك. بالنسبة لقيس سعيّد فإن الفقر والبطالة والمديونية نابعةٌ عن الفساد، لا عن النمط الرأسمالي والسياسات الليبرالية بحد ذاتها. لا يتطلب الأمر إذاً إلا بعض الإصلاحات ومحاسبة لحفنة من الأشرار حتى يسود العدل والرخاء.
البوعزيزي وبورقيبة وعمر ولينين والحسين..
ليس لقيس سعيّد تاريخ نضالي في المعارضة زمن الديكتاتورية، أو مسيرة سياسية طويلة أو تجارب حزبية وانتماءات أيديولوجية واضحة. أستاذٌ جامعي متقاعد درّس القانون الدستوري، واكتسب شهرته - قبل فوزه في رئاسيات 2019 - أساساً عبر ظهوره عدة مرات في وسائل الإعلام ليعطي رأيه في مسائل دستورية، وبشكل أقل خلال تجواله في مختلف مناطق البلاد مروجاً ومفسراً لمشروع الديمقراطية "القاعدية" أو المباشرة الذي يتبناه منذ سنوات.
يقوم هذا المشروع على انتخاب مجالس محلية (على مستوى العمادات والمعتمديات) تصعِّد أحد أعضائها ليمثلها في مجلس جهوي (على مستوى المحافظة) ينبثق منها فيما بعد مجلس وطني يلعب دوراً يشابه وظيفة البرلمان. وتكون للمجالس المحلية والجهوية صلاحيات كبيرة وشبه كاملة في إدارة شؤون المنطقة دون العودة إلى "المركز"، كما يحق للناخبين سحب التكليف من النواب المنتخبين إذا ما أخلّوا بواجباتهم. ويكون الاقتراع على الأفراد عوضاً عن القوائم الحزبية والائتلافية والمستقلة. ويتردد كثيراً أن هذا المشروع لم يتبلور بتصور من قيس سعيّد لوحده، بل بتأثير كبير من صديقه رضا "لينين" (رضا شهاب المكي) الذي كان في شبابه مناضلاً طلابياً شيوعياً ثم أصبح بعد 2011 حاملاً لمشروع بديل عن الطروحات الماركسية-اللينينية الكلاسيكية التي كان يتبناها سابقاً. مشروع لا مكان فيه للديمقراطية النيابية/ التمثيلية التي "أفلست وانتهى عهدها" ولا للأحزاب التي أصبحت على "هامش الدنيا في حالة احتضار، وربما يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها.. التعددية ستبقى قائمةً إلى أن تندثر وحدها"، ولا الأيديولوجيات التي " قد تجاوزها الزمن".
لنتأمل قليلاً في رمزيات خارطة طريق الرئيس: تنطلق الاستشارة في بداية كانون الثاني/ يناير وهو في تونس شهر الانتفاضات والثورات، وتنتهي يوم 20 آذار/ مارس أي في عيد الاستقلال. أما الاستفتاء على تعديل الدستور فسيكون في عيد الجمهورية أي في 25 تموز/ يوليو في حين تُنظّم الانتخابات يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر أي التاريخ الذي أضرم فيه محمد البوعزيزي النار في جسده سنة 2010. كما أن قيس سعيد أمر بتغيير تاريخ عيد الثورة ليصبح يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر بدلاً من 14 كانون الثاني/ يناير، لأنه يعتقد أن التاريخ الثاني يمثل لحظة سرقة الثورة من قبل النخب والأحزاب، وأنه يجب أن يعود الفضل إلى أصحابه، منتصراً هكذا للثوار ومعبراً عن انتمائه لهم.
ذلك اليوم، عندما انعطفنا يساراً..
