بينما امتدت الطوابير الطويلة على مداخل ميدان التحرير لساعات، راسمة بالمنتظرين في صفوفها الحد الفاصل بين عالمين، لتقودهم بعد إجراءات التفتيش إلى عالم الثماني عشرة يوم الطوباوي، كانت صفوف من المعتصمين داخل الميدان تستقبل القادمين الجدد بأهزوجة "أهلاً أهلاً بالثوار.. أهلاً أهلاً بالأحرار" على الإيقاع المنضبط لدقات الأواني المعدنية وتصفيق الأيدي التي صلّبها برد كانون الثاني/ يناير وحماء ثورته. أضحت موسيقى مراسم الاستقبال عنواناً ليوتوبيا التحرير، وأغاني رامي عصام (فقيرة الموسيقى، ساخرة النصوص، سهلة الترداد) أيقونته العفوية جنباً إلي جنب مع طربيات "مصطفى سعيد" المؤلمة في ثقلها، ومعها تراث "سيد درويش" و "الشيخ إمام" الذي أعادته للحياة فرقة "إسكندريلا". كانت موسيقى التحرير عنواناً لرحابة لحظته الاستثنائية، فاعتلاء كورال كنيسة "قصر الدوبارة" الإنجيلية لمنصة الاعتصام بترنيمة "بارِك بلادي" التي طالما ردّدها المعتصمون من المسلمين بحماسة لا تقل عن رفاقهم الأقباط، بدا وكأنه كسر لتاريخ طويل من التنابذ الطائفي وتحرير للفضاء العام من قيود السلطة والهويات الخانقة.
لكن مزاج الميدان الموسيقي لم يكن متسامحاً على إطلاقه. فمحاولة المغني واسع الشهرة "تامر حسني" التسلل إلى التحرير بتوبة متأخرة، انتهت بالقبض عليه من اللجان الشعبية، ثم طرده خارج الاعتصام بعد قدر لا بأس به من الإهانة. لاحقاً، وعبر شهور من الاضطرابات السياسية، كان الفرز الموسيقي يسير على أشده جنباً إلى جنب مع عمليات الفرز السياسي. فبينما وجد فيه الموسيقيون المحرومون من الولوج للفضاء العام نقطه للتلاقي بينهم وبين جمهور باحث عمن يمثله، تصدى فريق من موسيقييّ "الرواج" لشن حملة إعلامية ضارية على الثورة، كان على رأسها "عمرو مصطفى"، واندفع فريق آخر منهم لتضمين الموضوع الثوري في منتجهم الموسيقي لأغراض ترويجية. كانت تلك إرهاصات أولية لمعركة تحتدم عند تقاطع يشمل الوضع السياسي والاجتماعي القائم، والرغبة في التغيير، والموسيقى الرائجة ومؤسساتها، والحاجة لطرح خيار موسيقي بديل.
الموسيقى البديلة وإشكالية التعريف
ارتبط صعود مصطلح الموسيقى البديلة بتلك الثورات، فشهد العام 2011 تدشين "مهرجان قرطاج للموسيقى البديلة"، وبعده بعامين مهرجان "دم تك" للموسيقى البديلة في عَمّان بالأردن، بالإضافة لعدد من الملتقيات انطلقت تحت مظلة المصطلح نفسه في دول عربية منها لبنان وفلسطين ومصر... وعلى الرغم من رواج المصطلح في الأدبيات المكتوبة بالعربية مؤخراً، إلا أن الموسيقى البديلة تواجه المعنيين بتحليلها بإشكالية اصطلاحية غير هيّنة. فاعتماد المصطلح على صيغة سلبية، تعرِّف ذلك النوع الموسيقي فقط بنفي تنميطه داخل أي من القوالب الفنية المعتمَدة، كالموسيقى التجارية والفولكلورية والشعبية والغربية.. لا يطرح تأطيراً واضحاً أو تعريفاً متماسكاً لمحدِّدات الموسيقى البديلة جمالياً أو إيديولوجياً. بالإضافة لذلك، يبدو المصطلح غير منضبط إجرائياً، فيتم استبداله أو إحلاله بمصطلحي الموسيقى المستقلة حيناً وموسيقى "الإندرجروند" حيناً آخر. وبينما يفضل فنانون توانسة وأردنيون ولبنانيون (والمؤسسات الثقافية في بلدانهم) استخدام مصطلح "البديلة"، تظل المؤسسات الثقافية الأهلية المصرية وفنانوها وفية لمصطلح "الموسيقى المستقلة" الأقدم. يرجع الاخلاص المصري للمصطلح الثاني للخلفيات التاريخية لعملية الإنتاج الفني في مصر، والتي ظلت حكراً على الدولة منذ مطلع الخمسينيات وحتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، ثم تمّ تقاسم مواردها وأسواقها لاحقاً بين مؤسسات الدولة ورأسمالية شبة احتكارية ارتبطت عضوياً بالنظام الحاكم. من هنا وجد الموسيقيون المصريون الباحثون عن تجريب بدائل مفارِقة للسائد ضالتهم في مصطلح الموسيقى المستقلة، لتوصيف سعيهم لتحرير منتجهم الفني من ارتباطه تمويلياً بمحددات السلطة ومتطلبات السوق الاستهلاكية، في تأطير ضمني لمنتجهم الموسيقي على أساس إيديولوجي معني بطبيعة عمليات الإنتاج الفني ومواردها ومحدداتها السوقية، من دون إبداء حماسة مماثلة لصيغة الفن البديل التي تبدو معنية أكثر بجماليات الشكل الموسيقي وتفاصيله التقنية.
