حتى أكثر خصوم المليشيات والأحزاب الإسلامية (الشيعية) الموالية لإيران، لم يكن يتوقع سقوطها بهذه الطريقة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2021. النتائج جاءت صادمة، والطريقة الكلاسيكية التي تتبعها تلك المليشيات والأحزاب قبيل كل انتخابات، لم تعمل هذه المرة. فالتأجيج الطائفي الذي سبق الانتخابات، والثغرات الأمنية التي فتحتها في المناطق المتوترة (بين السنة والشيعة)، والتلويح بعودة نشاط تنظيم داعش هناك، وتخويف "المؤمنين الشيعة" من عودة "التطرف السني"... لم يكن كافياً لملء صناديق الاقتراع بأصوات الراغبين ببقاء "الحشد الشعبي"، حتى يظلَّ حامياً للأعراض، ومدافعاً عن المقدسات كما يقال في كل مرة. فالمقاعد التي حصلت عليها تلك المليشيات مجتمعةً هي أقل من "تقبيطة كوستر" (كوستر: باص لنقل الركاب يتسع لـ 21 راكباً)، كما يحب العراقيون أن يسخروا ويشمتوا بضفة إيران الخاسرة.
ماذا تفعل إذاً تلك المليشيات؟ العنف، وإثارة الخوف، ومعاقبة الجمهور الذي تعتقد أنها تمثله، وتنتمي إليه، لكنه خذلها في أكثر المحافظات التي يفترض أن تفوز بها: النجف وكربلاء وبابل وذي قار والبصرة، وبقية مدن الجنوب (الشيعي) التي حصلت فيها الأحزاب المنبثقة من تظاهرات "تشرين 2019" على 15 مقعد (عدد مقاعد البرلمان العراقي 329 مقعداً)، وهو العدد ذاته الذي حصلت عليه تلك المليشيات والأحزاب التي قمعت التظاهرات، وقتلت رموزها، وما زالت تختطف عدداً منهم، وروَّجت أنهم عملاء و"جوكرية" ومدعومون من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والمخابرات الأجنبية.
لم تدخر تلك المليشيات جهداً في إعلانها رفض نتائج الانتخابات التي فاز بها التيار الصدري (شيعياً) وتحالف "تقدم وعزم" (سنياً)، أما بالنسبة للأكراد فلهم حساباتهم ووضعهم الثابت الذي لم يتأثر كثيراً بحسابات الربح والخسارة عندما تَجْردُ المكونات الطائفية والعرقية حساباتها في العملية السياسية عند كل انتخابات.
صرح مقتدى الصدر أن "هذا ما سيجر البلاد والعباد إلى الخطر من أجل بعض المقاعد، وهو ما يستدعي منا التأكيد على حصر السلاح بيد الدولة والعمل الجاد من أجل حل كل المليشيات المنفلتة والتي تسيئ استعمال السلاح بحجة المقاومة أو أي ذريعة أخرى".
جاء بداية إعلان صريح رافض جملةً وتفصيلاً لنتائج الانتخابات، واطلقت دعوة إلى إعادة العد والفرز بالطريقة اليدوية، ثم وبعد أن تأكد لتلك المليشيات أنها لن تحصل على شيء، بدأت تلوح برفض الانتخابات برمتها، والدعوة إلى إعادتها، بذريعة أنها مزورة، ونتائجها "تهدد السلم الأهلي".
حكايات الطرف الخاسر
الحكايات التي سردتها المليشيات الخاسرة عن تزوير الانتخابات من الغرابة بالمكان والزمان بحيث أن الاعتقاد بنزاهة الانتخابات أدعى للاطمئنان من تصديق تزويرها بهذه الطرق المضحكة، التي روج لها إعلام وممثلي تلك المليشيات، وهي سرديات ينطبق عليها القول: "حدث العاقل بما لا يعقل، فإن صدق فلا عقل له".
أشهر تلك السرديات هو أن مخترق/هاكر هندي صمم تطبيقاً لتزوير الانتخابات، وهذا التطبيق اشترته الأمم المتحدة وسلمته من خلال ممثلتها في العراق "جينين بلاسخارت" إلى المفوضية العليا للانتخابات، مقابل 250 ألف دولار. وهذا التطبيق هو من تسبب بخسارة المليشيات والأحزاب الولائية (الموالية لإيران).
سردية أخرى مشابهة، مع فرق جنسية الهاكر، الذي تروج وسائل إعلام تابعة لتلك المليشيات أنه من جنوب أفريقيا، وأسمه فريك، أعطته مفوضية الانتخابات 250 ألف دولار، لتصميم جهاز كمبيوتر خارج النظام الالكتروني (لا أحد يدري كيف)، وعلى هذا الكمبيوتر جرى تزوير الانتخابات.