14-01-2021
الثورة كفعل يومي في تونس أو قوة المستضعفين
04-02-2021
تتعدد الرمزيات والشرعيات التي يستدعيها قيس سعيّد بحثاً عن موقع متفرد في المشهد السياسي. فهو تارةً "ابن الشعب" المنتفض، وتارةً أخرى رجل دولة وحامي الجمهورية وابن "الدولة الوطنية" التي أرسى الحبيب بورقيبة دعائمها الفكرية والمؤسساتية، وتارةً ثالثة المفكر صاحب العقل السياسي "المبدع" بمشروعه "المجالسي". تضاف إلى كل هذا مرجعيات/ رمزيات ذات بعد ديني. كثيراً ما يستشهد قيس سعيّد بكلام الخليفة عمر بن الخطاب، وصرح أكثر من مرة أن "الفاروق" قدوته، حتى إنه وخلال لقاء جمعه في 2020 بوزير أملاك الدولة توجه إليه قائلاً: "تعرفون ما قاله (عمر) ذات يوم: "لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها لمَ لم تمهد لها الطريق يا عمر؟ أنا سأقف بين يدي ربي ولا أخاف إلا الله رب العالمين ليسألني لمَ سكتُ عن هذا الحق لأنه حق، والساكت عن الحق شيطان أخرس". وهكذا يرى قيس سعيّد نفسه راعي مسؤول عن رعيته. والملاحظ أنه يميل إلى استعمال كلمتي "التونسيين" و"الشعب" أكثر من كلمة "المواطنين".
بعد 25 تموز/ يوليو 2021 تنامت النبرات "الميسيانية" و"الحسينية" والزهدية" في خطابات قيس سعيّد الذي بات يرى نفسه المخلّص الذي أنقذ البلاد عندما كانت على مشارف الانهيار، مبعوث العناية الإلهية الذي أرسل لمعالجة آلام التونسيين وجبر خواطرهم. ويُستشف من كلامه المتكرر عن الأعداء والأشرار والمتآمرين أن الرجل يعتبر نفسه يواجه الأهوال لوحده، وكذلك تكالب الخصوم عليه، متسلحاً بالصدق والحق والعزيمة حتى يدحر مخططاتهم. كما لا يكف عن التذكير بأنه لا يهاب الموت، ويعتبر منصبه مسؤوليةً جسيمة يتحملها إكراهاً لا طمعاً.
على من/ ماذا يعتمد قيس سعيّد؟
على "الدعم الشعبي" أساساً، فلقد حصل الرجل على قرابة ثلاثة ملايين صوت في رئاسيات 2019، ولقيت القرارات التي أعلنها يوم 25 تموز/ يوليو 2021 تأييداً واسعاً في الشارع التونسي. لكن يجب أن يتعامل الرئيس بحذر مع هذه المعطيات، فنتائج الرئاسيات كانت لتختلف لو وضعته الدورة الثانية مع شخصية أكثر مقبولية من المرشح نبيل القروي الذي تتعلق به تهم فساد وتبييض أموال. فقيس سعيّد حصل في الدور الأول على 600 ألف صوت فقط، ولا يعقل أن يتضاعف عدد أنصاره قرابة خمس مرات خلال أسبوع فقط (المدة الفاصلة بين الدورتين). مئات الآلاف من المواطنين انتخبوا قيس سعيّد في الدورة الثانية لقطع الطريق فحسب أمام نبيل القروي. أما بالنسبة للتأييد الشعبي بعد 25 تموز/ يوليو فهو في جزء كبير منه انتقامٌ من عقد من حكم حركة النهضة وحلفائها، ورد فعل على الفشل المريع للسلطة في إدارة الأزمة الوبائية. كما يجب أن يتنبه قيس سعيّد إلى أن غالبية التونسيين تعتبر الملف الاقتصادي-الاجتماعي أولوية وما زلت تنتظر إشارات ومؤشرات الإصلاح، وإنْ بقيت الرؤية ضبابية كما هو الحال الآن، فالكثيرون سينفضّون من حوله. وحتى الأنصار "الخفيين" للرئيس الذين ينشطون أساساً في مواقع التواصل الاجتماعي، فهم لا يمثلون جسماً واحداً ينضبط لقرارات مركزية وينسق تحركاته.
ومن الجلي أن قيس سعيّد، وفي ظل عدم امتلاكه لحزام حزبي/ منظماتي داعم، وتوجسه من الجميع، لا يعطي ثقته إلا للمؤسسات التي يستطيع "التحكم" فيها، أي الجيش وقوات الأمن. لكن هذه الأخيرة قد "تتحكم" بالرئيس في ظل العزلة الاختيارية التي يعيشها وينمّيها كل يوم أكثر، وحديثه المتواصل عن المؤامرات ومحاولات الاغتيال. كما أن الدفع بالعسكر والشرطة - بدلاً من المدنيين - إلى الواجهة قد يضع الرئيس في مواجهة عنيفة مع الحركات الاجتماعية والاحتجاجات، مما سيساهم في تراجع شعبيته وتآكل "شرعيته".