الفرص الغنية.. والأخرى المؤلمة
فتحت الثورة المصرية آفاقاً استثنائية أمام موسيقى البدائل على أكثر من مستوى. فتحول الموسيقى الى ركن أساسي من الفعل الاحتجاجي والثوري، كسر الحصار التي فرضته الدولة في السابق على الفن المستقل، وفتح الفضاء العام بكامله كساحة مباشرة للتفاعل بين الموسيقيين والجماهير من دون وسائط. لم يكن الغناء في التظاهرات هي صيغة التحرر الوحيدة، فمهرجان "الفن ميدان" الذي جاب ميادين المدن المصرية بعد الثورة لتقديم فنون مستقلة، بينها الموسيقى مجاناً للجمهور، كان فرصة لموسيقيين اقتصرت عروضهم في السابق على قاعات وسط مدينة القاهرة ودوائر نخبتها الثقافية المحدودة، لمواجهة جمهور لم يعهدوه ولم يعهدهم. تبِع كسر حصار الفضاء العام في الشوارع والميادين، انفتاح غير مسبوق في دوائر الإعلام، فوجدت أغاني "حمزة نمرة" و "إسكندريلا" مكاناً في برامج محطات الإذاعة الخاصة، وأضحت استضافة موسيقيين مستقلين مصريين وعرب في برامج "التوك شو" في قنوات التلفزيون الخاصة والحكومية فقرة شبه أسبوعية، بل وجدت فرق الغناء البديل طريقها لبرنامج "البرنامج" الأوسع انتشاراً على الإطلاق.
دفعت الروح الجماعية التي أشعلتها الثورة، صيغاً مختلفة لتأليف المنتج الموسيقي، فتوّج "مشروع كورال" رحلته الفنية الذي بدأت قبل الثورة بقليل بأغنيته الأكثر شهرة "حياة الميدان"، وجاب مدناً مصرية وعواصم عربية وأوروبية، مُشرِكاً جمهوراً من غير المحترفين في تأليف كلمات وألحان الأغاني وتأديتها جماعياً. من جانب آخر، طرحت الثورة أسئلة حول دور الموسيقى في المجال العام، وانطلقت قوافل "المورد الثقافي" التي حوت موسيقيين وفنانين مستقلين في مجالات أخرى لمخيمات اللاجئين السوريين في دول الجوار السوري، بالإضافة لقرى معدمة في صعيد مصر، تحت عنوان "قوافل الإغاثة الثقافية".
لكن انفتاح الموسيقى البديلة على الفضاء العام حمل معه خيارات مؤلمة أيضاً. فسرعان ما اندفع فريق من الموسيقيين المستقلين لاستغلال ومضة الشهرة الاستثنائية التي أتاحتها الثورة للاندماج داخل منظومة الإنتاج الفني الاستهلاكية، مقدمين عروضاً برعاية شركات رأسمالية ضخمة. بل لم يجد بعض منهم في بعض الأحيان غضاضة من المشاركة في عروض أمام رجالات الدولة وبرعايتها. فعلى سبيل المثال، قبل المغني "محمد محسن" دعوة للغناء أمام رئيس الجمهورية ولفيف من رجالات السلطة، وإن كان قد تمّ منعه في آخر لحظة قبل العرض. وقدم فريق "إسكندريلا" عرضاً برعاية السفارة المصرية في لندن توخوا فيه تقديم أغانٍ ذات صيغة وطنية عامة، من دون التعرض لأعمالهم التي تحمل المضامين الثورية والصدامية مع السلطة.
على الجانب الآخر، أعتبر فريق أكثر راديكالية من الموسيقيين المستقلين أن الاندماج في منظومة السلطة أوالإنتاج الاستهلاكي خيانة إيديولوجية لمفهموم الفن المستقل، ودفعتهم الظروف السياسية وتراجع المد الثوري ثم انكساره بالكامل لاحقاً، أما للتمترس داخل قالب الموسيقى النضالية أو للانسحاب مرة أخرى الى دوائر جمهورهم النخبوي.
خاتمة
أفضى الانقسام العميق بين معسكرَي الموسيقى المستقلة حول الخطوط الإيديولوجية، وعودة محاصرة الفضاء العام بالكامل بعد "30 يونيو"، الى طمس أسئلة كانت وما زالت واجبة حول جماليات القالب الموسيقي وتجديده والاشتباك معه فنياً. كان ولاء الموسيقيين المصريين لمصطلح الموسيقى المستقلة على حساب الموسيقى البديلة، للإيديولوجي على الجمالي، ابن لحظتهم التاريخية التي ربما كان من المستحيل الفكاك من زخمها الاستثنائي. وكان عنواناً لضياع فرص من الظلم تحميلهم وحدهم أوزار تحطّمها على صخرة الوضع السياسي والمواريث الفنية الثقيلة. لكن اشتباك الموسيقى في صيغتها المستقلة أو البديلة في مصر، مع ثورتها، فتح آفاقاً جديدة لطرح أسئلة حول الجمالي والإيديولوجي في الفن ومعها في السياسة، وورّط موسيقييها في خبرات إنسانية وفنية فريدة يصعب محوها، وطرح وعوداً بأن مسارات الموسيقى البديلة في المستقبل لها أن ترتبط بحراك المجتمع إجمالاً في بحثه عن بدائل وتمرّده على الأمر الواقع.. الذي لا بدّ له أن يزول!
من ملف "سنة رابعة ثورة"