جاء بداية على لسان الميليشيات المقربة من ايران، الإعلان الصريح الرافض جملةً وتفصيلاً لنتائجها، والدعوة إلى إعادة العد والفرز بالطريقة اليدوية. ثم وبعد أن تأكد لها أنها لن تحصل على شيء، بدأت تلوح برفض الانتخابات برمتها، والدعوة إلى إعادتها، بذريعة أنها مزورة، ونتائجها "تهدد السلم الأهلي".
وليد السهلاني، العضو في "تحالف الفتح"، له رواية أخرى، فقد صرح أن الهاكر الذي زوَّر الانتخابات العراقية هو باكستاني واسمه أمير إيريان، وأيضاً تقاضى مبلغاً قدره 250 ألف دولار لقاء تلاعبه ببيانات الناخبين. بينما ذهب محللون وشخصيات ولائية إلى اختراع أسماء لتطبيقات عجيبة غريبة، مثل تطبيق الدودة، والباب السري، وحصان طروادة، التي تُسرق من خلالها أصوات الناخبين، ويجري فيها التلاعب بأسرار أمن الدولة.
هذه الفرضيات والقصص المضحكة التي ما يزال حتى هذه اللحظة يروج لها الإعلام الولائي، تنتشر مع قصص أخرى عن اتهام الإمارات العربية المتحدة بتزوير الانتخابات. وفي مقابلة مع قناة UTV قال أحمد عبد السادة، وهو من أكثر المتحمسين الطائفيين، إن "فصائل المقاومة" ستستهدف الإمارات عسكرياً من الأراضي العراقية. وبحسب المعلومات التي قال إنها بحوزته، فإن الاستهداف سيتم بطائرات مسيرة مفخخة وصواريخ بالستية، على غرار ما تفعله جماعة الحوثي في قصف أهداف داخل الأراضي السعودية. وهدد أيضاً بأن تلك الفصائل ستلجأ للعمل المسلح بالداخل العراقي في حال لم تصغ مفوضية الانتخابات لاعتراضاتها بشأن النتائج.
الجرائم الطائفية
كل هذا حدث في الأيام الأولى بعد الانتخابات، ولم يمرَّ الأسبوع الثاني لإعلان النتائج حتى تصدرت الأحداث الطائفية المشهد العراقي: مسلحون من تنظيم داعش يهاجمون قرية الرشاد (الشيعية) في ديالى، ويقتلون أكثر من 11 شخصاً ويصيبون 13 آخرين. ثم مسلحون يتبعون لمليشيات شيعية يهاجمون قرية نهر الإمام (السنية) ويقتلون 8 أشخاص بينهم أطفال، ويحرقون بساتين ومنازل، وقد أجبروا سكان القرية على النزوح.
قبل هذه الأحداث الطائفية في ديالى وبعدها، تجري معركة غير معلنة بين المليشيات وجهاز المخابرات العراقي، الذي يديره ويسيطر عليه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. فخلال الأشهر القليلة الماضية اغتالت تلك المليشيات عدداً من ضباط المخابرات في بغداد وكربلاء وذي قار والبصرة.
العراق 2021: العيب
06-05-2021
في السابع من حزيران/يونيو 2021، حدث اشتباك في الشارع بين مجموعة مسلحة وشخص عادي يستقل مركبته الخاصة. قتل هذا الشخص ولاذت المجموعة المسلحة بالفرار ليتبين فيما بعد أن القتيل هو العقيد في المخابرات العراقية نبراس فرمان. وفي العزاء الذي نشره جهاز المخابرات الوطني العراقي، قال إن الجريمة هي "محاولة يائسة لثني الجهاز عن اداء واجبه الوطني". ولم يعلن الجهة المسؤولة عن الحادثة، مثلما في بقية عمليات الاغتيال التي حدثت لضباط مخابرات آخرين. وحوادث الاغتيال هذه تتواتر بطريقة شبه منظمة.
السلم الأهلي الذي كانت المليشيات والأحزاب الإسلامية الخاسرة تخشى عليه في الأيام الأولى للانتخابات، بدأت تلعنه فيما بعد. فعلى قناة "نواة" التابعة لمجموعة الإعلام الولائي، يقول إياد السماوي عند سؤاله عن خطورة الوضع القائم وتلويح المليشيات بالعمل المسلح: "أنعل أبو السلم الأهلي"، ويضيف أن المقاومة لن تسكت على هذه الانتخابات.
قبل الأحداث الطائفية في ديالى وبعدها، تجري معركة غير معلنة بين الميليشيات وجهاز المخابرات العراقي، الذي يديره ويسيطر عليه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. فخلال الأشهر القليلة الماضية اغتالت تلك المليشيات عدداً من ضباط المخابرات في بغداد وكربلاء وذي قار والبصرة.