أما على المستوى الخارجي، فيحاول قيس سعيّد نسج تحالفات ومد قنوات اتصال على المستوى الإقليمي والدولي: الجزائر في منطقة المغرب العربي، مصر وبعض الدول الخليجية في المشرق، وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة في العالم. تطورت العلاقات بشكل كبير مع الجزائر، سواء على مستوى الدعم المالي أو التنسيق الأمني - الاستخباراتي وتقارب الرؤى في ملفات إقليمية مثل الوضع في ليبيا. وكان لافتاً امتناع تونس في تشرين الأول/ أكتوبر عن التصويت - رفقة روسيا - لصالح قرار مجلس الأمن الدولي القاضي بتمديد عمل بعثة “المينورسو” في الصحراء الغربية لمدة سنة إضافية، وهو ما اعتبرته المغرب تخلياً من تونس عن حيادها التقليدي، وانحيازها للموقف الجزائري.
تنامت النبرات "الميسيانية" و"الحسينية" والزهدية" في خطابات الرئيس بعد قراراته في 25 تموز/ يوليو 2021. فهو يرى نفسه المخلّص، منقذ البلاد عندما كانت على مشارف الانهيار، مبعوث العناية الإلهية الذي أرسل لمعالجة آلام التونسيين وجبر خواطرهم. ويُستشف من كلامه المتكرر عن الأعداء والأشرار والمتآمرين، أنه يعتبر نفسه يواجه الأهوال لوحده، وتكالب الخصوم عليه، متسلحاً بالصدق والحق والعزيمة.
تطورت أيضاً العلاقات مع مصر والإمارات والسعودية على خلفية الموقف من الإخوان المسلمين في المنطقة. وعلى الرغم من بعض الضغوط الشكلية على قيس سعيّد من قبل الدول الغربية بهدف تحديد سقف للوضع الاستثنائي ووضع خطة للخروج منه، فلم يكن هناك عداءٌ واضح له أو دعمٌ قوي لخصومه. لكن هذا "التساهل" الغربي له أثمانه طبعاً.
تحالفات و"أعمدة" أغلبها غير متين وظرفي، وقد تجبر الرئيس التونسي على تقديم تنازلات عديدة لإدامتها وتقويتها، وسيكون عليه أحياناً التعامل مع "تضارب المصالح" بين هذا الطرف وذاك.
في المقابل يبدع قيس سعيّد في صنع خصوم جدد، وتنفير المؤيدين الصريحين والمتحفّظين، نظراً لتجاهله الأحزاب، وتهميشه لمكونات المجتمع المدني الوازنة، ونفوره من التعامل مع وسائل الإعلام المحلية، وقبل كل شيء انفراده بالقرار. حتى الذين دعموه بكل حماس في 25 تموز/ يوليو كرهاً بـ"النهضة" و/ أو أملاً في الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، فقد بدأ صبرهم ينفذ.
حصل سعيّد على قرابة ثلاثة ملايين صوت في رئاسيات 2019. ولكنه في الدورة الأولى حصل على 600 ألف صوت. ولا يعقل أن يتضاعف عدد مؤيديه قرابة خمس مرات خلال أسبوع فقط. مئات الآلاف من المواطنين انتخبوا قيس سعيّد في الدورة الثانية لقطع الطريق فحسب أمام نبيل القروي، المرشح الذي تتعلق به تهم فساد وتبييض أموال.
ما حدث في 25 تموز/ يوليو قد يكون "الشر الذي لا بد منه": لم يكن وضع البلاد حينها يتحمل مزيداً من استهتار الحكومة وتهريج البرلمان وتحالف المافيات. ولعل القرارات التي اتُخذت ليلتها حالت دون وقوع صدامات عنيفة يمكن أن تتطور إلى مواجهة مفتوحة بين الإسلاميين وخصومهم، كما أنها أنقذت آلاف الأرواح مع التحسن الكبير الذي عرفته إدارة الأزمة الوبائية.