التهديدات التي تملأ شاشات ومواقع وميديا الولائيين، لا يمكن إلا أن تؤخذ على محمل الجد. فهم خطرون ويمتلكون ما لا تمتلكه الأجهزة الأمنية الرسمية من معدات وسلاح ومقاتلين, وحين هدد قيس الخزعلي زعيم عصائب أهل الحق بمحاسبة رئيس الوزراء بعد أن حاول أنصار "الإطار التنسيقي" (الاسم السياسي لمجموعة المليشيات والأحزاب الإسلامية الخاسرة في الانتخابات) الدخول إلى المنطقة الخضراء، وحمّله المسؤولية عن منعهم من الدخول، قُصف منزل الكاظمي ليلاً بطائرات مسيرة مفخخة، وأعلنت الحكومة رسمياً، تعرض رئيس الوزراء لمحاولة اغتيال. وفي العراق لا يمتلك تلك الطائرات المسيرة المفخخة ويتفاخر على الملأ بأنه يمتلكها غير المليشيات الموالية لإيران.
فرق الموت
لم تقف المليشيات عند هذا الحد، وكان لا بدَّ من عقاب لجمهورها الذي تخلى عنها، فكان تفجير مدينة البصرة، الذي قتل فيه 16 مواطناً وأصيب العشرات ممن كانوا يقضون حوائجهم قرب المستشفى الجمهوري وسط المدينة. هذا التفجير هز المدينة الخائفة، التي لم تشهد مثل هذا الحدث منذ سنوات، ليس لأنها آمنة، بل لأن فرق الموت تحكم قبضتها على العاصمة الاقتصادية للعراق، وتقتل كل من يحاول أن يبدي رأياً مخالفاً.
قائد شرطة البصرة الأسبق عبد الجليل خلف، خرج بعد التفجير وتحدث عن وجود 40 فرقة موت في البصرة، تتبع لأحزاب إسلامية معروفة، تسيطر على المقدرات الاقتصادية للمحافظة، وتحكم قبضتها على المنافذ الحدودية، وتنشر الموت والخوف والمخدرات في كل البصرة.
ومما حكاه القائد الأسبق أنه تعرض لـ 17 محاولة اغتيال عندما كان يزاول مهامه قائداً للشرطة هناك. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء العراقي أعلن أن التفجير كان يستهدف ضابطاً رفيعاً في جهاز المخابرات يتولى التحقيق في اغتيال الصحافي أحمد عبد الصمد والمصور صفاء غالي، إلا أن مقتدى الصدر (الفائز في الانتخابات) وصف التفجير بأنه سياسي، وربط بينه وبين حوادث الاغتيالات والاعتداءات على المستشفيات قبل الانتخابات.
لعقاب جمهورها الذي تخلى عنها، كان تفجير مدينة البصرة، الذي قتل فيه 16 مواطناً وأصيب العشرات ممن كانوا يقضون حوائجهم قرب المستشفى الجمهوري وسط المدينة. هذا التفجير هز المدينة الخائفة، التي لم تشهد مثل هذا الحدث منذ سنوات، ليس لأنها آمنة، بل لأن فرق الموت تحكم قبضتها على العاصمة الاقتصادية للعراق.
قائد شرطة البصرة الأسبق عبد الجليل خلف، خرج بعد التفجير وتحدث عن وجود 40 فرقة موت في البصرة، تتبع لأحزاب إسلامية معروفة، تسيطر على المقدرات الاقتصادية للمحافظة، وتحكم قبضتها على المنافذ الحدودية، وتنشر الموت والخوف والمخدرات في كل البصرة.
الصدر الذي انبثقت عن تياره وميليشيا "جيش المهدي" التابعة له، أو انشقت عنها، أكثر تلك المليشيات عنفاً، مثل "عصائب أهل الحق"، يعرف خطورة الوضع في حال نشوب صراع مسلح: "هذا ما سيجر البلاد والعباد إلى الخطر من أجل بعض المقاعد، وهو ما يستدعي منا التأكيد على حصر السلاح بيد الدولة والعمل الجاد من أجل حل كل المليشيات المنفلتة والتي تسيئ استعمال السلاح بحجة المقاومة أو أي ذريعة أخرى".
البيت الشيعي المتصدع، والذي يشبه بيت الضرائر لم يتفق على فرضية استبعاد الاقتتال الشيعي –الشيعي. وفي بيت هادي العامري زعيم ميليشيا "منظمة بدر"، اجتمع الأخوة الخصوم (مقتدى الصدر، نوري المالكي، قيس الخزعلي، فالح الفياض، هادي العامري) لترتيب بيتهم، لكنهم خرجوا بخفي حنين، واللقاء دام 7 دقائق فقط، وأظهر استعداد الأخوة على الخلاف وتشبثهم به أكثر مما أُعلن للملأ من أن الأطراف (التي يمتلك كل طرف منها ميليشيا مسلحة) اتفقت على استبعاد (على الأقل) الاقتتال الشيعي الشيعي.