بالإضافة إلى حركة النهضة والأحزاب المتحالفة معها، تتشكل في الآونة الأخيرة تحالفات حزبية معارضة جديدة، وتشتد حدة بيانات المنظمات الحقوقية، وتتوالى المواقف الغاضبة لقيادة الاتحاد التونسي للشغل، المنظمة النقابية ذات الثقل البشري والتاريخي الكبيرين.
القطاع العمومي في تونس: ثلاثون تهدم ثلاثين..
22-03-2018
اللامركزية: علاجٌ معجزة لتونس متأزمة؟
01-02-2018
اتحاد الشغل مثلاً كان داعماً لقرارات قيس سعيّد في 25 تموز/ يوليو، مع المطالبة باحترام الحقوق والحريات وإعلان سقف زمني وخارطة طريق، وبقيت قياداته على اتصال وتناغم نسبي مع الرئيس حتى نهاية الخريف الفائت، لكن العلاقات بدأت تتدهور في الآونة الأخيرة بعد مفاوضات الحكومة مع البنك الدولي حول قرض جديد، وما يبدو من مؤشرات على نيتها الاستجابة لشروط الممولين المتمثلة أساساً بتجميد الزيادات في الأجور لمدة خمس سنوات، وتقليص كتلة الأجور في القطاع العام، وخصخصة مؤسسات عمومية، ورفع الدعم عن أغلب السلع الأساسية، واتخاذ إجراءات تقشفية جديدة.
وعبّر الأمين العام لاتحاد الشغل في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2021 عن رفض منظمته لهذه الشروط واستعدادها للتصدي لها. وفي 22 من الشهر نفسه أضاف الأمين العام تحذيراً شديد اللهجة: "تريدونها معركة ازدهار سنكون في المقدمة، وإذا أردتموها معركة كسر عظام فنحن لها". تحذير لا يبدو أنه أثّر كثيراً في قيس سعيّد الذي رد بعد ساعات: "نحن نريد العظمة لبلادنا ونريد أن نموت موت العِظام ولا نتحدّث عن كسر العظام... لا أريد أن أتحدّث عن كسر عظم أيّ كان، لكن فلينظروا في القواميس لمعرفة الفرق بين العَظمة والعِظام". هذه المناوشات الكلامية قد تتحول إلى معركة حقيقية في الأسابيع القادمة مع دخول قانون المالية الجديد حيز التنفيذ، وإمكانية التوصل إلى اتفاق مع البنك الدولي وتواصل الأزمة الاقتصادية.
***
ما حدث في 25 تموز/ يوليو يمكن أن يوصف بـ"الشر الذي لا بد منه". لم يكن وضع البلاد حينها يتحمل مزيداً من استهتار الحكومة وتهريج البرلمان وتحالف المافيات. وقد تكون القرارات التي اتخذت ليلتها حالت دون وقوع صدامات عنيفة يمكن أن تتطور إلى مواجهة مفتوحة بين الإسلاميين وخصومهم، كما أنها أنقذت مئات وآلاف الأرواح مع التحسن الكبير الذي عرفته إدارة الأزمة الوبائية. لكن كل هذا لا يمنح قيس سعيّد الحق ولا الشرعية في الانفراد بالقرار، وتسطير مستقبل البلاد وفقاً لتصوراته الشخصية.
التلقيح ضد كوفيد-19 في تونس: جرعات "مسيّسة"
30-09-2021
تعيش تونس وضعاً استثنائياً بالفعل، لا هو بالديكتاتورية الصريحة ولا بالديمقراطية "الصحيحة". يفعل الرئيس ما يريد، ويقول خصومه ما يريدونه، وما بينهما، يترقب أغلب المواطنين بصيص أمل ومؤشرات تغيير لأوضاعهم الاقتصادية - الاجتماعية التي تتردى كل يوم أكثر. يمسك الرئيس بصلاحيات وسلطات لم يسبق أن تجمعت في يد شخص واحد - قانونياً على الأقل - في تونس منذ منتصف القرن التاسع عشر. لا دلائلَ واضحة على قدرة القوى السياسية في تونس على تصحيح مسار "تصحيح المسار" أو الانقلاب على "الانقلاب". وبغض النظر عما يردده أنصار الرئيس عن صدق نوايا الرجل وزهده في المكاسب الشخصية، فإن الحكم الفردي والتفرد بالرأي لم تكن يوماً مؤشرات مطمئنة.. الطريق إلى الجحيم معبد بالنوايا الحسنة.